
أسئلة السوريين أقل كثيراً من الآخرين. السوريون منشغلون منذ انتصار الثورة بفرحة الخلاص من الاستبداد، وبالبحث عن عشرات الآلاف من أحبائهم المختفين في سجون النظام، العلنية والسرية. منشغلون بالفخر، والأمل، واستيعاب اللحظة التي لم تكن في وارد حسابات أحد.
وفي خضم ذلك، ينشغل الآخرون بحسابات “اليوم التالي”، وبالأسئلة الطويلة عن نوايا “الفاتحين”، وما يضمره أحمد الشرع ورفاقه، ومن يقف وراءهم، وكيف تسنى لهم أن يفاجئوا العالم بالقضاء على نظام الأسد في عشرة أيام؟ أسئلة كثيرة بلا إجابات عن انهيار جيش النظام، وشبيحته والعشرات من الميليشيات والأفرع الأمنية واختفائها كأنها قد ذابت في الأسيد.
وسط هذه الأسئلة ذات الأهداف الخبيثة في معظمها، لا يمكن ان يغفل أحد، حذر الجميع من انتقاد الثورة أو فاعليها. حتى ايران وتوابعها ابتلعت الهزيمة كالسم وصمتت، أو انها على الأقل لم تتشبث بميراث الأسد الذي كانت هي جزءاً منه، فيما انتقلت دهشة العالم من منظر النصر السريع والحاسم للثورة، إلى مشاهد القدرة والنضج والمسؤولية والرحمة والتعامل بمنطق الدولة، حتى بدأت دول مجاورة بالمقارنة السريعة بين سلوك الثوار السوريين بعد سقوط الاستبداد، وبين تجارب قريبة سقطت فيها النظم الحاكمة فسادت الفوضى، وروح الانتقام، وتهديم المؤسسات، وصراع السلطة.. وهو ما بات يحرج أصحاب تلك التجارب، ويقدم الثورة السورية بنمطها الملهم بعد النصر، مثلما كانت عندما انطلقت أول مرة.
سوريا الملهمة هذه، هي ما يشغل قوى وحكومات، ويجعلها تخشى من انتقال “عدوى” الثورة إليها، كما يجعلها تسعى لتجنب أسئلة عن الإخفاق في أن يكونوا مثلما فعل السوريون، أو مثلما سيكونون بسرعة ومن دون إبطاء، ولذلك نسمع عن اجتماعات لأجهزة مخابرات دول معينة، لبحث المخاوف من استلهام نجاح الثورة في سوريا، في بلدان أخرى.
هذا الأمر هو ما يحفز الكثيرين للنيل من سوريا وثورتها، لأنهم باختصار، لا يريدون نجاحاً يقارن بفشلهم في الحكم، ولا ثورة صبورة وعنيدة يمكن أن تمنح الشعوب المقهورة في منطقتنا حافزاً للأمر ذاته. فما دام نجح في سوريا، فلماذا لا يحصل الأمر ذاته مع دول أخرى حولها.
هذه المخاوف لا تشغل السوريين، فهم في وسط لحظة تاريخية كبرى، وما لديهم من أولويات يفوق أوهام الآخرين أو قلقهم، أو انزعاجهم من نجاح الثورة وسقوط الطاغية، وغالبيتهم كان من مناصريه أو ممن حاولوا إعادة إنتاجه، ورسموا حوله أماني وأهداف، من دون حساب لما فعل من شرور كبرى بحق شعبه، وما زال، حتى جاءتهم صاعقة سقوطه السريع من حيث لم يحتسبوا.
كان ذلك السقوط لوحده كارثة شملت دولاً عدة، اختلفت في أسباب دعمه. أما طريقة سقوطه وهروبه المهين، فذلك زاد في كارثة الرهان على قاتل علني، ومنحه المنابر ليكذب على الناس علناً، قبل أن يظهر الثوار الذين أسقطوه، بشكل لا يبقي فرصة حتى لانتظار “اختبارهم” على طريقة الأميركيين المولعين بممارسة دور المرشد العالمي، رغم أنه مارس الدور نفسه في العراق قبل 21 عاماً وتسبب بكارثة لذاك البلد وحمام دم، ما زالت آثاره وتداعياته حاضرة بقوة حتى اليوم.
غير أن عدم اكتراث السوريين بما يخشاه أصحاب “الكبائر” من فضائلهم، لا يتوجب أن يبعدهم عن النظر لما يمكن أن يفعلوه ضدهم، أو للنيل من ثورتهم وأمننهم، سواء بالدعاية والتضليل، أو بدعم قوى معادية للثورة في الداخل من بقايا النظام المخلوع، أو بتدبير اختراقات أمنية يمكن أن تجبر القيادة الجديدة على إجراءات أكثر حزماً لحفظ الأمن، فيستغلها هؤلاء لمزيد من الدعاية والتضليل.
كل ذلك متوقع منهم. فهم ما زالوا في مرحلة الصدمة، ويبقى أسوأ من عهد الأسد، الذي لا يوجد ما هو أشد سوءا منه، هو إضاعة هذه الفرصة التاريخية التي توفرت للشعب السوري لبناء دولة المواطنة والمساواة والكرامة. وهي فرصة قد لا تتكرر. لذلك من المهم أن يعرف السوريون أن الدفاع عن الثورة ليس بأقل صعوبة وأهمية من القيام بها، وأن منع الثورة المضادة المقبلة من الخارج بأدوات داخلية، أولوية مطلقة لحماية منجزنا التاريخي.
المصدر: المدن