سورية… الخلاص والأمل

بسمة النسور

قبل السقوط المذلّ لطاغية دمشق، وبعد مؤشّرات التحرّر التي هلّت من حلب، سألتُ صديقاً سورياً عارفاً ببواطن الأمور: هل أفرح أم أحزن أم أخاف؟ ردّ: “كلهن سوا”… لم أستوعب هذه الإجابة المحيّرة التي تقترح خليطاً من المشاعر المتضاربة في آن. حتى جاء النبأ العظيم بهروب المجرم وعائلته، مثل جرذان مذعورة تحت جنح الليل، مخلّفين وراءهم آثار الفضائح والخراب والدمار والقتل والجوع والحرمان والاغتصاب والأسر في سجون (مسالخ) نازية المواصفات. وقد تخلّى بطل المقاومة الكرتوني عن أقرب الناس إليه ممن عادوا شعبهم وخانوا بلدهم وتبنّوا خطابه المزيف الكاذب الذي انطلى على يسار عربي ساذج هشّ، ما زال متمسّكاً بمبدأ عنزة لو طارت، مستكثراً على شعب سورية العظيم فرحته الكبرى في الخلاص من نير عائلة من الطغاة، جثمت على صدره عقوداً طويلة من الرعب والإرهاب والتنكيل!
لم يتوقف أيٌّ منهم عن النعيق والتنظير والتشكيك وبث الأكاذيب والإشاعات المغرضة والتشويه بحق أبناء سورية الأحرار الذين انتفضوا بعد طول صبر وعناء ومكابدة، واجتثوا المستبد من جذوره مكلّلاً بالخزي والعار والمذلة والهوان، وقد تخلّى عنه الحلفاء (في ليلة ما فيها ضوء قمر)، وهم من توهمهم ستراً وغطاءً لجرائمه الفظيعة بحق شعبٍ حرٍّ أعزل، جرى حرمانه، بمباركة إيرانية روسية، من أبسط حقوقه الإنسانية في العيش بأمان وكرامة وحرية، مثل بقية خلق الله.
وتظلّ المشاهد السوريالية الصادمة من سجن صيدنايا لمعتقلين نالوا حرّيتهم بعد اغتيال زهرة شبابهم، لم يروا شمس النهار سنين طويلة، شاهدة على مدى البطش والوحشية الذي بلغه هذا النظام الفاشستي المجرم الذي عرّض المعتقلين لأبشع صنوف التعذيب الجسدي والمعنوي، واستباح شرف المعتقلات اغتصاباً وتنكيلاً يصعب استيعابه على عقل (ووجدان) أي بشر، مهما بلغت درجة قسوته.
يغمض رموز في اليسار العربي المتهالك من مدّعي المعرفة والحكمة عن كل تلك الفظائع التي ما خفي منها أعظم، ويتباكى على الحرّيات التي لم ينعم بها فيها سورية المغتصبة المحتله سوى نفر قليل باعوا ضمائرهم بالمجّان، يشكّكون في وطنية الأحرار، وينتقدونهم كونهم لم يحرّروا الجولان في أسبوع، وكأن الطاغية الجبان كان حامياً له، وكأن طائرات العدو طيلة مدة حكمه لم تذرع وتتبختر “على أقل من مهلها” في سماء سورية جيئةً وذهاباً، فيما هو محتفظ بحقّ الردّ! ويتغافلون عن أن الهالك حافظ الأسد سلمها طواعية إلى الكيان الصهيوني، ضماناً للكرسي الذي ثبت على جماجم أبناء سورية، وبتواطؤ من الكيان الصهيوني ذاته. الآن فقط تذكّروا الجولان المحتل (صحّ النوم، كثّر خيركم والله! ما قصّرتو). يتجاهلون، عن سبق تعمّد وعناد وإصرار وتعنّت، الظلم والقهر والقتل والتهجير والدم المسفوح بحقّ السوريين من كل المنابت والأصول والأعراق والأديان، كرمى لسيدهم المجرم السفّاح، القاتل الخائن، المتدثّر إلى حين بفراء الدبّ الروسي الذي سيُنزع عنه حتماً، وسوف يقع في قبضة العدالة ويحاكم أمام كاميرات الدنيا مجرم حرب نازياً عديم الوجدان والضمير.
نعم، نفرح من قلوبنا لسوريّتنا حرّة أبية، وقد انقشعت الغمّة عن كاهل أبنائها الأبطال، نشاطرهم أفراحهم، ولا نخفي انحيازنا للحق المهدور، ونحزن، في الوقت ذاته، على ملايين الشهداء الذين ضحّوا بدمائهم، ولم يشهدوا لحظة اندحار العتمة وانبثاق شمس الحرية. نستذكر الشهيد الفتى حمزة الخطيب، وعبد الباسط الساروت الذي صدحت حنجرته بكلمة الحقّ. نستذكر المهجّرين الذين ابتلعتهم البحار، والذين عانوا ما عانوه في بعض بلاد الغربة من اضطهاد وتمييز وتنمّر وسوء أحوال معيشية، ونتوجّس قليلاً من توابع الزلازل، غير أننا نتشبث بالأمل والحلم سلاحاً نشهره في وجوه الطغاة المندحرين.

 

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى