أثار الإعلان عن قيام تحالف سياسي جديد في منطقة شرق الفرات في سورية، تحت اسم “جبهة السلام والحرية”، ضم كل من “المجلس الوطني الكردي في سوريا” و”المنظمة الآثورية الديمقراطية” و”تيار الغد السوري” و”المجلس العربي في الجزيرة والفرات”، ردود فعل عصبية، وتقويمات متسرعة، واتهامات سياسية خلفيتها ثوابت سياسية ومواقف نمطية. وجاءت معظم ردود الفعل هذه من قوى وشخصيات عربية استفزّها قول الرؤية السياسية “إن سورية دولة متعدّدة القوميات والثقافات والأديان”؛ واعترافها الدستوري بهوية الشعب الكردي القومية، وتحديدها هدفها: بناء نظام ديمقراطي تعدّدي لامركزي.
ذهب بعض معارضي “الرؤية” إلى اعتبارها دعوة انفصالية، و”تقسيم سورية إلى شعوب وأقاليم”، و”تعمّق الشرخ والانقسام بين مكونات الشعب السوري”، كما في بيان “هيئة القانونيين السوريين”. وذهب بعض آخر إلى اعتبارها دعوة “منحرفة ومشبوهة”، ومدخلا إلى نظام محاصصة إثنية وطائفية، واعتبار ما ورد في الرؤية السياسية عن تعدّد قومي في سورية اختلاقا لمسألة جديدة، وفق ما نقله موقع بلدي نيوز يوم 29/7/2020 عن الباحث مهند الكاطع. وذهب بعض ثالث إلى اعتبارها دعوة انفصالية، فقد اعتبر رئيس المجلس المركزي للكتلة الوطنية الديمقراطية، مروان الأطرش، في تعليق له جبهة السلام والحرية “قسد جديدة” (قوات سوريا الديمقراطية)، وبالتالي “تجربة انفصالية”. ورفض هذا، ودعا إلى مشروع وطني مضاد بقوله: “المشروع الوطني المضاد يكمن في العمل على أن تكون سورية دولة موحدة بسيطة، وألا يسمح ببلقنة سورية أو لبننتها بديمقراطية توافقية تستدعي تمثيلا للمكونات، فهذه مشروعات تنهي سورية الدولة؛ وليس النظام الذي دمّر الدولة”، موقع رسالة بوست: 29/7/2020، في حين اعتبر الباحث مخلص الصيادي “في تحليل القوى المكونة لهذه الجبهة لا نرى فعلا إلا المشروع السياسي الانفصالي الكردي، والباقي مجرّد تزيين وتحسين لهذه الصورة، وفي هذا المشروع لا نرى أيضا إلا الظلال الكثيفة لحزب العمال الكردستاني الكردي، ولو بأسماء متعدّدة”. ورد على “الرؤية” بطرح معايير ومحددات لسورية التي يريدها، وقال إن “سوريا وطن واحد موحد، لكل أهله، وهي غير قابلة للتجزئة أو التقسيم”، “فإن سوريا لا تحتمل أي تقسيم إداري ذي صبغة سياسية أو عرقية أو مذهبية أو دينية”، و”الدولة السورية المبتغاة دولة واحدة تتمثل وحدتها في وحدة السلطة، ووحدة الجيش ووحدة أجهزة الأمن الرئيسية، ووحدة المجلس التشريعي، ووحدة التمثيل الخارجي، ووحدة العلم، ووحدة النشيد الوطني”، (مقالة “تعليقًا عل بيان تأسيس جبهة السلام والحرية”، موقع ملتقى العروبيين بتاريخ 30/7/2020).
مشكلة الملاحظات والتحفظات والاعتراضات السياسية والفكرية أعلاه ليست في طرحها أو تبنّيها، فهذا حق مشروع لكل قوة أو إنسان، وإنما في طبيعة تعاطيها مع المواقف والأفكار المختلفة، مشكلتها في طبيعة النقد، في ارتكاز النقد على قراءة هذه المواقف والأفكار وتفسيرها وتأويلها ونقدها بدلالة هذه القراءة والتفسير والتأويل الموجّه، فبيان “هيئة القانونيين السوريين” رفض ودان “الرؤية”، بعدما اعتبرها دعوة “انفصالية”. لم تحترم “الهيئة” خلفيتها القانونية التي تقرّ بحسم وجزم أن اللامركزية لا تعني الانفصال أو تقسيم سورية إلى شعوب، إنها نظام سياسي معروف وشائع في عدد من الدول، قائم على توزيع السلطات بين المركز والأقاليم، بحيث تشارك الأقاليم في القرار السياسي والاقتصادي الوطني. وكان حسن عبد العظيم، وهو محام قديم وقدير، قد وقع في المطب القانوني نفسه، عندما اعتبر في تعليقه على مبادرة “إعلان سورية الاتحادية” دعوة إلى تقسيم سورية، وشبّهها بما فعله الانتداب الفرنسي على سورية في عشرينيات القرن الماضي، بتحويلها إلى خمس دول، لم يلحظ الفارق بين إقامة دول وإقامة أقاليم في دولة؛ كما في النظام الاتحادي.
تنطبق الملاحظة أعلاه على رأي الكاطع الذي اعتبر اللامركزية مدخلا لنظام محاصصة إثنية وطائفية؛ مع أن الفارق بينهما واضح وصارخ، وأن العمدة في تجنب المحاصصة مرتبط بطبيعة العقد الاجتماعي الذي يرتكز النظام السياسي عليه؛ بغض النظر مركزيا كان أو لامركزيا. واللامركزية المطروحة مجرّد دعوة يتوجب إقرارها، وتحديد طبيعتها والقانون الناظم لاشتغالها عبر مفاوضاتٍ سورية ــ سورية تحدد العقد الاجتماعي وطبيعة النظام، وتضمين ذلك كله في دستورٍ يقرّه مؤتمر وطني جامع واستفتاء شعبي، والذي أنكر وجود تعدّد قومي في سورية مع أنه قائم وملموس. وتنطبق الملاحظة كذلك على رأيي مروان الأطرش ومخلص الصيادي، لانطلاقهما من فكرة مسبقة: “الانفصالية الكردية” و”تقسيم سورية”، والرد بالرفض والإدانة من دون تدقيق في الفكرة وقابليتها. لم يلتفتا إلى معنى اللامركزية ونماذجها والقوانين الناظمة لعملها، والبحث في مدى صلاحيتها لإدارة الدولة والمجتمع السوريين. إنها الانفصالية المرذولة والمرفوضة؛ وكفى الله المؤمنين القتال. قال الصيادي: “لا ندري ماذا يعني وجوب إقرار الدستور الجديد بأن سوريا دولة متعدّدة القوميات والثقافات والأديان، وبالتالي يجب أن تكون متعدّدة اللغات، وكيف يمكن البحث عن حل ديمقراطي وطني لهذا التعدّد وفق القوانين الدولية، وهل هناك دولة في العالم يمكن أن نتخذها نموذجا لهذا القول، هل ألمانيا أو تركيا، أو إسبانيا، أو فرنسا، أو روسيا، أو الولايات المتحدة، أو أي دولة أخرى هي كذلك؟”. لم يكلف نفسه عناء البحث عن نماذج سياسية قائمة تعتمد لامركزية إدارية ولغوية في آن، ولو بحث لكان وجدها في بلجيكا وسويسرا، ولم ير في قيام “الجبهة” إلا اصطناع واقع “كما تم اصطناع “قسد”، و”مسد” (مجلس سوريا الديمقراطي). وهو يستهدف تمرير غايات الانفصالية الكردية، بثوب فضفاض، وهذا أمر لا يجوز أن يمر، ولا يجوز القبول به تحت أي اعتبار”. لم يسأل نفسه، مجرّد سؤال، عن طبيعة الدولة اللامركزية، وهل هي دولة موحدة أم مقسمة، وهل تتعارض اللامركزية مع المواطنة والعدالة والمساواة وحقوق الإنسان، علما أن دعوة الدولة الاتحادية ليست جديدة، هي مطلب تقليدي للأحزاب الكردية المنخرطة في “المجلس الوطني الكردي”. ثم ما مدى دقة قوله “السوريون جزء من محيطهم، وهويتهم جزء من هوية محيطهم. ومحيطهم، وتاريخهم، وبيئتهم، وثقافتهم، وعطاؤهم، ومساهمتهم في البناء الحضاري المستمر منذ 1400 سنة على الأقل، جرى كله في الإطار العربي الإسلامي، هذه هي هوية المجتمع السوري”، ألم تتغير هذه المعطيات، هل المحيط قبل الحرب العالمية الأولى مثل المحيط بعدها؟ ألم تنهر السلطنة العثمانية، وتنته دولة المسلمين المشتركة، وتنخرط شعوبها في توجهات قومية؟ ألم ينشأ محيط جديد بقيام الكيانات السياسية الجديدة، محيط عربي، ومحيط شرق أوسطي، ومحيط إسلامي؟
بالعودة إلى تشكيل “جبهة السلام والحرية”؛ ورؤيتها السياسية، معظم ما جاء في هذه الرؤية قديم ومطروح في وثائق المعارضات السورية وتصوراتها، بما في ذلك وثائق المعارضة المعترف بها إقليميا ودوليا: الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة والهيئة العليا للمفاوضات، والجديد فيها تركيزها على قضية التعدّد القومي والديني في سورية، والمطالبة بالإقرار بذلك وبالحقوق المترتبة عليها دستوريا، وأنها (الرؤية السياسية) تشكو من تناقضات ونقاط ضعف، لعل أولها التعارض بين المواطنة وحقوق الإنسان والحقوق القومية، فإقرار المواطنة وحقوق الإنسان يلغي الحاجة إلى الإعلان عن حقوق قومية والدعوة إلى الاعتراف بها دستوريا، فالحقوق في دولة المواطنة فردية، وثانيها تمييز الكرد في فقرةٍ تعلن الاعتراف بحقوقهم القومية، فتمييزهم يخلق مشكلةً سياسية، ويستدرج توترات وصراعات بين أطراف الجبهة أنفسهم، فللعرب تطلعاتهم القومية، والمنظمة الآثورية تتحدّث باسم السريان والكلدان الذين ينظرون إلى أنفسهم قومية متميزة وعريقة وصاحبة المنطقة الأصلية، وللتركمان كذلك تطلعات قومية، وبين الجبهة والقوى السياسية خارجها.
تبقى النقطة المركزية والسؤال الرئيس لماذا تشكّلت “الجبهة”، طالما أنها تعتبر نفسها جزءا من المعارضة الوطنية السورية، ومعظم مكوناتها منخرطة في إطاري المعارضة المعترف بهما: “الائتلاف” و”الهيئة العليا للمفاوضات”، وهل الهدف إيجاد توازن سياسي شرق الفرات، يسمح للمجلس الوطني الكردي تمرير القسم الأكبر من رؤيته السياسية في المفاوضات الكردية الكردية، خصوصا أن مفاوضات تشكيل “الجبهة” بدأت بالتوازي مع المفاوضات الكردية الكردية، وهذا ما التفتت إليه “الإدارة الذاتية”؛ وعبر عنه عضو العلاقات الدبلوماسية في حزب الاتحاد الديمقراطي، دارا مصطفى، بتحذيره في حديثه لـ “باسنيوز” يوم 1/8/2020 من استخدام “المجلس” هذا التشكيل لفرض واقع سياسي جديد لتخريب المحادثات” (يقصد المفاوضات الكردية الكردية)، وتحفّظه على إعلان تشكيل “الجبهة”، بدعوى عدم اتباعها الطرق القانونية، يقصد الحصول على موافقة من مؤسسات “الإدارة الذاتية”، وقول الكاتب الكردي المقرب من “المجلس”، شفان إبراهيم، تعليقا على تشكيل “الجبهة”: “هذا الجسم سيعني منافسةً قوية على الصعيد السياسي والتمثيل الشعبي لمكونات شرق الفرات أمام “مجلس سوريا الديمقراطية”، والإدارة الذاتية”، (مآلات جبهة السلام والحرية في شرق الفرات، العربي الجديد: 1/8/2020). هذا كله في لحظة سياسية دقيقة وحساسة آيتها تحرّك أميركي متصاعد لصياغة توازنات جديدة شرق الفرات، أساسها رعاية مفاوضات كردية كردية، والضغط لإخراج كوادر حزب العمال الكردستاني من سورية، وتعزيز دور “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) وقائدها مظلوم عبدي على حساب الجناح السياسي “مجلس سوريا الديمقراطية” (مسد)، من خلال توقيعه على الاتفاق النفطي مع شركة أميركية، وهي مهمة من حق السياسيين لا العسكر، وتوسيع دور المكون العربي، ومنحه مكانة مناسبة عبر إصرار وزارة الخارجية الأميركية على الاجتماع برئيس الوزراء السوري المنشق، رياض حجاب، الموجود في الولايات المتحدة لعمل جراحي، والاجتماع حضره المبعوث الأميركي الخاص إلى سورية، السفير جويل رايبورن، ومسؤولون من وزارة الخزانة الأميركية.
تقتضي السياسة والحصافة التوجه نحو حوار وطني شامل، للوصول إلى حلول توافقية حول الملفات الخلافية والعالقة، ونزع فتيل التوترات والصراعات، لأن الجميع متضرّر وخاسر فيها.
المصدر: العربي الجديد