يطرح هذا النص مجموعةً من الأفكار التي ترتبط بالواقع السوري اليوم، ونقاشات الساحة السورية العمومية، وأحداثها، منذ سقوط النظام البائد، ونقاربها في العناوين الفرعية الآتية:
- أولاً: الجماعات غير السياسية، والجماعات المُضادة للسياسة
ثمة في الدنيا دائماً جماعات غير سياسية أو “لا سياسية” (non-political)، ومنها بطبيعة الحال الجماعات المناطقية، والقبلية، والطائفية، والدينية، والتعاونية، وهواة جمع الطوابع، وما إلى ذلك.
هي بطبيعة الحال مسألة عادية وموجودة، لا يوجد فيها أي مشكلة، ولا يمكن أن يعترض أحدٌ على وجودها، وعلى استمرارها في التعبير عن هذا الوجود بالطرائق التي تراها ملائمة، بل إن السياسة كلها تبني ذاتها ممّا هو “لا سياسي” بالأصل، وبهذه المعنى فإن هذه الجماعات غير السياسية ضرورية للسياسة أيضاً.
وثمة جماعات مضادة للسياسة ِ(Apolitical) أو (anti-political)، وفيها تكمن المشكلة، فهذه الجماعات تعمل ضد فكرة المدينة السياسية، ولا تدع مجالاً للإنسان بأن يكون فرداً إلا بوصفه صعلوكاً منبوذاً: إنها جماعات تُحجِّم الفرد، تصهره فيها، تذوِّب حسه النقدي والجمالي وتحرمه من التفكير بوصفه ذاتاً مستقلة؛ فيصير يرى نفسه قاصراً من دون جماعته، يستسهل أن يصير تابعاً، ووسيلة لغايات الآخرين، يصير مغروراً بجماعته وذاكرتها وتاريخها وأساطيرها، يتساءل عمّا سيحدث بدلاً من أن يتساءل عمّا يمكن القيام به؛ يُطالب بالفعل بدلًا من المشاركة في صنعه، ولسان حاله يقول اعملوا لكي أحدد موقفي منكم، بدلاً من لنعمل معاً كي نخرج بشيءٍ مشترك.
الجذر المنهجي المكثّف في الجماعة المضادة للسياسة هو “كُن مثلي”، أو “اعمل مثلي لكي ألتقي معك ضد من لا يشبهنا”، ويبدو هذا مناقضاً للسياسة الوطنية الي تستند في جوهرها إلى منهجية “اعمل معي” وليس “اعمل مثلي” أو “كن مثلي”، الجماعات المضادة للسياسة هي بالضرورة جماعاتٌ مثلية، لا تستطيع العمل إلا مع من يشبهها فحسب.
كلُّ جماعةٍ تطغى فيها الـ”نحن” على الـ”أنا” هي بالضرورة مُضادة للسياسة: هذه هي بالضبط الجماعات الهُووية (من هُوية)، هي ضربٌ من البحث عن النمطية البدائية، وإعادة إنتاجها، ولا تحضر الـ”نحن” فيها إلا أيديولوجياً، فالجماعات الدينية غير سياسيةٍ، ولكنَّها بالضرورة جماعات تمهد للسياسة ولا تعاديها؛ ولكن ما أن تنجز أدلجة الدين داخلها (أي أن تحوِّل دينها إلى أيديولوجيا) حتى تصير جماعة مُضادة للسياسة، وتصير فيها المشكلة كلها؛ فغير السياسي لا يعمل ضد الوطنية، ولكن المضاد للسياسة بالضرورة يفعل.
لأنها أكثرية لها تاريخ حاضن للمشروع الوطني؛ فإن تحوُّلها إلى جماعة مضادة للسياسة أمرٌ لا يقوى عليه أحد، هذه مسألة لا خشية فيها، ولكن الخشية في الجماعات اللاسياسية الأخرى، الدينية تحديداً، من الأقل عدداً، أن تحوِّل نفسَها أمام هذا الواقع إلى مصانع أيديولوجية للانتماء على حساب الهوية الوطنية..
استناداً إلى ذلك يمكن أن نقول إن الجماعات الدينية في سوريا كلها، جماعاتٌ لا سياسية، ولكنها ضرورة للسياسة، ما دامت لا ترى أن دينها أيديولوجياً، وهذا مهم، فإذا حوَّلت دينها إلى أيديولوجيا، وصار الانتماء الهُووي أقوى من الإيمان الفردي؛ فصار لها زعيماً مُقدساً، وأنجزت مقاربات منتهية للحياة من حولها، وصارت الـ”نحن” فيها مغرورة متضخمة، عندها تتحول بالضرورة إلى جماعة مضادة للسياسة، ومن ثم مضادة لفكرة الدولة وفكرة الوطن، وهذا فعلٌ غيرُ حميد، وغير مستحب، وقد يتضمن مآلات سيئة للجميع.
وأيضاً، وعلى مستوى آخر، فإننا عندما نقول إنّ الجماعة السنية في سوريا كانت حاضنة مشروع وطني، وما تزال مؤهلةً لتكون كذلك، فإننا نصنفها بوصفها جماعة لا سياسية، ولكنها لم تتحوَّل إلى مضادة للسياسة، ولأنها أكثرية عددية فهي ما تزال قادرة أن تختضن السياسة الوطنية، وأن تنتج السياسة من كلِّ اللاسياسة التي بحوزتنا.
لأنها أكثرية لها تاريخ حاضن للمشروع الوطني؛ فإن تحوُّلها إلى جماعة مضادة للسياسة أمرٌ لا يقوى عليه أحد، هذه مسألة لا خشية فيها، ولكن الخشية في الجماعات اللاسياسية الأخرى، الدينية تحديداً، من الأقل عدداً، أن تحوِّل نفسَها أمام هذا الواقع إلى مصانع أيديولوجية للانتماء على حساب الهوية الوطنية، وأن تبني لنفسها مرجعياتٍ وسردياتٍ تنافس الوطن في وجدان أفرادها. لو تم التفكير في هذا السياق مثلاً ضمن الجماعة الدرزية، أو المسيحية، أو الكردية، لتغيرت مقاربات كثيرة فيها وتطورت نحو الأفضل والأفق الأوسع.
بصراحةٍ مطلقة، نحن السوريين جميعاً، من دون استثناء، بحاجةٍ إلى أخذ لقاحٍ يحصننا ضد المثلية الجماعاتية، لأنها موجودة بيننا بوصفها وباءً مضاداً للسياسة، وقد يكون مُعدياً جداً، هذا التحصين هو امتلاك فن بناء الجماعة السياسية، وهذا تمرينٌ أول في سياسة التأسيس؛ فما هي الجماعة السياسية؟
- ثانياً: في الجماعة السياسية
تكلمنا في الجماعة الـ”لا سياسية”، وفي الجماعة المضادة للسياسة؛ فما هي الجماعة السياسية؟ هي بالضرورة جماعة يتم ابتكارها، ولا يوجد في الدنيا جماعة سياسية موروثة، أو جاهزة.
وفي صفات هذه الجماعة قد نحدد الآتي:
- الجماعة السياسية نتيجة إبداع وليست نتيجة وراثة، أو تقليد، ومن هنا فالجماعة السياسية لها جديدها الخاص، بالفعل لها نموذجها الخاص بها التي تبنيه بأيدي أبنائها.. صناعة الجماعة السياسية ضربٌ من ضروب الفن، بوصفه موهبة، وسيرورة تعلمٍ، وخبرة.
- الجماعة السياسية مرنة تتغير، ولا تبقى ثابتة كما هي بتغير الزمان وتغير الظروف والمعطيات.
- لا تنظر إلى أفرادها، ولا ينظر أفرادها إلى ذواتهم، بوصفهم رعايا لشيخٍ أو زعيم أو ظاهرة، لكن هي جماعة تسعى إلى دولة الرِعاية (بكسر الراء)، وتناهض دولة الرَعايا (بفتح الراء).
- تُسخِّر الجماعة السياسية إمكاناتها كلها لتدعم أفرادها، ترفع من شأنهم، وتدعم إبداعهم، وتحرص على راحتهم واستقلالهم وحرية ضميرهم وآرائهم وتفكيرهم، لتُخرِج منهم أجمل ما فيهم.
- العلاقات بين أفرادها لا تقوم على صهر البشر بعضهم ببعض، بل على بناء الجسور التي تحافظ على الفردية. وبنا شبكات الثقة داخل الجماعة، وخارجها.
- قادرة على بناء خط سياسي فكري واضح، يجعل التنبؤ بمواقفها إزاء القضايا ممكناً، ومن ثم يجعلها أهلًا للثقة.
- تصنع من الجماعات اللاسياسية ظاهراتٍ جميلة، بالغيرية، وبمبدأ يقوم على الإيمان بأن حقنا في الإيمان والتعبير عن إيماننا أياً كان، يمر بالضرورة من دفاعنا عن حق كل آخرٍ لا يشبهنا في الإيمان بشيءٍ لا نراه نحن صحيحاً، لكن بدفاعنا عن حقه نحن ندافع بالضرورة عن حقنا. هذه مقدمة اجتماع سياسي للمواطنة لا بد منها، وممارسة للتعددية ضرورية للسياسة.
- ثالثاً: ماذا لو؟
ماذا لو لم يتفق السوريون؟ ماذا لو لم يكن ممكناً أن تتحقق الطموحات والآمال السياسية دفعةً واحدة؟ ماذا لو حدث نزاع مسلح داخلي بين القوى الموجودة في القيادة السياسية اليوم؟ ماذا لو أن إيران بنت أذرعاً جديدة للتخريب والتفجير؟ ماذا لو أن دولةً إقليمية أثارت البلبلة مستخدمةً منطقة سورية أو أفرادًا سوريين؟
كلُّ هذه الـ”ماذا لوَّات” ومثيلاتها طريقةٌ في التفكير السياسي في المستقبل، لها بطبيعة الحال مقارباتها على مستوى رسم السياسات إن حدثت، ولكن إزاءها كلها ما العمل؟ لا يوجد إلا نوعٌ واحدٌ من العمل الناجع لتفاديها، والتعامل معها إن وقعت، هو بناء جماعة سياسية وطنية فيها التضامن، والتجسير، وقادرة على مراكمة رأس مالٍ اجتماعي سوري وطني يكون ملجأً لكل سوري اختار وطنه، وهم الغالبية الساحقة.
إذا وصلنا إلى هنا لا يصبح الاتفاق مهماً، ولا يهدد الدولة أي اختلاف، بل على العكس تقوم الدولة على تدبير هذا الاختلاف تدبيراً سياسياً، ونصير أكثر جماعةً سياسية تجسدها الدولة.
رابعاً: في فكرة الانسجام
ثمة نقطة لافتة، ومهمة، بأن فريق الإدارة السورية الجديدة يعتدُّ بالانسجام، ويجده مسوِّغاً يتم استخدامه أمام سؤال السوريين عن اللون الواحد للإدارة المؤقتة.
وفي هذا التسويغ شيءٌ من المنطق المقبول مؤقتاً، ولكن لنفكر في الملاحظة الآتية: يبدو أن الخطاب الذي يمثِّله الشرع منسجماً مع الرأي العام السوري أكثر من انسجام هذا الخطاب نفسه مع فريقه التنفيذي.
هذا يعني أهمية أن يكون الفريق التنفيذي المؤقت منسجماً مع الخطاب والتوجه العام للإدارة، مثل انسجام أعضائه بعضهم مع بعض.
يبدو للمراقب أن السوريون بالعموم، لديهم شعورٌ بنوعٍ من الراحة الباعثة على التفاؤل بالقادم أمام هذه التوجهات وهذا الخطاب التي تتبناه الإدارة الجديدة، صحيحٌ أنه شعورٌ ممزوجٌ بالحذر والترقب، ولكن غالبية المشكلات والاعتراضات لا تأتي من هذا الحذر، بل من تصريحات وقرارات شخصيات في القيادة الجيدة ممن يفترض أنهم متشبعون بهذا التوجه، ويسعون إلى تنفيذه، ومكلفون بذلك نظرياً في المرحلة المؤقتة الحساسة.
هدف الكتابة في هذه الحالة ترجيح احتمال عدم تحقق السلبي في المستقبل، أو تفادي حدوثه، تصير العملية كلها وكأنها فعلٌ يشبه التطعيم قبل توقُّع الوباء، فلأن المرء يتوقَّع الإصابة بالوباء فإنه يكتب ويعمل كي لا تتحقق توقعاته..
أهم هذه الملاحظات توجد في فكرة بناء نموذج جديد؛ فيشعر المرء أن لدى بعض من المسؤولين الجدد الذين أثارت تصريحاتهم أو سلوكياتهم اعتراضات واستنكارات واسعة، نموذجاً جاهزاً، في رؤوسهم، لا ينسجم مع فكرة البناء الذي يتطلب تفكيراً وتعاوناً ومقارباتٍ عابرة للتخصصات وفن خلق الجديد.
قد يؤدي غياب الانسجام هذا إلى ولادة فكرة تستند إلى خبرة السوريين مع الجماعات الإسلامية سابقًا، بأن الانسجام بين الإسلاميين والآخرين أسهل من انسجام الإسلاميين مع بعضهم، وهذه جزئية تحتاج إلى التحقق والتدقيق: التحقق من قدرة القوى المتحالفة في الإدارة، والتيارات المختلفة ضمنها، على الاستمرار في الاتحاد لتحقيق نياتهم الجيدة التي يعبرون عنها دائماً على المستوى الرسمي، هذا التحقق ضروري في وقتٍ لا يبدو أنهم حقاً منسجمون تماماً على مستوى التشبع بالتوجهات الجديدة التي يعبرون عنها، كما هم منسجمون بوصفهم فريق.
وإنجاز هذا الانسجام من قبلهم ضروري جدًا، وحساس في هذه المرحلة، وحبذا لو أن الإدارة الجديدة تكون قد بدأت بالفعل في العمل في هذه المنطقة.
- خامساً: فكرة أخيرة مهمة
يكتب المرء في أحيانٍ كثيرة للسبب نفسه الذي يجعله يقرأ: أي ليفهم، وهذا يكون أكثر في كتابات النظرية السياسية والواقع السياسي، ومن ثم يكتب المرء أيضاً للمساهمة في تجنب وقوع أمرٍ سلبي يتوقعه؛ فتصير الكتابة عملًا ضد الاحتمالات السلبية في الرأي، أي أن الكتابة تصير فعلًا يسهم في منع تحقق بعض توقعات الكاتب نفسه، وليس تعزيزها.
هدف الكتابة في هذه الحالة ترجيح احتمال عدم تحقق السلبي في المستقبل، أو تفادي حدوثه، تصير العملية كلها وكأنها فعلٌ يشبه التطعيم قبل توقُّع الوباء، فلأن المرء يتوقَّع الإصابة بالوباء فإنه يكتب ويعمل كي لا تتحقق توقعاته؛ فيقوم بأخذ اللقاحات ونصح الآخرين بها.
هذا التمرين مهمٌ جداً في سوريا اليوم؛ فإذا استقر رأينا مثلًا أن سلوك جهة معينة في سوريا سيؤدي إلى كارثة؛ فلا ينبغي أن ينصب اهتمامنا على تقديم الأدلة للآخرين بأن رأينا أو تنبؤنا هذا صحيح، وأنه بدأ يقع بالفعل، من ثم ننتظر إلى حين وقوعه لنقول بفخرٍ “ألم نقل لكم”؛ بل الأجدر أن نعمل على النقيض من ذلك؛ أي أن نسعى إلى تغيير المقدمات التي قد تؤدي إلى الأسوأ، وتفادي كل شيء سلبي نتوقعه، معظم أفكار هذا النص، وأفكار أخرى سابقة طرحها كاتب هذه السطور، تأتي في هذا السياق.
المصدر: تلفزيون سوريا