جلب العام 2024 في أواخره فرحاً عظيماً تداوله السوريون في ما بينهم، وكأنه نعمةٌ تامّة الأركان، وهو على أيّ حال مشاع مبهج يخصّ الجميع، تداوله السوريون في ما بينهم بالتساوي، من دون أن تنقطع هواجسهم وهي تختبر الأداء السياسي للإدارة الانتقالية في بلادهم، وتعاينه بصورة يومية. إذ ثمّة لون واحد يسود التعيينات الرسمية في المناصب العامّة، وهو سلوك سياسيّ يحرص قائد الإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع على تثبيته، حتى لو كان لا يلقى قبولاً من مكوّنات الطيف السياسي كلّها في سورية.
وقد جعل هذا المسلك القلق العام يستبدّ تدريجياً بالمزاج الشعبي، وهو إن شئنا قلق مُشرَعن يكفي أن نشعره قبل أن نبرّره، إذ جاء وكأنّ فيه اختزالاً لمسيرة الثورة السورية الطويلة (2011 – 2024)، بسلطة سياسية ناشئة ذات تركيبة ضيّقة، وقد آثرت أن تجعل أبوابها مغلقةً في وجه الراغبين الجدد بالانتساب إليها، ويبدو أيضاً أن أحمد الشرع معنيٌّ بتقديم سياسته الداخلية في إدارة سورية من دون محاصصة طائفية في توزيع المناصب، وشَغلْ المراكز الحكومية والرسمية كما كان يدأب النظام السابق، وهذا تجديد يتجاوز بمفرداته أعرافاً سياسية سالفة، والشرع يريد هذا بثبات لا نعرف مصدره، لكنّه ثباتٌ قائمٌ ويسهل إدراكه، إذ سيسود معيارُ الكفاءة بلا الركون إلى نسبها الطائفي أو الإثني. على الأقلّ، هذا ما فهمناه من تصريحات الشرع العلنية، وهذا سيجعل القيادات الدينية والعشائرية تشعر بالتهميش المتزايد لها، بعدما كانت معتادةً على أن يدسَّ النظام البائد المكاسبَ والامتيازات بيدها، الأمر الذي جعلها تتحوّل بنيةً اجتماعيةً متفوّقةً على ما دونها بتلك المكتسبات، التي كان بعضها مادّياً ملموساً، والآخر حسيّاً فيه اختزالٌ للسلطة أتاح مراراً الاستقواء بها، وهذا من المساقات العديدة التي أدّت إلى استفحال تهميش المجتمع السوري، وعزله داخل فضاءٍ عامّ لا سياسةَ فيه.
تدثّر الحكومة السورية المؤقّتة بانتصاريها السياسي والعسكري، فتقرّر ما يتجاوز صلاحياتها المحدودة بتسيير الشأن العام ثلاثة أشهر
في المقابل، كان النظام الساقط يعزّز سلطة ذاك الإقطاع السياسي المتمثّل بالقيادات العائلية والعشائرية، وحتى الدينيّة، لدى الأقليات غير السُنّية، ولدى المسيحيين أيضاً، حين كان يتيح لهم توارثَ تلك المكاسب الحميمة داخل مكوّناتهم المتحالفة معه، وربّما هذا تسبّب بأن يتعامل الإقطاع السياسي بالجفاء والتشكيك بمشروعيّة سلطة الإدارة الجديدة لسورية، ولسان حال هذه الإدارة يقول لا محاصصة طائفية وإثنية داخل السلطة كما كان العُرف الدارج أيام نظام الأسد، الأمر الذي يدفع بالتباينات السياسية في سورية إلى امتحان هذا الطرح الجديد، والسماح بأن تُمتحن بهذا الطرح الجديد أيضاً، فسورية التي تجري مناقشتها في هذه الأيّام، هي سورية التي لا تحتمي بأمزجة طائفية أو إثنية متكدّرة، ومسكونة بهواجس الانغلاق على نفسها، والخوف من الأكثرية السُنّية، التي باتت منتصرةً سياسياً بعد إنهاء سلطة النظام السابق، وهي الأكثريّة التي دفعت بمفردها الكُلفة الباهظة لتحرير سورية، وتلك الكُلفة تخصّ ما لَحِقَ بالسُنّة في سورية من قتل ممنهج، وتدمير لمدنهم الكُبرى، وتهجيرٍ لناسها، لكن ومع ذلك، تحاول “السُنّية السياسية” التي تحكم سورية الآن أن تكون حالةً جامعة، ومن المبكّر دحضُ هذا بالاعتماد على تركيبة حكومة تسيير الأعمال الحالية ذات اللون والمكوّن الواحد.
وبالتالي سيجد العام 2025 نفسه مُطالباً باستيراد ما هو أعمق من فرح الخلاص من نظام الأسد، عليه أن يكون عاماً تعويضيّاً على الأقل لتطبيب بعض التلف الذي أصاب سورية في ما مضى، ولعلّ الإدارة السياسية الجديدة للبلاد تفهم هذا جيداً، وتحاول أن تُظهِر الفروقات الممكنة بين سرديّة “سورية الأسد” و”سورية بلا الأسد”، بين “سورية المجزّأة” و”سورية الموحّدة”. وعلى ما يبدو، باتت الإدارة الذاتية لشمال سورية وشرقها تدرك مأزقها الوطني، الذي يُفصح عن أرثٍ سياسي مغلوط تتمسّك به بعد زوال حكم الأسد، وهذا نستنتجه من تصريح قائد قوات سوريا الديمقراطيّة (قسد)، مظلوم عبدي، حين قال أخيراً إنه توافق مع السلطة في دمشق على رفض مشاريع التقسيم.
وتحاول الحكومة المؤقتة ألا تروّج فكرةَ فرض رُؤاها على المجتمع السوري الغني، أو استفزازه بها، كما حدث عندما عدّلت وزارة التربية في الحكومة المؤقّتة في المناهج الدراسية، وحظي بعضها بإجماع وقبول عامّ من مختلف السوريين، مثل حذف مقرّر التربية الوطنية، وحذفّ كلّ ما يتعلق برموز النظام المخلوع من جملٍ وصور وعبارات ونصوص، وبعضها الآخر أثار استياءً واسعاً تُرجم بعضه في وقفتَين احتجاجيتَين أمام مبنى وزارة التربية في العاصمة دمشق، نظّمهما ناشطون، وتلك التعديلات أثارت مخاوفَ عديدة من “أسلمة الدولة” في سورية، إذ تناولت حذف مواضيع علمية مثل أصل الحياة وتطوّرها، وفقرة تطوّر الدماغ من مقرّرات علم الأحياء في المرحلتَين الإعدادية والثانوية، واستبدال عبارة “أن يبذل الإنسان روحه في سبيل وطنه” بأن يبذلها “في سبيل الله”، وحذف إشارات من مقرّرات التربية الإسلامية إلى زنوبيا ملكة تدمر، وإلى خولة بنت الأزور، بالإضافة إلى حذف الآراميين والكنعانيين من مقرّر التاريخ، والآلهة في الميثولوجية القديمة من مقرّر الفلسفة.
هل تحتاج سورية مزيداً من تجريب الإسلام السياسي الذي يتصدّره الجهاديون في مساعيهم لإعادة إنبات دولة الخلافة؟
ويبدو أنّ حكومة تصريف الأعمال الحالية تتدثّرُ كثيراً بانتصاريها السياسي والعسكري حين تقرّر ما يتجاوز صلاحياتها المحدودة سلفاً بإدارة وتسيير الشأن العام ثلاثة أشهر فقط، وربّما تختبر من وراء ما تقرّره مقدارَ خجل السوريين من إدانة بعض سلوكها، سواء المرتبط بتلك التعديلات على المناهج الدراسية، أو حتى الذي يخصّ ممارساتها في الأرض مثل الفصل بين الرجال والنساء في وسائل النقل العامّة، باعتبار أنّ هذه السلطة الجديدة هي أوّل سلطة تقوم على أنقاض نظام الأسد، عدا أنها تشكّلت من قِبَل القوة العسكرية التي حرّرت سورية من احتلال آل الأسد. وعلى ما يبدو، فإن سوريين كثيرين يتريّثون في إبداء معارضتهم ملامح أسلمة الدولة في بلادهم، ربّما لأنهم ينتظرون مُخرَجات مؤتمر الحوار المُزمع، وغير المحدد الموعد (يناير/ كانون الثاني)، ولأنهم ينتظرون أيضاً شكل الحكومة الانتقالية المقبلة، المفترض تشكيلها خلال شهر مارس/ آذار المقبل. ومع ذلك، هنالك خشيةٌ مفرطة من أن تكون سورية 2025 ليست سورية التي ينتظرها السوريون كلّهم (لا بعضهم)، إذ تلتحق بهذا التصوّر الأصوات الدعويّة المحسوبة على مكوّنات إدارة العمليات العسكرية، كالتي سمعناها أخيراً، مثل الاحتفال الذي حدث في مدينة جبلة الساحلية، وقيل في ذاك الاحتفال كثيرٌ عن توجّب افتتاح معاهد لتحفيظ القرآن الكريم، والسُنّة النبوية، والحديث الشريف. … فهل تحتاج سورية مزيداً من تجريب الإسلام السياسي الذي يتصدّره الجهاديون في مساعيهم الواضحة لإعادة إنبات دولة الخلافة مجدّداً؟ وعن أيّ هُويَّة سوريةٍ جامعةٍ نتحدّث إذاً؟… سورية التي نريد، لم تأتِ بعد.
المصدر: العربي الجديد
إنتصار شعبنا على طاغية الشام هي نتيجة تراكمية لنضال وتضحيات شعبنا من آذار 2011 ولتاريخ كانون الأول 2025، لأن التحرير وسقوط الطاغية هو من تضحيات شعبنا، ومن يدعي بأن #من_يحرر_يقرر ليعطي للبعض الأحقية بالتفرد بالسلطة غير دقيق، لذلك فإن التجاوزات التي تقررها الحكومة السورية المؤقّتة هو تجاوز لصلاحياتها المحدودة، لأن سورية ليست بحاجة لتجربة الإسلام السياسي لتقرر مآلاتها.