سورية ومواجهة تركة جرائم حكم آل الأسد

معتز الفجيري

تلتقي عادةً أولويات الثوار والساسة مع النشطاء الحقوقيين خلال سنوات النضال ضدّ أنظمة الاستبداد. لكن تجارب سابقة في المنطقة العربية وخارجها تخبرنا بأن هذا الالتقاء عادةً ما يُواجِه اختباراتٍ صعبةً في أعقاب سقوط نظام الحكم، عندما تختلف الأولويات والمهام السياسية والحقوقية. القضية الأصعب التي تثور في الظروف المشابهة لوضع سورية الجديدة حالياً هي الأولويات والتوقيتات المناسبة للتعامل مع ملفّات الماضي من دون أن تطغى على مقتضيات لحظة الانتقال السياسي في الحاضر وتحدّياتها. محصّلة الجرائم الجسيمة التي ارتكبت، لا سيّما خلال 14 عاماً مضت، باهظة. هناك مئات آلاف من حالات الاختفاء القسري، والقتل خارج نطاق القانون، بما فيها وقائع القتل الجماعي والمقابر الجماعية، والاعتقالات التعسفية والانتهاكات المنهجية ضدّ الأقليات تحتاج إلى كشف الحقائق وتحديد مصير الضحايا، فضلاً عن ملفّ التهجير القسري، ومتطلّبات إعادة إدماج ملايين من السوريين في مجتمعاتهم المحلّية، وتعويضهم.

سحقت الأنظمة السلطوية على مدار عقود كرامة وشخصية مواطنيها وعمّقت انقسامات مجتمعاتها

يتطلّب تفكيك تركة الماضي كشف آليات عمل نظام حكم الأسد، وعمل أجهزته الأمنية والاستخباراتية والدعائية، وشبكات الفساد المالي التي ارتبطت به، ودعمت أركان حكمه عقوداً. ستواجه السلطة الجديدة أيضاً مطلب إرساء العدالة والمحاسبة ضدّ مرتكبي هذه الجرائم، وسؤال كيفية التعامل مع أنصار النظام البعثي وإذا ما كان سيُدمج بعضهم أم سيُقصى كلّية عن المشاركة في النظام السياسي الجديد. تركة ثقيلة من مخلّفات الاستبداد وجرائم حقوق الإنسان تركها نظام الأسد في سورية، تتطلّب مواجهتها قدراً عالياً من الحوار المجتمعي والمسؤولية من جانب نخبة نظام الحكم الجديد. التعامل مع هذه التركة يهمّ في المقام الأول ضحايا هذا النظام الغاشم خلال الأربعة عشر عاماً التالية للثورة السورية، أو في عقود أسبق منذ تولّي حزب البعث حكم سورية، لكنّ تفكيك أساطير هذه السلطة، وفهم آليات القمع خلال سنوات حكمها، وكشف ما ارتكبته من جرائم، تهمّ جميع الشعوب العربية التي عاشت أكذوبة أنظمة حكم مشابهه لحكم البعث منذ استقلال دولها عن المستعمر الأجنبي. تسبّبت هذه الأنظمة على مدار عقود في تدمير منظّم للسياسة والاقتصاد في بلدانها، وفي سحق كرامة وشخصية مواطنيها وتعميق انقسامات مجتمعاتها، وفي الاستغلال السياسي لصراعات الشعوب العربية مع المشروع الاستعماري الإسرائيلي لتبرير قبضتها السلطوية، وتجديد استمراريتها.
تنمّ التصريحات الصادرة عن السلطة الانتقالية الجديدة في سورية (حتى الآن) عن وعي عامّ بدقة لحظة الانتقال، وضرورة تأسيسها في إطار واسع من المشاركة والحوار. لكن هناك بعض الضبابية والتناقضات في تصريحات قائد هذه الإدارة الانتقالية، أحمد الشرع، في حواره أخيراً مع قناة العربية، عن مدى قناعة السلطة الحالية بجدوى اتّخاذ خطوات واسعة في فتح ملفّات الماضي في إطار مشروع وطني للعدالة الانتقالية، ومدى الانفتاح في إدماج هيئات حقوق الإنسان، وفصائل من المعارضة المدنية السورية، التي عملت على مدار السنوات السابقة في التحضير لهذا المشروع، خوفاً من الانقسامات السياسية المحتملة. وقد أعلنت السلطة الانتقالية الحالية في سورية نيّتها عقد مؤتمر واسع للحوار الوطني يمهّد لتشكيل حكومة ومؤسّسات تدير المرحلة الانتقالية، تمهيداً لوضع دستور جديد قد يستغرق العمل له ثلاثة أعوام، تعقبها انتخابات عامّة.
ليست واضحة بعد معايير اختيار المشاركين في هذا المؤتمر، وكيفية اتخاذ القرارات، ومدى إلزاميتها لسلطة الأمر الواقع الحالية. الاهتمام بتعقيدات ترتيبات المرحلة الانتقالية لا بدّ من أن يشكّل أولوية اللحظة الراهنة، لأنها الأساس الذي سيضمن لاحقاً إنصاف الضحايا. لكن يمكن في إطار هذا المؤتمر إطلاق مسارٍ موازٍ على شاكلة تأسيس هيئة وطنية مستقلّة للحقيقة والإنصاف، كالتي شهدتها دول مثل تشيلي وجنوب أفريقيا في التسعينيات من القرن العشرين، تتلقّى الملفّات الفردية التي عملت عليها منظّمات حقوق الإنسان السورية، وأيّ بلاغات وشكاوى من أسر الضحايا والمختفين، وتحقّق فيها لكشف الحقائق التي تخصّ الضحايا، وفي رأسها الملفّات المتراكمة لجريمة الاختفاء القسري، التي تفشّت خلال سنوات حكم بشّار الأسد. لقد راكمت منظّمات حقوق الإنسان السورية في المهجر مثل الشبكة السورية لحقوق الإنسان، والمركز السوري لحرّية الإعلام، والمركز السوري للأبحاث والدراسات القانونية، ومنظّمة اليوم التالي، وغيرها، خلال العقد السابق، خبرات متنوّعة في توثيق (والتحقّق من) الانتهاكات، ولديها قوائم بيانات شاملة حول خريطة الضحايا، وستستطيع هذه المنظمات، طالما توفّرت لها حرّيتَا الحركة والعمل في داخل سورية، أن تساهم في دعم هيئة الحقيقة، والإنصاف بالقدرات، والمعلومات، والملفّات، بالتعاون مع الهيئات الدولية والأمم المتحدة.

الأصعب في الانتقال الجاري في سورية أن الدولة تُعيد بناء مؤسّساتها من لا شيء بعد عقود من تدميرها المنظّم بيد حكم آل الأسد

على صعيد آخر، هناك مجهود هائل بدأه منذ سنوات المحامون السوريون، وعدد من منظّمات حقوق الإنسان السورية في البلدان الأوروبية، لمحاصرة أعضاء نظام بشّار الأسد بقضايا جنائية، عبر توظيف الاختصاص القضائي العالمي في دول مثل فرنسا وألمانيا وهولندا. لكن تبقى آثار هذا المسار محدودةً من دون وجود مشروع وطني شامل للمحاسبة وجبر الضرر. إلّا أن نقل مسار المحاسبة والعدالة الجنائية إلى المستوى الوطني سيتطلّب تروّياً وحذراً في ظلّ فراغ مؤسّسي، وقبل إرساء آليات وطنية متماسكة لكشف الحقيقة وحصر الضحايا، وخريطة مرتكبي الجرائم، وحدود مسؤولياتهم الجنائية.
يرتهن نجاح التفاوض على العدالة وحقوق الإنسان خلال المراحل الانتقالية بشكل نموذج الانتقال السياسي وتوازن القوى خلال عملية الانتقال، وبمدى انفتاح السلطات الانتقالية على المجتمع المدني وحركة حقوق الإنسان، وبقوة طرح وتنظيم هذه الحركة كي تكون مُمثَّلة بشكل جيد خلال التفاوض على عملية الانتقال السياسي. الأصعب حالياً في الانتقال الجاري في سورية أن الدولة تعيد بناء مؤسّساتها من لا شيء بعد عقود من التدمير المنظّم، الذي اقترفه نظام حكم الأسد. الوضع الإقليمي والدولي لهذا الانتقال يفرض تحدّياً ثقيلاً، ويمهّد لمخاطر تدخلات إقليمية في مسار التحوّل، كما جرى في دول عربية أخرى منذ انطلاق ثورات الربيع العربي. المهمّ هو قدرة النخبة السياسية والمدنية السورية في إعلاء أولوية الحوار فيما بينها، وتحييد التدخّلات الخارجية في مسار الترتيبات الانتقالية قدر الإمكان.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى