الباحث العاطفي والباحث السلطوي

سلام الكواكبي

في بداية الثورة السورية، وإثر إعطائي مداخلات إعلامية، ونشر نصوصٍ بحثية، اتهمني باحثٌ فرنسي، تملأ صوره ومقالاته وآراؤه وتحليلاته في المسألة السورية وسائل إعلام غربية عديدة، فرنسية خصوصاً، بأنني باحثٌ عاطفي، ولست باحثاً علمياً. وبهذا التوصيف، يضع موضع الشك البعد العلمي لدي، معتبراً أن نصوصي ومداخلاتي الشفهية لا تستندان إلى منهجيةٍ علميةٍ رصينة. وقد خلص إلى أنني أستند فيها إلى موقف عاطفي غير موضوعي وغير مجرّد. والحق يُقال، ليس هذا الباحث نكرة في حقله علميّاً، وكانت لديه أبحاث ودراسات جادّة في الجغرافيا الاجتماعية في سورية. ولكنه مع تطور الأزمان، وبحثاً عن بروز على الساحة الإعلامية، وأخذ مكانة متقدّمة لدى صانعي السياسة، مهما كانت مشاربهم وأخلاقهم، اختار أن يبرّر للنظام السوري جلّ موبقاته، محمّلاً من يعارضه كل المسؤولية في الصراع الذي كان قائماً. زد على ذلك، زار سورية في أثناء المقتلة من دون خجل أو وجل من مئات آلاف الضحايا وعشرات آلاف المغيّبين والمعتقلين. وتأكيداً لموضوعية مُدّعاة، نشر إعلام النظام البائد صوره في حضرة بشار الأسد، ابن أبيه، صاحبي المجازر في المعتقلات وفي المدن السورية واللبنانية. وإن نسيت، لن أنسى جوابه عن سؤال صحافي طلب رأيه في تدمير مدينة حلب، بدعوى وجود إرهابيين فيها. لقد اعتبر هذا التدمير مبرّراً، وأن قصف المدينة ببراميل المتفجرات السورية والصواريخ الروسية كان ضرورياً للقضاء على ما أسماها المجموعات الإرهابية، مشبّهاً جريمة الحرب هذه بتدمير الحلفاء مدينة درسدن الألمانية نهاية الحرب العالمية الثانية، للقضاء على النازية. إضافةً إلى هذا الاستنتاج التبريري وسواه، زيّن صفحته في وسائل التواصل الاجتماعي بصوره في قصر الرئاسة، كما صورة له يرفع إشارة الانتصار أمام دمارٍ ودبابة محروقة في مدينة سورية (ربما حمص). وأخيراً، وضع صورة له وهو يرتدي قميصاً يحمل صورة رئيس النظام الفارّ. يمكننا إذاً أن نستنتج أنه باحثٌ قمةٌ في الموضوعية وفي الحياد.

اليوم، اختفت بقدرة قادر كل هذه الصور من الشبكة العنكبوتية، لكنها موجودة بالحفظ والصون لدى متابعيه وهم كُثر. وعلى الرغم من ثباته المستمر على موقفه، حيث قال في مداخلة له غداة سقوط النظام إن سورية مقبلة على حالة فوضى طالبانية، إلا أنه بدأ أخيراً باستخدام توصيفات سلبية مرتبطة بالنظام البائد، فيما كان يتحاشى تماماً التطرّق إليها سابقاً. فهو اليوم يتحدّث عن نظام قمعي واستبدادي طغى وتجبّر عقوداً على حيوات السوريين والسوريات. في المقابل، يُحذّر من البديل وكأننا به، وهو العالم بطبيعة المجتمع السوري الذي عاشره، طالباً قبل أن يُعاشر قيادته المغتصبة حقوقه باحثاً، يُشير، بطريقةٍ استشراقية ممجوجة وملفوظة، إلى عدم أحقية بني يعرب ومن ماثلهم بالترقي في أسلوب عيشهم السياسي، وصولاً إلى اختيار حكامهم بعيداً عن الاستبداد وشعائره.

عندما أشار غرامشي إلى المثقف العضوي، كان يخوض في توافق المواقف مع مشروعية القضايا

ليس هذا الباحث حالة فردية، لكنها الأبرز والأكثر جرأة، المسمّاة أحياناً وقاحة، في التعبير عن مساندته الطاغية وطرح تبريراته “العلمية” و”الموضوعية”، التي يحلو لبعض زملائه وزميلاته تبنّيها وتطويرها والبناء عليها. وعلى هامش تطور المواقف والدراسات المصابة بالرهاب من الإسلام أخيراً في دولٍ غربيةٍ كثيرة، وبمساندة ممن أصفهم بـ “عرب الخدمة”، يجد بعض الجاهلين بالملف السوري، وباحثنا ليس منهم، في دفاعه وتبريره حقلاً خصباً لإسناد مواقفهم التي يخلطون فيها بين مختلف أنماط الإسلام السياسي والدعوي والراديكالي وإلى آخره، محذّرين من مصيرٍ قاتم ينتظر السوريين وكأنهم يترحّمون على مستبدٍّ مضى.

وفي العودة إلى توصيفه لي ولباحثين غيري، سوريين وغير سوريين، أخذوا موقفاً واضحاً من العسف ومن الاستبداد بعيداً عن الحسابات الشخصية والمنافع الذاتية، متجنّبين الصياغات العلمية المبحرة في الكلام المجرّد، وفي المواقف المبهمة، ومتحاشين الإكثار من المراجع تمييعاً للموقف المتصالح مع الطغيان، فقد أوضحت الأحداث أخيراً أن الموقف الأخلاقي، كما العاطفي، لا يتعارضان مع علمية التحليل وموضوعيته. نادراً ما يذكر التاريخ العلماء والمثقفين الذين حابوا السلطة. في المقابل، تملأ أسماء المثقفين والعلماء الذين واجهوا الاستبداد كتب التاريخ. من هؤلاء من دفعوا حياتهم ثمناً لمواقفهم. ومنهم من أفنى عمره في معتقلات المستبد وسجونه. وقد خسر جلهم الوظائف والأملاك جرّاء التزامهم وتبنيهم موقفاً أخلاقياً وطنياً وإنسانياً. بالمقابل، فقد كسبوا راحة الضمير وأثبتوا أن أنطونيو غرامشي، عندما أشار إلى المثقف العضوي، لم يكن يخوض في العواطف، بل في توافق المواقف مع مشروعية القضايا.

في عددها الصادر أخيراً، تطرّقت “لوكانار أونشينيه”، وهي صحيفة ساخرة سياسية مشهورة في فرنسا، إلى مواقف هذا الباحث القريبة من النظام البائد، مشيرة إلى زيارته المعلنة لدمشق في 2016 برفقة رموز من اليمين الفرنسي المتطرّف. وأبدت الصحيفة استغرابها إصرار الإعلام السياسي على اعتماده محللاً موثوقاً للملف السوري.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى