بعد سنوات طويلة من الثورة السورية ما يزال المجتمع السوري في مرحلة الانتظار والمشاهدة ويواجه تحديات كبيرة تحول دون انتقاله إلى مرحلة العمل الفعلي والمشاركة السياسية المؤثرة، رغم أن الصراع العسكري قد تمحور حول العديد من الجبهات فإن الصراع الأكبر كان في ميدان الإرادات والأفكار.
إن المرحلة الراهنة تتطلب من المجتمع السوري أن يأخذ زمام المبادرة بيديه، فلا يمكنه الاستمرار في الاعتماد على السلطة في تسيير شؤون الحياة اليومية.
وفي هذا السياق يصبح دور المجتمع المحلي أساسياً في إعادة ترتيب الأولويات وصياغة الحلول الناجعة بعيداً عن التدخلات التي قد تؤدي إلى تغول الدولة على الأدوار الحيوية للمجتمع المحلي، حيث يجب على الأفراد والمنظمات الأهلية أن تضع مصلحة الوطن والمجتمع فوق أي اعتبار آخر وأن تبادر للعمل المباشر مع توسيع دائرة المشاركة السياسية لضمان التغيير الفعلي.
بناء هياكل تمثيلية شعبية فاعلة (من القاعدة إلى الرأس)
من أبرز التحديات التي تواجه المجتمع السوري في مسار التغيير هو غياب الهياكل التمثيلية الشعبية الحقيقية التي تعبر عن إرادة المجتمع وتجمع آراءه، فبدلاً من انتظار الإشارات أو التوجيهات من الدولة أو من القوى الخارجية، لا بُد أن يكون المجتمع السوري هو المبادر في إبراز شخصيات وطنية ورموز شعبية تتمتع بشرعية حقيقية نابعة من ثقة الناس، ويجب أن تقوم هذه الهياكل على أسس مدنية وشفافة لتكون قادرة على التصدي للتحديات الحالية والمساهمة في بناء سوريا المستقبل على أسس من العدالة والمساواة.
إن استعادة زمام المبادرة هي مسؤولية جماعية ينبغي أن يتحملها الجميع من منظمات المجتمع الأهلي إلى الناشطين والأفراد، ولن يتحقق التغيير الجذري إلا من خلال تكاتف الجهود ووجود رؤية مشتركة تراعي مصالح الوطن والمجتمع بشكل متوازن بحيث تكون مصلحة الأفراد والمجتمع على رأس الأولويات.
من الخطوات الضرورية لتفعيل دور المجتمع المحلي إنشاء تجمعات شعبية على مستوى الأحياء والحارات، هذه التجمعات تلعب دوراً مهمّاً في تجسيد الهوية المحلية وتعزيز التواصل بين الأفراد، كما يمكن أن تكون قوة ضاغطة على الجهات الحكومية لتحقيق مطالب السكان وتلبية احتياجاتهم الأساسية.
ومن ناحية أخرى فإن إنشاء وتفعيل الجمعيات الأهلية التي تُعنى بتأمين الاحتياجات الأساسية للسكان من خلال إطلاق مبادرات خيرية محلية والانتقال من الأعمال الإغاثية الآنية إلى المشاريع المستدامة وتفعيل الوقف الأهلي الذي لطالما اشتهرت به سوريا عمومًا ودمشق خصوصاً.
علاوة على ذلك يمكن لهذه التجمعات أن تلعب دوراً محورياً في إدارة الأحياء وحمايتها سواء من خلال تنظيم دورات تدريبية للسكان في مجالات الأمن المجتمعي أو الخدمات اليومية مثل النظافة والمياه والكهرباء، هذه الخطوات تسهم بشكل كبير في تعزيز القدرة الذاتية للمجتمعات المحلية على التصدي للتحديات الاقتصادية والخدمية التي تعيشه وتستطيع من خلالها أن تسهم بشكل فعّال في الحد من تغوّل السلطة وتعزيز المشاركة في الحكم.
اختيار مختار ووجهاء الحي وشخصياته
لضمان نجاح هذه التجمعات الشعبية المحلية من المهم اختيار شخصيات تتمتع بتاريخ حافل من الخدمة المجتمعية ولديها القدرة على تمثيل الحي في أي استحقاقات وطنية والمساهمة الفعّالة في حل قضاياه، فيجب أن يكون اختيار المختار ووجهاء الحي عملية شفافة تعكس إرادة السكان وتطلعاتهم بعيداً عن أي تأثيرات سلطوية أو تدخلات خارجية، من الضروري أن يتسم هؤلاء الأشخاص بالكفاءة والنزاهة وأن يكونوا قادرين على اتخاذ قرارات تلبي مصالح السكان وتحقق تطلعاتهم.
إحياء النقاش السياسي وتوجيه الشباب
تفعيل النقاش السياسي داخل الأحياء أمر بالغ الأهمية لتعزيز الوعي السياسي في المجتمع، يجب أن تُنظم جلسات حوارية مفتوحة تدعو جميع أفراد المجتمع للمشاركة ما يتيح لهم فرصة التعبير عن آرائهم بشأن القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تؤثر في حياتهم اليومية، هذا النوع من النقاشات لا يسهم فقط في تعزيز الوعي السياسي بل يُمكّن المواطنين من المشاركة بشكل فعّال في الحياة العامة ويساعد في خلق بيئة مؤهلة للتغيير الفعلي.
في هذا السياق لا يمكن إغفال دور الشباب الذي يمثل القوة المحركة لأي تغيير اجتماعي أو سياسي، من الهام جداً أن يتم تشجيع الشباب على المشاركة في الحياة العامة وتنظيم أنفسهم في منظمات أهلية وتجمعات شعبية وأحزاب سياسية. الشباب هم المستقبل ومن خلال تمكينهم وتوجيههم بشكل صحيح سيكونون قادرين على لعب دور ريادي في إعادة بناء سوريا على أسس جديدة.
دعم الناشطين المحليين وإعلاء صوتهم
من الجوانب الأساسية لتفعيل المجتمع المحلي دعم الناشطين المحليين الذين يعملون في مجالات متعددة مثل حقوق الإنسان والتنمية المستدامة والتثقيف السياسي، إن دعم هؤلاء الناشطين وتوفير المنصات لإعلاء أصواتهم يمكن أن يعزز دور المجتمع في صياغة التوجهات السياسية والاجتماعية للبلاد، إذ يجب أن يسعى المجتمع المحلي إلى خلق بيئة آمنة تحترم الحريات لتبادل الأفكار والرؤى وتدعم الناشطين في مواجهة التحديات.
دور المرأة في تفعيل المجتمع المحلي وبناء المستقبل
إن تمكين المرأة ومنحها المساحة اللازمة للمشاركة في الحياة العامة يعد خطوة ضرورية لتحقيق التغيير المنشود، فيجب أن تتولى المرأة أدواراً قيادية في التجمعات الشعبية والجمعيات الأهلية وأن تكون جزءاً من عملية اتخاذ القرار على المستوى المحلي.
كذلك فإنّ دعم النساء في مجالات التعليم والتدريب المهني وريادة الأعمال يسهم في تعزيز استقلاليتهن الاقتصادية والاجتماعية بما ينعكس إيجابياً على المجتمع بأسره، بالإضافة إلى ذلك يُعد إشراك النساء في النقاشات السياسية والمجتمعية أمرًا حاسمًا لتعزيز العدالة والمساواة وبناء مجتمع أكثر شمولاً واستقراراً.
ختاماً، إن المجتمع السوري اليوم أمام فرصة تاريخية لإحداث التغيير والتحول من مرحلة الثورة إلى مرحلة البناء المستدام والتغيير الحقيقي، وتفعيل دور المجتمع المحلي يتطلب تحركاً جماعياً قوياً على مستوى الأحياء مع تعزيز قدرة الأفراد على المشاركة الفاعلة في الحياة السياسية والاجتماعية من خلال إنشاء هياكل تمثيلية شعبية حقيقية وإحياء النقاش السياسي ودعم المرأة والشباب والناشطين.
وبذلك يتمكن المجتمع السوري من المشاركة في بناء دولة قوية مستقلة عن التدخلات مع الحفاظ على حقوقه في وجه أي محاولات للتغول والتهميش بحيث يكون المجتمع هو الضابط والمراقب لعمل السلطة والدولة.
المصدر: تلفزيون سوريا