منذ وقت ليس ببعيد كنت أتجاذب أطراف الحديث مع بعض المهتمين “بمشروعي مع الرئيس” وتطوره باتجاه الخطوات التنفيذية التي تسير بخطى ثابتة بفضل الله، وكان الحديث يتناول أصحاب الحبة الحمراء وأصحاب الحبة الزرقاء ولماذا هذا التقسيم؟ وجدت في مقاربة حادثة سراقة بن مالك بن جُعشُم مع النبي عليه أفضل الصلاة والتسليم خير استشهاد على ما سأسوقه بما يخص معركتنا مع أنفسنا وانقسامنا إلى فئتين. تقول كتب السيرة؛ لما وصل سراقة بن مالك للرسول ﷺ انغرست قدما فرسه في الوحل فطلب من رسول الله أن يدعو الله لينجيه مما هو فيه على أن يرجع عنهم ويعمي عنهم الطلب فدعا له رسول الله ثم قال له: كيف بك إِذا لبست سِوَارَيْ كسرى ومِنْطَقَتَه وتاجه، فقال سراقة: كسرى بن هرمز؟ فقال رسول الله: نعم. العجيب في هذه الحادثة أن سراقة صدق وعد النبي ﷺ رغم أنه لم يؤمن في ذلك الوقت وكان يعلم أن الرسول ﷺ في أضعف حال. قد يقول قائل إن سراقة يعلم أن الرسول ﷺ لا يكذب ولكن كيف آمن سراقة أن النبي ﷺ سيتمكن من امتلاك ما وعده به؟ أيعقل أن يكون إيمان سراقة بتحقق وعد الرسول له وهو مازال على ملة الكفر أقوى من إيمان المسلمون اليوم بنصر الله؟
منذ يومين أرسل لي أخ صديق رابط عن وثيقة خطها مالك بن نبي بعنوان (32) ” من أجل مليون من الشهداء” مؤرخة بتاريخ الأول من فبراير 1962 في القاهرة، يتحدث فيها مالك بن نبي عن الحريات والحقوق التي مات من أجلها مليون شهيد اً ليكونوا على بصيرة من الأطماع التي تزحف نحو ثمرة ثورتهم لتسرقها من أيديهم. تلك الوثيقة تعتبر أهم وثيقة بعد بيان أول نوفمبر. مما يدعو للدهشة أن هذه الوثيقة على أهميتها لم تنشر إلا مرة واحدة ضمن ملاحق مذكرات الرائد لخضر بورقعة (33) بعد 38 سنة على كتابتها أي في عام 2000!
الوثيقة متضمنة لعشرة نقاط جوهرية وتنتهي بخلاصة يقول فيها مالك بن نبي التالي: ” يجب علينا ألا نترك الشعب يخوض معركة انتخابية في الظلام الكثيف الذي يخفي عن بصره الحقيقة المؤلمة التي أحاطت بثورته، والتي يحاول الزعماء، كلّ على شاكلته، إخفاءها إلى الأبد، والتي كانت تتجلى في ذلك الواقع الذي كشفته لنا الأيام. وهي أن أيام الحداد والبؤس التي عاشها الشعب خلال الثورة كانت أسعد أيام زعمائه , أولئك الذين صرفوا دماءه في ولائمهم حيث تسكب الشامبانيا والويسكي كما يتصرف أمراء العرب في بترول بلادهم لتشييد قصور ألف ليلة وليلة…ويجب أن نضيف إلى هذا أنه لم تخرج من فم أي عالم أو مثقف جزائري أثناء هذه المأساة المحزنة أية صرخة استنكار لإيقاظ الشعب لواجبه ,بل كان كل واحد حريصاً على أن يأخذ مقعداً في وليمة الزعماء أو ينتظر دوره, بينما كان من الواجب على كل جزائري ذي ضمير أن يبلغ الشعب هذه الشهادة حتى يكون على بينة من الأخطار التي تهدد الحقوق والحريات المقدسة التي ضحى من أجلها مليون من أبنائه الشهداء, ولكي يكون على بصيرة من الأطماع الحقيرة التي تزحف نحو ثمرة ثورته لتجنيها من يده.”
هذه الوثيقة سُلمت من قبل مالك بن نبي للدكتور عمار طالبي ليبلغها إلى الدكتور عبد العزيز الخالدي لنشرها ولكن مع الأسف لم تنشر في حينها ربما لضعف إيمان من حملها وكذلك من قام بالثورة برسالتهم أو ربما لعدم ثقتهم بتحقق وعد الله لهم بالتمكين ولكن بالتأكيد ليس لمضمونها كما صرح الكثيرون! كان لا بد من انتظار صدور كتاب بورقعة “شاهد على اغتيال الثورة” عام 2000 لتظهر إلى العلن بعد 38 سنة على إرسالها بعدما دفنت العشرية السوداء عدداً هائلاً من أبناء الجزائر ودُفِنت قبلها أحلام المليون شهيد بالحرية والنصر!
لماذا أسوق هذه الوثيقة وأقاطعها مع قصة سراقة بن مالك؟ من يتابع العشر نقاط التي تحدث بها مالك بن نبي يلحظ بوضوح أن ما يتكلم به مالك بن نبي عن ثورة الجزائر عام 1962 ينطبق على ثورات الربيع العربي عام 2011 -2020. فهل التاريخ يعيد نفسه أم أن البشر يكررون نفس الأخطاء؟ أحد قوات الفصائل المسلحة في إحدى دول الربيع العربي يتحدث عن حجم الكوارث التي ارتكبها قادة الفصائل، وكيف تلاعب بهم أعداء الثورات ثم يردف بعد أن سأله أحد الثوار؛ وهل هؤلاء على استعداد للاجتماع وكتابة وثيقة أين أخطؤوا وأين أصابوا حتى لا يقعوا بنفس الأخطاء ويخطون وثيقة ما بعد سقوط الطغاة؟ فيكون جوابه أنه لن يستجيب إلا من رحم ربي أما الأغلبية فسيكررون نفس الأخطاء.
السؤال هنا هل إيمان سراقة وهو يرى شخصين معزولين في الصحراء يلاحقهما بنو جلدتهم وقد جعلوا فيهم الدية كما أخبرهم! أقوى من إيمان ثوار ضحوا بحياتهم ليتحرروا من حكم فراعنة بلادهم ليجدوا أنفسهم بعد حين يستبدلون فرعون بفرعون آخر وطاغية بطاغية آخر؟
إن الايمان بالنصر وحسن الظن بالله سلاح لم نعرف معناه بعد ولم نذق طعمه بعد! يسألني كثيرون هل تؤمن بما تكتب وأنه سوف يتحقق أقول بكل جرأة الجواب “نعم إذا كنا صادقين مع الله، من صدق الله صدقه”.
المشاريع الكونية يتشرف البشر بحملها وليس العكس والنتائج بها بالتأكيد أطول من أعمار البشر. لماذا آمن ماير روتشيلد ببناء امبراطورية اليهود التي ستحكم العالم ولم يرها قط وحققها من آمنوا معه من بعده؟ عندما سألوا هامان القرن العشرين تشرشل ما تعريف النجاح أجاب ” إن النجاح يتكون من الانتقال من فشل إلى فشل دون أن تفقد الحماس “! السؤال الآن هل إيمان أعداء الثورة أقوى من إيمان الثوار؟ يقول الإمام محمد الغزالي رحمه الله قولاً يتقاطع مع قول تشرشل ” كي تنجح في الحياة تحتاج أمرين الثقة والتجاهل “. الثقة والتجاهل أهم نقطتين لتشريح ما وقع به الثوار من ثورة الجزائر إلى يومنا هذا؛ عدم الثقة بأنفسهم ووعد الله لهم بالتمكين، وعدم تجاهلهم لتثبيط أعدائهم! ماذا لو نجح رستم في تثبيط ربعي بن عامر هل كان سيهزم المسلمون كسرى؟ ماذا لو ثبط الفشل المتكرر لأشهر في اختراق أسوار القسطنطينية ابن الأربعة والعشرين ربيعاً هل كنا لنكون هنا! أم أن ثقته المطلقة ومن أمن معه بنصر الله جعلهم يحملون السفن عبر الجبال؟ النصر موجود دائماً لمن يؤمن به حقاً فما بالك إذا كان الوعد من مالك الأمر!
لو أن شركة هواوي Huawei آمنت أنه لا يمكن أن تنافس عمالقة وادي السيليكون هل كان لها أن تنجح في اللحاق بهم وتجاوزهم؟ لو أن أصحاب المال آمنوا باستثمار جزء من ثروتهم في خدمة مشاريع أمتهم الكبرى -على استحالتها بموازين الدنيا -هل كانوا نَجَوْا وأنَجَوْا وأنَجَحُوا ونَجَحُوا في زمن كورونا وما بعدها؟ لو أن من حمل السلاح أو كل ثائر حاسب من نصب نفسه قائد فصيل أو تجمع سياسي على قراراته، ولو وضعت محاكم لكل من شارك في الآلام والضحايا من الجانبين في ثورات الربيع العربي وشعر الجميع ألا أحد فوق المحاسبة في كل المجالات السياسية والمدنية والعسكرية والدينية هل كنا امتلكنا مفاتيح التمكين؟ ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ [السجدة: 24].
ربما نطرح أسئلة كثيرة لنحاول أن نذكر أنفسنا وننبه الغافلين على أن يتفكروا في دورهم، الضعيف قبل القوي ومن لا يملك المال أو القرار قبل من يملكهم، عندما يشعر أضعف أنسان أن بإمكانه أن يحاسب أقوى إنسان عندها ينجو الاثنان وعندها لن يسرق أحد -مهما كان قوياً- ما منحك الله إياه. تظهر حقيقة اليقين بالله في مراحل الضعف وليس في مراحل القوة، يكون اليقين ثابتاً راسخاً لصاحب الثقة بالله مهما حلك الظلام، واشتد الضيق، واجتمعت الكروب، وتكالبت منظومة فرعون الشريرة، لأن أمله بالله كبير ويقينه بأن العاقبة للمتقين.
إذا لم يعرف من أخطأ بحق أبناء جلدته ممن ادّعى نصرة مظلوميهم أنه سيُحاسب كما سيُحاسب الطغاة فستكون مرحلة ما بعد سقوط الطغاة أشد وطأة مما قبلها. ﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [إبراهيم: 22].
السؤال الأخير كم بقي لنا في تيه موسى؟ أربعين سنة أم أربعمائة، أو أربعين يوم أم أربعين ثانية؟ على كل إنسان أن يسأل نفسه هذا السؤال قبل أن يسأله ربه ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الشعراء: 88-89].