تحدّيات الزمن الانتقالي في سورية

أنور الجمعاوي

كابد السوريون طويلاً من أجل إطاحة نظام دكتاتوري جثم فوق قلوبهم عقوداً، وانتهك حرّياتهم العامّة والخاصّة، واستولى على السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، واحتكر المجال العام، وحكم الناس بالحديد والنار، وقوّة البروباغندا والآلة القامعة، وبسطوة الأسرة والعصبية الطائفية والحزب الواحد. وتراقى النظام البعثي المطلق بالأسد ـ الرئيس إلى مقام المقدّس، وأدمن التنكيل بمعارضيه، فتحوّل البلد جمهوريةَ خوف بامتياز. وبدت الانتخابات بمثابة أحداثٍ صورية، تتعاود بشكل نمطي، نتائجها التسعينيّة معلومة سلفاً، وهي مُجرَّد إعلان بيعة للحاكم بأمره وحزبه المتنفّذ. لكنّ دوام الحال من المُحال. فقد ولّد الكبت الانفجار، وانتفض السوريون على بشّار الأسد، وخاضوا ثورةً ملحميةً على نظامه الشمولي الأحادي، ثورة عمّدوها بالآلام والتضحيات الجسام. وبدل أن يتفهّم حاكم دمشق مطالب المنتفضين وأشواقهم إلى الحرّية والكرامة والعدالة، استقوى عليهم بالخارج، وواجههم بأزيز الرصاص، وزمجرة الدبّابات، ورماهم بالبراميل المتفجّرة، ووزّعهم بين السجون والقبور، والملاجئ والمنافي.
وبعد أن انحسر ما يُعرف بمحور الممانعة، وفقد بشّار الأسد دعم حلفائه التقليديين (إيران، حزب الله، روسيا)، وتدهورت قدراته العسكرية والاقتصادية بشكل غير مسبوق، اغتنمت فصائل المعارضة السورية المسلّحة بقيادة هيئة تحرير الشام الوضع، وشنّت هجوماً واسعاً على قوّات النظام الحاكم، وبسطت في وقت قياسي سيطرتها على معظم المدن السورية، بدءاً بحلب، مروراً بحماة، وصولاً إلى حمص ودرعا واللاذقية ودمشق. وذلك في ظلّ بهتة جيش الأسد وانسحاب مليشياته، ومغادرة أسرته وحاشيته البلاد، وهروب الرئيس المخلوع إلى قاعدة حميميم الروسية، ومنها إلى موسكو، بحسب تقارير استخبارية متواترة. ومثّل سقوط منظومة حكم الأسد لحظة تحوّل تاريخي فارقة في سورية، فقد تحرّر الناس بعد عقود من إسار الخوف ومن وطأة نظام قمعي، استبدادي، ضاق معه العيش والأمل. وفي لحظة فرح عارمة، نزل الناس على اختلاف خلفياتهم الدينية والعرقية والطبقية والأيديولوجية إلى الشوارع، ليمارسوا حقّهم في التظاهر والاحتفال برحيل الدكتاتور وزمرته، رافعين شعارات من قبيل: “حرّية للأبد غصباً عنّك يا أسد”، “واحد واحد واحد.. الشعب السوري واحد”، “سورية حرّة أبيّة”، وهشّموا تماثيل الأسد الأب والابن وصورهما، ومزّقوا شعارات حزب البعث المنحلّ، تعبيراً عن قطيعة شعبية مع زمن كلياني غاشم، وشوقاً إلى بناء سورية جديدة ينعم فيها الناس بالحرّية والكرامة والعدالة والرفاه والسيادة ووحدة الصفّ. ومع أهمّية هذا التحوّل من دولة الاستبداد إلى دولة الثورة، فإنّه يحمل طيّه عدّة تحدّيات.

تعيين حكومة تولى أعضاؤها إدارة إدلب، من دون استشارة باقي المكوّنات السياسية السوري، عُدّ محاولةً من هيئة تحرير الشام للاستئثار بالحكم

من المفيد الإشارة أوّلاً إلى أنّ ما حصل أخيراً في سورية عملية انتقال سياسي بأدوات عسكرية، وتتويج مسار ثورة شعبية، راوحت بين نهج السلمية والمقاومة المسلّحة، وبين النضال السياسي والنضال الميداني، ضدّ نظام سلطوي مُغلَق. وسُلّمت السلطة بين رئيس حكومة النظام السابق محمد الجلالي وإدارة العمليات العسكرية بقيادة أحمد الشرع (أبو محمّد الجولاني) في كنف السلاسة. وكُلّف محمّد البشير رئاسة حكومة تصريف أعمال مدّة ثلاثة أشهر. وبعث الثوار مبدئياً رسائل طمأنة إلى الرأي العام في الداخل والخارج، من قبيل تبنّي خطابٍ تآلفي معتدل، بعيدٍ من التعصّب، وحريص على احترام الأقلّيات ومختلف الطوائف، ورفض الانخراط في دوّامة العنف على خلفية الثأر والانتماء الهووي، وعدم المسّ بالممتلكات العامّة والخاصّة. ونجحت (نسبياً) الحكومة المكلّفة في بسط الأمن وتلافي سيناريو اندلاع الفوضى بعد هروب رأس النظام الشمولي.
لكنّ تعيين محمّد البشير، المحسوب على تيّار الإخوان المسلمين، في منصب رئاسة الحكومة، وتولّي الفريق الذي حكم محافظة إدلب إدارة البلاد بعد سقوط الأسد، من دون استشارة بقيّة مكوّنات المشهد السياسي السوري في الداخل والخارج، عدّه بعض المراقبين تجاهلاً للطيف المعارض، ومحاولةً من هيئة تحرير الشام للاستئثار بالحكم. وهو ما نفته الهيئة، مبرّرةً ذلك بإكراهات الظرف الانتقالي، التي اقتضت التعجيل بتشكيل حكومة مؤقّتة لضمان استتباب الأمن واستمرارية فاعلية مؤسّسات الدولة الحيوية. كذلك عبّر آخرون عن خشيتهم من أن تؤدّي المبالغة في نقض إيران والمكوّن الشيعي، والاحتفال بهيئة تحرير الشام وقائدها السنّي، إلى إعادة دولة مذهبية طائفية أحادية. وتواجه الحكّام الجدد في سورية، من الناحية السياسية، عدّة أسئلة، هي في مقام التحدّيات، من قبيل: ما هُويَّة الدولة الجديدة؟ هل ستكون دينيةً أم مدنيةً أم عسكريةً؟ ما طبيعة نظام الحكم، هل سيكون جمهورياً أم ملكياً، برلمانياً أم رئاسياً أم مختلطاً؟ وما محامل الدستور الجديد، ومن يتولّى صياغته؟ وما مدى احترامه للحرّيات العامّة والخاصّة ومبدأ الفصل بين السلطات؟ وكيف يتمّ تأمين التداول على السلطة؟ ما طبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم؟ هل سيتمّ إحداث قانون انتخابي جديد، وآخر للتنظيم الحزبي والجمعوي والنقابي؟… الإجابة عن هذه الأسئلة، وغيرها، بطريقة تشاركية جامعة تُعدّ تحدّياً حقيقياً، ونجاح السوريين في رسم خريطة طريق واضحة المعالم للمرحلة الانتقالية القادمة، وتوسيع دوائر الحوار والمشاركة في صناعة القرار، سيعزّزان الشعور بالمواطنة داخل الاجتماع السوري، وسيعطيان قوى التغيير حاضنةً شعبيةً واسعةً وازنةً. كذلك سيساهمان في رفع العقوبات الدولية المفروضة على سورية.
على الصعيد الاقتصادي، ورثت حكومة البشير عن دولة البعث اقتصاداً سورياً متهالكاً، غلب عليه استشراء الفساد المالي والإداري، وارتفاع الأسعار، وانتشار الاحتكار، وتدهور المقدرة الشرائية، وانهيار البنية التحتية، وانحدار العملة والناتج الزراعي والصناعي. وتشير إحصاءاتٌ صادرةٌ عن البنك الدولي والأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي إلى تقلّص الناتج المحلّي الإجمالي بما يزيد على 85% (2011 – 2023) لينخفض إلى تسعة مليارات دولار. ومن المُتوقَّع أن ينكمش الاقتصاد السوري بنسبة 1.5% أخرى هذه السنة. وتسبّبت سياسات الأسد وحربه الدامية على الثورة السورية في انخفاض إنتاج النفط يومياً في البلاد من 383 ألف برميل قبل الحرب إلى 90 ألف برميل سنة 2023. وتراجعت المساحات الزراعية في البلاد 25% مقارنةً بما كانت عليه سنة 2011. بحسب بيانات التجارة الخارجية السورية، انخفضت صادرات البلاد 89% مقارنةً بما كانت عليه قبل الثورة، لتبلغ أقلّ من مليار دولار. فيما هبطت الواردات 81% فهي تُقدَّر بـ3.2 مليارات دولار. وفقدت الليرة السورية قيمتها في مقابل الدولار الأميركي بمقدار 270 ضعفاً (2011 – 2023)، ونجم عن ذلك تزايد التضخّم في البلاد. ويبلغ متوسّط المرتبات الشهرية نحو 300 ألف ليرة سورية (119 دولاراً تقريباً). فيما تقدّر ثروة عائلة الأسد بين مليار وملياري دولار، بحسب تقارير متواترة. ويعاني معظم السوريين من صعوبات جمّة في الحصول على الماء والكهرباء، والخدمات، والمواد الغذائية الأساسية. وبناءً عليه، فإنّ حكّام دمشق الجدد مطالبون، بحسب مراقبين، باتخاذ تدابير استعجالية لتحسين الوضع الاقتصادي، لعلّ أهمّها توحيد السياسة النقدية وتثبيت العملة، وإعادة هيكلة البنك المركزي وتأمين استقلاليته، وتكثيف مسالك الإمداد بالسلع الأساسية، وضمان وصول الدعم إلى مستحقّيه، خصوصاً في المناطق الطرفية، وتفعيل دور منظّمات المجتمع المدني والهيئات الإغاثية والخيرية في الإحاطة بفاقدي السند وذوي الدخل المحدود، وتجميد الديون إلى حين، وإحداث برامج تمويل عاجلة للمشاريع الصغرى، وتعزيز الرقابة على الأسعار ومكافحة الاحتكار، وترميم البنية التحتية، وضبط خطّة شاملة لإعادة إعمار الأحياء والقرى المدمّرة، وإحياء القطاعات الإنتاجية، وفي مقدّمتها القطاع الزراعي، واستئناف تصدير النفط في المناطق التي كانت محلّ نزاع بين النظام الحاكم وفصائل المعارضة المسلّحة.

حكّام دمشق الجدد مطالبون بتدابير استعجالية لتحسين الوضع الاقتصادي

من الناحية الأمنية والعسكرية، أحدث سقوط النظام وانهيار جيشه وتلاشي أجهزته الاستخبارية فراغاً أمنياً كبيراً. لكنّ عملية ردع العدوان، بقيادة هيئة تحرير الشام، تمكّنت نسبيّاً من سدّ ذلك الفراغ، ونشرت قواتها في معظم المحافظات السورية على نحو ساهم في تأمين الممتلكات العامّة والخاصّة، وتجنيب البلاد الانزلاق في مهواة العنف. وتواجه المنظومة الحاكمة الجديدة عدّة تحدّيات، من بينها ضرورة وضع حدّ للتسلّح العشوائي وحصر السلاح بيد الدولة، وحتمية دمج الفصائل المسلّحة تحت راية الجيش الوطني. ويقتضي ذلك إعادة بناء المؤسّسة العسكرية، وتكوين جيش نظامي، احترافي، يقف على مسافة واحدة من كلّ الفرقاء السياسيين، ولا يرتهن لزعيم أو مذهب أو حزب أو طائفة. بل يدين بالولاء للوطن، ويتولّى الدفاع عن حدوده وثغوره، وسيادته واستقراره، ووحدته الجغرافية. ويقتضي ذلك تطوير الدفاعات البرّية والبحرية والجوّية السورية، وتربية جيل جديد من الأمنيين والجنود على ثقافة المواطنة وحقوق الإنسان. ومن المهمّ الإفادة في هذا الخصوص من تجارب وخبرات جيوش دول متقدّمة، وإبرام اتّفاقيات تدريب ودفاع مشترك معها. ويفترض تحشيد الرأي العام العربي والدولي لوضع حدّ لانتهاكات إسرائيل لسيادة سورية ووحدتها الترابية، وإلزامها باتفاقية فكّ الاشتباك (1974).
تحتاج مكوّنات الاجتماع السوري إلى كثير من التحاور والتوافق والتكاتف، لكسب تحدّيات الانتقال الشامل، وبناء معالم دولة تقدّمية، تعدّدية، عادلة.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى