
مثلت تصورات واشتراطات المجتمع الدولي تجاه الإدارة الجديدة في سوريا بعد سقوط الأسد مخاوفه بخصوص ضرورة حماية حقوق الأقليات الإثنية والدينية والنساء، من خلال تمثيلهم في أجهزة السلطة الجديدة، مع ضمان الحريات الأساسية لعموم الناس، وذلك كله بما يضمن استقرار البلاد من أجل إعادة إدماجها ضمن النظام العالمي، بما يقتضيه إدماجها ضمن النظام العربي أولاً. وأخذت الردود السورية على هذه المقترحات تتشكل من خلال تجربة البلاد السابقة مع المشكلات الناجمة عن بنى كل من السياسة القائمة على المحسوبية والانحيازيات الطائفية الكبيرة في الفترة السابقة من جهة، ومن جهة أخرى تقديم التصورات والاشتراطات على السلطة الجديدة، مع نسيان الشرط الأهم لنجاح التجربة الجديدة، في بناء الدولة التي تساوي بين مواطنيها وتكفل لهم شروط العيش الكريم والحر، وهو بناء كتلة سياسية تمثل تلك المطالب وتدفع السلطة نحو تحقيقها وصونها.
تعاني سوريا من ظروف قاسية جداً ورثتها من سياسة نظام الأسد، حيث الدمار المنتشر في عموم البلاد الذي تصل كلفة إعادته لحوالي (250 -400) مليار دولار، كما لا يزال الملايين نازحين ومهجرين، إضافة لمستوى الدخل المنخفض جداً الذي يضع هؤلاء الناس في خانة الحاجة للمساعدات الإنسانية، ناهيك عن الجروح والصدوع الناجمة عن التوترات الطائفية وعدم معرفة مصير المفقودين والتخبط بمسألة التعامل مع المجرمين، ما بين التسامح وتطبيق العدالة. في هذا السياق، لا تطرح الحكومة الجديدة تصوراتها فقط، بل تبادر إلى البدء بتنفيذ سياستها الاقتصادية القائمة على الخصخصة وتحرير السوق بقصد التعافي الاقتصادي والتنمية، من دون مراعاة للظروف الاجتماعية والاقتصادية لعموم الناس، لا سيما الطبقات الأكثر ضعفًا في المجتمع التي تواجه ظروف معيشية صعبة، هذه الفئات التي تفتقد لتمثيل سياسي يعبر عن مصالحها في وجه السلطة بما يضمن نجاح أي عملية تنمية.
ومن المعروف أن المجتمع المدني لا يقتصر على المنظمات غير الحكومية المحلية والدولية بل يشمل الأحزاب السياسية والنقابات العمالية والجمعيات المهنية والنوادي الثقافية والجمعيات المحلية وغيرها، ومن ثم فهو يمثل العمود الأساسي في نجاح أي عملية تعاف وإعادة بناء في سوريا، مجتمع مدني قوي قادر على أن يكون ثقلًا موازنًا للسلطة، لا تنحصر مهمته في معارضة السلطة الجديدة، وإنما المساهمة في بناء مؤسسات الدولة وكبح التوجهات سواء السياسية أم الاقتصادية، كما يشكل بناء المجتمع المدني هذا ضرورة لتشجيع مشاركة قطاعات واسعة من المجتمع في إعادة الإعمار الاقتصادي، وبالتالي تعزيزا لفضاء الحريات الذي يعد شرطاً أساسياً لنجاح عملية التعافي وإعادة البناء، واقتصارها على النخب والفئات الأكثرية يمكن أن يخلق مناخاً من الاستياء يضعف حالة الدعم الشعبي للسلطة، ويوصل البلاد إلى فشل سياستها في إعادة البناء.
التحديات كبيرة أمام عملية البناء في سوريا، ولن يؤدي استفراد السلطة بالقرار وإجراء عملية إعادة إعمار لمصلحة النخبة (الخصخصة وقوانين الاستثمار المتسرعة)، إلا إلى إعادة إنتاج التفاوتات الاجتماعية والفقر
عانت سوريا في عهد الأسدين إعداماً ونفياً للسياسة بما تقتضيه من المشاركة الشعبية وتأسيس الأحزاب والمنظمات، لكن اليوم، فقد ولّت تلك المرحلة، وضمان عدم عودتها لا يتوقف على سياسة السلطة، فجميع السلطات تميل نحو احتكار القرار، بل تتطلب العمل الجدي على تشكيل المنظمات والأحزاب والجمعيات، التي تكبح التوجهات الاستبدادية. صحيح أن قانون تنظيم الأحزاب لم يصدر بعد، لكن مناخ الحرية متاح للعمل وبناء التجمعات والتأسيس لحياة سياسية فيزيائية، تتجاوز حالة الشللية وتجمعات النميمة على وسائل التواصل الاجتماعي، وتقديم خطاب وطني يدعم بناء الدولة يركز على التشاركية، فعملية إعادة البناء طويلة والتحديات كثيرة، توحيد الجغرافيا السورية تحت سيطرة الدولة، والعمل على بناء السلم الأهلي وتحقيق العدالة الممكنة وتحسين الظروف المعيشية.
ركّزت الأحزاب السياسية، بمختلف تياراتها في تاريخها السابق، على الأيديولوجيا (العقيدة) أكثر من السياسة، بما هي مساحة من التفاوض والصراع ، وصورّت عقيدتها بأنها الصواب الوحيد، تحتكر منطقة النور مقابل الظلام الذي يعيش فيه غيرها، أما المنظمات الشعبية، فكانت صدى لرأي السلطة الحاكمة ووسيلة ترويج لخطابه وتدعيم دوام حكمه، وينطبق الأمر نفسه على النقابات، وخاصة بعد أحداث الثمانينيات والموقف المشرف لنقابات المهندسين والمحامين والأطباء في دعم المطالب الشعبية في الحصول على الحرية، حيث حولها النظام إلى جهات تابعة له وخاضعة لإشرافه (مكتب المنظمات والنقابات المهنية في فروع الحزب والمخابرات)، كل هذا حوّل السياسة والعمل السياسي إلى ميدان قتل وإخفاء، حيث قضى الآلاف فترات طويلة في السجون ومات مثلهم، وأخفي منهم أكثر.
اليوم، في ظل مناخ الحريات المتاح، لا بد من مراجعة التجربة بعقل نقدي أولاً، بمعنى دفن كل أوجه القصور فيها، والانتقال إلى بناء وتشكيل أحزاب وفق برامج سياسية تعكس مطالب عموم الناس في الحصول على حياة حرة كريمة، كما تركز على بناء هوية وطنية تدعم بناء الدولة الجديدة، بمعنى الانتقال من حالة النخبوية المزعومة إلى حالة التشاركية، من خلال تعميق روح الديمقراطية في حياتها والشفافية مع الجمهور ومناقشة القضايا العالقة بكل صراحة. تشكل النقابات المستقلة إحدى أهم روافد الحياة السياسية في البلاد من خلال توسيع مجال مساحات المشاركة السياسية وضمان الحريات العامة، إضافة لدورها في الدفاع عن قاعدتها المهنية، وبالتالي تتحول إلى لاعبٍ سياسي مهم يمكن أن يلعب دوراً في تحريك الشارع، وتحضير رأي عام مناصر للحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
التحديات كبيرة أمام عملية البناء في سوريا، ولن يؤدي استفراد السلطة بالقرار وإجراء عملية إعادة إعمار لمصلحة النخبة (الخصخصة وقوانين الاستثمار المتسرعة)، إلا إلى إعادة إنتاج التفاوتات الاجتماعية والفقر، وتركيز الثروة في أيدي أقلية وغياب التنمية الحقيقية، وكذلك الأمر بما يخص قضايا العدالة التي تحمل في شكلها الحالي بعد اقتصادي اجتماعي، تشجع من جهة أخرى على عمليات الانتقام الفردي، ولا يمكن الحد أو كبح هذا الاستفراد إلا من خلال وجود مجتمع مدني بما يشمل الأحزاب السياسية، وهو ميدان العمل لليوم والمستقبل، فصحيح أن الحياة السياسية مقفرة، إلا أن هناك بوادر أمل في إعادة إحيائها، خاصة أن الحرية متاحة، وأن الحقوق لا تمنَح، بل لا بد من قوى تطالب بها وتناضل من أجلها.
المصدر: تلفزيون سوريا