من الطبيعي بعد تغيير أي نظام حكم، إن بطريقة سلمية أو عن طريق العنف، أن يتحوّل داعمون للنظام السابق بسرعة قياسية إلى داعمين للنظام الجديد لأسباب متعدّدة ومتشابكة. ومن النادر أن ينتقل هؤلاء، الذين كانوا خاضعين للنظام السابق ومتعاونين معه، إلى ضفة معارضة سياسية أو عسكرية مناوئة للحكم الجديد، لأن ارتباطهم بالذي سبقه كان مبنيًاً على انتهازية وخضوع، ولا تجمعهم معه أية مبادئ أو عقيدة. خصوصًا إن كان النظام الذي سقط قائماً على الاستبداد والترهيب والفساد الممنهج. ومن الأمور المستغربة نظرياً والمكرّرة عمليا، أن يقبل الحكم الجديد وشخوصه بأن يتقرّب منهم أزلام الحكم السابق. والحكمة، إن جاز التعبير، في ذلك والتي يعتمدها أصحاب السلطة الجدد، تقوم على أنه من الممكن بسهولة، وبأبخس الأثمان، أن يكون هؤلاء متمكنين من ممارسة الاستزلام عن خبرة، وبالتالي، فهم متعاونون من دون إحداث ضجيج من نوع ابداء الرأي أو النقاش في ما يقرره الحكم الجديد. هم مستعبدون سابقون لنظام سابق وكانوا يطبلون له ويزمّرون. ولن يجدوا أي صعوبة بتحولٍ إلى التطبيل والتزمير للنظام الجديد. خصوصا منهم من “ليست يداه ملطّخة بالدم”. جرائمهم تبقى في حدود الجرائم الأخلاقية، الفساد، التهريب. يُضاف إلى ذلك كله خبراتهم في التملق والمحاباة ومعرفة النظام الجديد بأن لهم تسعيرة واضحة يمكن شراؤهم وبيعهم من خلالها إضافة إلى ضعف في نفسياتهم وميلهم إلى الخضوع للقوي واستغلال قربهم منه لتحسين أوضاعهم وأوضاع من يقتات من فتاتهم.
ومن أهم عوامل التغيير مسألة التكيف مع الواقع السياسي الجديد والحفاظ على موقع ومنصب ضمن النظام الجديد من خلال تبنّي مواقف تتماشى مع توجّهاته، حتى لو تعارضت مع مواقفهم السابقة. هذا التكيف يمكن أن يكون محاولة لضمان الاستمرار في المشهد السياسي أو لتجنب الإقصاء أو العقوبات. كما يمكن ان تلعب التأثيرات الخارجية والضغوط دورها في صنع هذا التحوّل. حيث إن تغيير النظام غالباً ما يكون مصحوباً بتغير في التحالفات الدولية أو بمزيج من الضغوط الإقليمية والمحلية. وقد يحصل أحياناً، وإن كان الأمر من الندرة أنه لا يذكر، بأن بعض الأشخاص قد يضطرّون لإعادة تقييم مواقفهم بما يتماشى مع التوجهات الجديدة للحكم الجديد. ولكن غالباً ما تلعب المصالح الشخصية الدور الأهم. حيث تتقدّم لديهم ليكون موقعها فوق القيم والمبادئ، ما يجعلهم مستعدّين لتغيير مواقفهم للحفاظ على النفوذ أو الامتيازات. والخبثاء منهم، أو الذين يُسمّون باللغة المعاصرة أذكياءً، فيبرّرون تغيير مواقفهم بالتكيّف مع “مصلحة الوطن” أو “متطلبات المرحلة”، ما يمنحهم غطاءً أيديولوجيًا للتحوّل. كما من الممكن ان يتم تصوير التغيير على أنه “تطور فكري” قد عمل عليه المعني به ليصل الى نتيجة مؤداها ان دعم الحكم الجديد والخضوع له والعمل لديه مناسب للتطور الفكري الواقع. ويلعب الخوف من القمع والعنف الذي يمكن ان يمارس بحق هذه النوعية من الناس دوره في قلب مواقفهم رأساً على عقب وتبني شعار “من يتزوّج أمي أنادِه عمّي”. ويحدُث ذلك خصوصاً مع الأنظمة التي تعتمد القمع والعنف كأدوات استدامة للحكم. على المدى البعيد، يمكن أن تؤدي مثل هذه التحولات إلى انقسامات سياسية وضعف الاستقرار السياسي.
نماذج وقعت في الماضي القريب وتكرار وقوعها صار من الأمور البديهية في علم السياسة
بعد انهيار الاتحاد السوفييتي سنة 1991، عدد من السياسيين الذين كانوا جزءاً من النظام الشيوعي السابق تبنّوا مواقف مؤيدة للرأسمالية والديمقراطية. وبعد سقوط نظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا سنة 1994، كثير من الشخصيات التي كانت داعمة للسياسات العنصرية انتقلت إلى دعم الوضع الجديد بقيادة نيلسون مانديلا وحزب المؤتمر الوطني الأفريقي. وقد ادّعوا أنهم، وعبر هذا الموقف المستجد، يسعون لدعم الوحدة الوطنية. وفي عراق ما بعد صدّام حسين، تحوّل عديد من البعثيين إلى تأييد النظام الجديد. كما أن شخصيات سياسية بارزة أعادت تكييف مواقفها للعمل مع النظام الجديد الذي تشكل تحت الاحتلال الأميركي. وفي مصر، وبعد سقوط نظام حسني مبارك في عام 2011، تغيّرت مواقف عديدين من السياسيين والإعلاميين الذين كانوا يدعمون النظام بقوة. وهناك مئات الأمثلة على تحوّل مواقف الإعلام المصري مثلاً من تأييد النظام القديم إلى تأييد القوى الثورية أو السلطات الجديدة، ثم العودة إلى تأييد النظام الجديد / القديم بعد 2013. وفي تونس، وفي سنة 2011، عدد كبير من أعضاء النظام السابق الذي كان برئاسة زين العابدين بن علي، أعادوا تشكيل مواقفهم وانضموا إلى الساحة السياسية الجديدة أو قدموا أنفسهم كإصلاحيين.
كلها نماذج وقعت في الماضي القريب وتكرار وقوعها صار من الأمور البديهية في علم السياسة. يبقى هناك فارق لا يستهان به بقبول هذه التقلبات من قبل المنظومة الحاكمة الجديدة. فإن كانت تستبدل استبدادا باستبداد، فهي ستُسعد بضم أسوأ هؤلاء المنقلبين. أما إن كانت مؤمنة بأنها موجودة لخدمة الشعب وليس لإعادة إنتاج الاستبداد، فعليها حينئذ أن تكون حذرة بقبول هذه الفئات ضمن مؤسساتها. وخصوصاً أنها ليست مالكة لمفاتيح الحياة السياسية، بل هي عابرة فيها.
المصدر: العربي الجديد
بعد تغيير أي نظام حكم، إن بطريقة سلمية أو عن طريق العنف، لماذا يتحوّل داعمون النظام السابق بسرعة قياسية إلى داعمين للنظام الجديد؟ لماذا التكويع ؟قراءة موضوعية ودقيقة عن الرماديين والساعيين للمصلحة أي “من يأخذ أمي أناديه يا عمي”..