نظراً إلى الموقع الإشكالي الذي وجد السوريون العلويون أنفسهم فيه، خلال العقود الخمسة المنصرمة من تاريخ بلدهم، من حيث استيعابهم علاقتهم بسلطة الأسد، واستيعاب الآخرين لهذه العلاقة، يمكن أخذ حالتهم بوصفها أحد المعايير أو المشعرات الدالّة على حالة النظام السياسي في البلد.
لا تنبع الإشكالية في تجربة السوريين العلويين خلال فترة حكم طغمة الأسد من وصول أحد أبنائهم (حافظ الأسد) لأول مرة إلى أعلى مركز في الدولة، وما يمكن لهذا أن يعطيهم شيئاً من الاعتبار، وأن يعطيهم شعوراً بالأمان الجماعي طالما افتقدوه، بل تنبع من تمكّن الأسد من السيطرة التامة على جهاز الدولة، ومن إعادة هيكلة الدولة حوله بوصفه حجر الزاوية في النظام. هكذا بات حفاظ العلويين على شعورهم بالأمان يتطلّب منهم (الكلام هنا عن الجماعة وليس عن نسبة منها استجرت من السلطة والثروة ما استجرت) التبعية لنظام طغمة مستبدّة. ينطبق ذلك على جماعات دينية أخرى، مثل المسيحيين الذين لم يكن موقفهم العام مرحّباً بمحاولات تغيير نظام الأسد، ولا تختلف قصة المعارضين منهم لنظام الأسد عن قصة المعارضين العلويين، ما يؤكّد أن هذه المواقف سياسية في أساسها، وأن “طائفيّتها” تأتي من طائفية الإسلاميين الذين كانوا دائماً البديل الراجح في سورية.
كانت بين العلويين نسبة كبيرة، قد تكون هي النسبة الغالبة، تنتقد نظام الأسد بدرجاتٍ متفاوتة، وتشير إلى الفساد والواسطة والتشبيح والتمييز والقمع… إلخ، ولكن هذا النقد توقف دائماً عند حد عدم التغيّر، الحد الذي نادراً ما تجاوزه العلويون في “معارضتهم” النظام. كان لدى العلويين تهيّب وخشية من تغير النظام مهما انحطّ حالهم المعيشي والمعنوي في ظله، لأن ما يخشون خسارته في العمق هو شعورهم بالأمان الجماعي الذي يعانون اليوم من خسارته. هذا ما يفسّر أن تجد عائلة علوية تعلق صورة حافظ الأسد على الحائط فيما يقبع ابنها المعارض في سجونه. وهذا ما يفسّر أيضاً تحفّظ معارضين علويين كثيرين ممن قضوا سنوات في السجون، حين بدا تهديد النظام جدّياً بعد 2011. يمكن الاستطراد بالقول إن العلويين لم يكونوا ليؤيدوا تغييراً لنظام الأسد إلا إذا جاء على يد علويين، بما لا يفقدهم الشعور بالأمان.
يتعامل إسلاميون كثيرون، وبينهم قادة ميدانيون كما يبدو، مع العلويين بوصفهم “بيئة حاضنة” للنظام السابق
في تصوّرنا المبني على متابعاتٍ مختلفة وعلى تواصل شخصي، لا تزيد اليوم نسبة العلويين غير القلقين وغير الخائفين من سيطرة الإسلاميين على مقاليد الحكم في سورية عن نسبة العلويين الذين كانوا يعارضون نظام الأسد، ويعملون على تغييره. هذا يقول إن حال النظام السياسي السابق، كما حال مقدّمات النظام السياسي الذي يتشكّل، غير سليمة. في الحالتين، هناك ارتكاس غير طبيعي من هذه الجماعة على الظرف السياسي القائم. لا معنى للوم الجماعة على ما تشعر به، المعنى يكون في فهم العناصر التي تولّد الشعور وتديمه، حتى وإن كان موهوماً. ورغم حداثة عهد الوضع السياسي الجديد، الواضح أن العناصر التي تثير قلق العلويين لا تتراجع، بل تزيد بالأحرى.
من الناحية الأمنية، وهي الناحية الأكثر أهمية في حياة الناس، يبدو أن حال العلويين انتقل من الشعور بالأمان الجماعي في ظل نظام الأسد، فقد كانوا مطمئنين إلى أن النظام السياسي، بصرف النظر عن كل عيوبه، لن يرتدّ أمنياً ضدهم كجماعة، إلى انعدام الشعور بالأمان الجماعي في ظل بوادر صريحة لنظام إسلامي يخالونه خطراً عليهم كجماعة، يصل القلق ببعضهم إلى حد اعتباره “وجودياً”. طالما كان الإسلاميون الذين باتوا أهل السلطة مصدر خوف رئيسياً في وعي غالبية العلويين، ليس فقط لأن الإسلاميين يصمون العلويين وغيرهم بأنهم منحرفون عن الدين الحنيف، وما يترتّب على ذلك من تبعات سياسية وحقوقية، بل أيضاً، والأهم، لأنهم يحمّلون العلويين، في مجملهم، وزر سياسات النظام وجرائمه، ما يهدّد أمنهم ويجعلهم تحت حكم نظام يُضمر لهم مشاعر عدائية.
في المجريات اليومية لملاحقة “فلول النظام”، يتعامل إسلاميون كثيرون، وبينهم قادة ميدانيون كما يبدو، مع العلويين بوصفهم “بيئة حاضنة” للنظام السابق، ويُدخلون هذه البيئة على أنها مهزومة، أي يدخلونها لا بوصفهم محرّرين ولا فاتحين، كما تقول لغتهم، بل بوصفهم منتصرين، كما تقول أفعالهم. منتصرون ضد جماعة مذهبية “منحرفة” يحمّلونها بكاملها ووحدها مسؤولية السياسة الإجرامية للنظام السابق.
ليست السلطات هي التي تشق طريق الوطنية، بل التضامن الوطني العام والشجاع ضد أي ظلم، هذا هو السبيل الوحيد لبناء وطن
القناعة التي تجد لها مستقرّاً في عقول كثيرين، وتشكّل منطلقاً للانتهاكات ولضياع الرؤية، تقوم على اختزالات ضالّة ولكنها مريحة وتدغدغ متعة التأثيم العام للآخرين، وترضي رغبة الوصم المبطنة بالشر. الاختزال الأول هو اختزال نظام سياسي متعدد نقاط الارتكاز، في بعده الأمني، ثم اختزال البعد الأمني بسيطرة عناصر من البيئة المذهبية لرأس النظام، ثم اختزال هذه البيئة كاملة بهؤلاء العناصر. ينتج عن هذه الاختزالات أن الحرب ضد نظام سياسي سيطر على سورية لمدة تزيد عن نصف قرن، ووجد له مرتكزات في كل البيئات الاجتماعية السورية، هي حرب ضد جماعة مذهبية محددة.
غاب شعور التضامن الوطني لدى العلويين إزاء الجرائم الفظيعة التي ارتُكبت بحقّ البيئات المعارضة، وراء الخوف من سقوط نظام الأسد وما قد يجره عليهم من تبعات (يرى كثيرون اليوم أن ذلك الخوف كان مبرّراً)، مخدرين ضمائرهم بأنهم يقفون مع “الدولة والجيش”، وتظهر اليوم بوادر غياب شعور التضامن الوطني تجاه ممارسات فصائلية مهينة وظالمة بحق العلويين وتجاه العمل على تحويل الجماعة إلى أضحية، وذلك وراء مشاعر عدائية تستند إلى اختزالات ضالة، وإلى تخدير الضمير بالكلام عن “محاربة فلول النظام”. الخاسر في الحالتين هو السوريون جملةً، بمن فيهم من يُبدّون مشاعرهم الأنانية على الشعور الوطني العام. جدير بالعلويين أن يتأملوا الدرس، وجدير بالسوريين كلهم أن يتأملوا الدرس العلوي أيضاً. ليست السلطات هي التي تشق طريق الوطنية، بل التضامن الوطني العام والشجاع ضد أي ظلم، هذا هو السبيل الوحيد لبناء وطن، والسبيل الوحيد لشعور الأفراد والجماعات بالأمان.
المصدر: العربي الجديد