الضفّة الغربية إلى منعطف أخطر

أسامة عثمان

بعد البدء بتنفيذ صفقة تبادل الأسرى، ووقف إطلاق النار في قطاع غزّة بين حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وفصائل المقاومة، من جهة، وحكومة الاحتلال، من جهة أخرى، شهدت الضفة الغربية تصعيداً خطيراً، وتوسَّعت اعتداءاتُ المستوطنين القائمة على الإرهاب والتخريب، وتعطيل حياة الفلسطينيين اليومية، وتهديد مستقبلهم، ومحاولة فرْض الوجود الاستيطاني على مناطق أوسع في الضفّة الغربية والشوارع الموصلة بين المدن والقرى الفلسطينية، إذ بعد أن كانوا نهَجوا هذا النهج في محاور سابقة، كما بلدة حوارة جنوبي نابلس، صِرنا نرى الأفعال نفسها في رام الله، أو ضواحيها، وأخيراً في منطقة قلقيلية، أو قراها، تحديداً، بذريعة عملية ردّات الفعل على إطلاق النار على حافلة للمستوطنين، قرب بلدة الفندق، شرقي قلقيلية، ومقتل مستوطنين، وإصابة آخرين، أوائل يناير/ كانون الثاني الجاري، مع أن مثل هذه الاعتداءات الواسعة لا تصدُر عن مستوطنين أفراد، بقدر ما هي نتاج عملٍ مدبَّر ومُعَدّ، من منظَّمات إرهابية تتبع المستوطنين، وتعلم بنشاطاتها، وقادتها، حكومة الاحتلال، بل هي تحظى، علناً، بدعم وزراء في حكومة رئيس تلك الحكومة، الاحتلالية، المأزومة، بنيامين نتنياهو، كما سبق أن بارَك عمليات قتل نفَّذها فتيةٌ من المستوطنين، المنتمين إلى من يُعرَفون “شبيبة التلال” حاخاماتٌ كبار، أمثال حاخام مدينة صفد المعروف بمواقفه العنصرية المتطرِّفة، شموئيل إلياهو، والذي وجّه في أحد دروسه الدينية التي نشرت صحيفة يسرائيل هيوم مقاطع منها، إصبع الاتهام إلى أفراد الشرطة واتهمهم بالانتقائية، وطالب بإقالتهم ومحاسبة من أعطاهم الأوامر، مقابل مطالبته بالانحناء احتراماً أمام ظاهرة “شبيبة التلال”. وفي غير مرّة نقلت الصحافة الإسرائيلية استياء قادة كبار في الشرطة، الإسرائيلية، ممَّن تذمّروا وانتقدوا بشدَّة غياب الدعم العلني والصريح من المستوى السياسي لأفراد الشرطة الذين كانوا يحاولون ضبط هياج المستوطنين وانفلاتهم.

هذه الخطط الإسرائيلية الخطيرة لا خفاء فيها، ولا جدال في تحققها، وإن كان النقاش على شرعيّتها، بين قادة الاحتلال الذين يصرُّون أنها تمثِّل حقَّهم في الاستيطان فيما يسمُّونها “أرض إسرائيل” والمواقف الدولية ممثلة في أعلى هيئة تمثل القانون الدولي، الأمم المتحدة، وأمينها العام، أنطونيو غوتيريس، الذي قال، الاثنين الفائت، (20 يناير/ كانون الثاني)، إن أيَّ ضمٍّ كُلِّي، أو جزئي، للضفة الغربية من إسرائيل سيكون “انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي”، معرباً عن قلقه إزاء “مواصلة تفاقم الوضع” في الضفة الغربية في ظلّ اشتباكات وغارات جوّية متواصلة، و”توسّع المستوطنات غير الشرعية بلا هوادة” من الإسرائيليين، وفق ما نقلت “فرانس برس”.

تزامنت اعتداءات المستوطنين مع إلغاء ترامب، بمجرّد تنصيبه، أمراً تنفيذياً أصدره سلفُه بايدن كان يسمح بفرْض عقوبات على الأفراد الذين يقوِّضون جهود السلام في الضفة الغربية المحتلة

وتنسجم هذه التطورات على الأرض مع توجُّهات معلنة لوزراء في حكومة نتنياهو تهدف إلى نقْل سيطرة جيش الاحتلال، بوصفه أداة الاحتلال العسكري المؤقَّت، وَفْق محكمة العدل العليا في دولة الاحتلال إلى إدارة مدنية دائمة، يديرها موظَّفون حكوميون إسرائيليون، وكانت صحيفة نيويورك تايمز علّقت على الخطاب الذي أدلى به، وزير المالية الإسرائيلي، بتسلئيل سموتريتش في 9 يونيو/ حزيران، من العام الفائت، أمام تجمُّع بالضفة الغربية، وقال فيها: “الهدف يتمثَّل في منْع أن تصبح الضفة الغربية جزءاً من دولة فلسطينية، وفقاً لتسجيل صوتي حصلت عليه الصحيفة الأميركية”. وأضاف سموتريتش للمستوطنين: “أقول لكم، الأمر مثير بشكل هائل. هذه التغييرات ستغيِّر الحمض النووي لأيِّ نظام”. علَّقت الصحيفة: الخطاب الذي أدلى به سموتريتش قد يصعِّب الحفاظ على الوضع (السابق للضفّة الغربية)، إذ تحدَّث عن برنامج مصمَّم بعناية لنقل إدارة الضفة الغربية من الجيش إلى موظَّفين مدنيِّين يعملون لدى سموتريتش، عبْر وزارة الدفاع.

وكان عشرات المستوطنين قد شنّوا هجوماً واسعاً على قرى فلسطينية في شرق قلقيلية، شمالي الضفة الغربية، تخلَّله إحراق منازل وممتلكات، فيما وصلت قوات الاحتلال إلى المنطقة، وأطلقت النار على الفلسطينيين الذين حاولوا التصدّي للهجوم. وأصيب في هذه الاعتداءات الإرهابية 21 مواطناً، وَفق الهلال الأحمر الفلسطيني. وتزامنت هذه الاعتداءات مع إلغاء الرئيس الأميركي دونالد ترامب، بمجرّد تنصيبه، أمراً تنفيذياً أصدره سلفُه جو بايدن كان يسمح بفرْض عقوبات على الأفراد الذين يقوِّضون جهود السلام في الضفة الغربية المحتلة. ولا يُستبعد أن يكون هذا التطوّر ترجمة فعلية لتعهد نتنياهو أمام معارضي الصفقة من الوزراء المتطرِّفين في حكومته، ومن قواعدهم الاستيطانية، بتعويض تلك “التنازلات” التي اضطرّ إليها في غزّة، بـ “مكاسب” إضافية في الضفة الغربية.

هذا وتشهد المناطق المصنَّفة ج، في الضفة الغربية والتي تشغل قرابة الـ 60% من مساحتها، ترسيخاً ملحوظاً لسيادة الاحتلال، وتضييقاً كبيراً على حياة الفلسطينيين ونشاطاتهم المعيشية، سواء في مجالات التوسُّع العمراني الضروري، أو في فلاحة أراضيهم، بما يلزمه من استصلاح الأراضي، أو إقامة منشآت زراعية، وما شاكل.

الاعتداءات الواسعة لا تصدُر عن مستوطنين أفراد، بقدر ما هي نتاج عملٍ مدبَّر ومُعَدّ، من منظَّمات إرهابية تتبع المستوطنين

ولا تقتصر أضرار هذه السياسة التي تتداخل فيها أذرع الحكومة والجيش والمستوطنين على الفلسطينيين في الرِّيف الفلسطيني، بل تمتد لتطاول احتياجات الفلسطينيين الحيوية، والملحّة، في المدن الخاضعة لإدارة السلطة الفلسطينية، والمصنَّفة ” أ” حيث يرزح مئات الألوف من سكَّانها تحت وطأة القلق والترقُّب الدائم لحالة الطرق التي صار السفر عبرها، لتلقِّي العلاج، في المدن الأكبر، أو لنقل البضائع، سبباً للعذاب والمجازفة بالأرواح والممتلكات، وهدراً للأوقات الطويلة، في انتظار فتح الحواجز التي يقيمها جيش الاحتلال، ويتحكَّم فيها، في أيّ لحظة في حركة السير، ويخنق الآلاف خلفها، يمنعهم من الخروج منها، أو يمنعهم من الدخول إلى مدنهم، أو قراهم، بعد أن يكونوا شارفوا على مداخلها التي جعلتها قوات الاحتلال سجوناً كبيرة، ببوَّابات تفتح أو تغلق، وفق مزاج الاحتلال، وترتيباته غير المحزورة.

ولا يخفى أن أوَّل ما يتبادر إلى الذهن من تداعيات هذه الحالة، لو استمرّت، أو تفاقمت، هو التهجير، بنزْع شروط الحياة الممكنة، وذلك بزيادة الضغط الاقتصادي والنفسي، وهذا الهدف لا يتعارض مع الهدف المعلن وهو فرْض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية، بل إنه يخدمه، ويتساوق معه. ومع أن الفلسطينيين أُصَلاء في أرضهم وبلادهم، وأنهم لا يعدمون الوسائل، ولا الصبر، وطول النَّفَس، في الاستمرار بالوجود والتحقُّق الطبيعي، لكننا لا نملك أن نهوِّن من اختلال المعادلة، ماديّاً، لصالح الاحتلال، حيث يتوفَّر الدعم المنظَّم والمدروس، ويتحقق الغطاء الأميركي.

ونحتاج إلى استنباط دلائل غائبة، تعكس الموقف الأميركي المتوارَث، وإنْ بدرجات متفاوتة، بين إدارة وأخرى، ذلك الموقف الذي أقلُّ ما يقال فيه إنه لا ينجح في كبْح التطورات الاستيطانية والاحتلالية على الأرض، وهو أي الموقف الأميركي في أسوأ حالاته، كما فعل الرئيس العتيد ترامب، يرسل إشارات صريحة أنْ لا مؤاخذة ولا قيود أمام ما يرتكبه المستوطنون، أو ما يعزمون على التمادي فيه. وفيما تراكم حكومة الاحتلال وقادة المستوطنين، ولا فرق، الزخم السياسي والتعبوي اللازم والمتواصل، لا نلحظ خططاً صالحة تقابل هذه الوقائع التي تُفرَض، والأموال التي تُضخّ، لتكثير المستوطنين في الضفة، والحماية التي تغطِّي إرهابيِّيهم، مقابل تجريد الفلسطينيين من أدوات المقاومة، أو حتى الدفاع المشروع عن النَّفْس.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى