ليس مفاجئًا أن يلد الصراع السوري أشكالًا سياسية، تأتي في إطار تحالفات وتجمعات، سرعان ما تذوب في معمعة الصراع، نتيجة حسابات غير واقعية لمعادلات آفاق الصراع وقواه المحركة الحقيقية.
ويمكن اعتبار الإعلان عن تشكيل “جبهة السلام والحرية”، الذي تمّ التوقيع عليه بتاريخ 28 من تموز الحالي، ضمن هذا السياق، فالبيان الذي صدر عن هذا الإعلان، مُرّر فيه ما تريده بعض القوى الموقعة عليه، وتحديدًا استخدام مصطلح “لامركزي”، بوصف النظام السياسي السوري الجديد والمنشود، بعد رحيل نظام الأسد، فهذا المصطلح بقي دون تحديد، فاللامركزية لها أشكال مختلفة ومتباعدة بالجوهر، كاللامركزية السياسية، واللامركزية الإدارية…
وفي نظرة أولى، البيان تم التوقيع عليه بين “المجلس الوطني الكردي” وفعاليات سياسية إثنية أو مناطقية ضعيفة بالمعنى السياسي، قياسًا بـ”المجلس الوطني”.
البيان تحدث عن تحليل الواقع السوري الراهن، لكنه تجاهل أن أي قيمة سياسية للحل في سوريا، تكون خارج مفهوم الوطنية السورية، هي فعليًا ليست ممكنة، بل تأتي في ظل تجاذبات القوى المنخرطة في الصراع السوري.
ولإيضاح الرؤية حول دور “المجلس الوطني” في قيام هذه الجبهة، ينبغي البحث عن دلالات إنشائها، فـ”المجلس الوطني”، وهو جزء من “ائتلاف قوى الثورة والمعارضة”، يعمل على أكثر من اتجاه من أجل تحقيق مكاسب تلبي برنامجه السياسي، وتحديدًا بما يخص اللامركزية السياسية، كنظام لسوريا الجديدة.
“المجلس الوطني الكردي” فتح قناة تفاوض برعاية أمريكية مع “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، والطرفان يختلفان في نظرتهما العميقة لرؤية سوريا الجديدة، فـ”المجلس” يؤمن بضرورة اعتماد نظام فيدرالي في البلاد، بينما يذهب حزب “PYD” إلى الإصرار على مفهوم الكيان الذاتي الكردي في شمال شرقي سوريا.
وحين وصل أمر التفاوض إلى نقطة محددة بين الطرفين، بدت أنها ستواجه برفض كبير وملموس من قوى فاعلة على الأرض أو قوى إقليمية، وتم البحث من قبل “المجلس الوطني الكردي” عن صيغة تغلّف اتفاقه مع حزب “PYD”، فكان من الضروري له البحث عن شركاء بلون إثني، يحقق له مراده بمفهومه عن اللامركزية السياسية.
إن ذكر اللامركزية كنظام لسوريا الجديدة، دون تحديد ماهية هذه اللامركزية، هو شكل من الخروج عن برنامج سياسي يعتمده “ائتلاف قوى الثورة والمعارضة”، وإن إصرار “المجلس الوطني الكردي” على البقاء في مؤسسة “الائتلاف”، وبنفس الوقت بحثه عن صيغ تحالفية خارج هذه المؤسسة، يعني ببساطة أنه يتحالف مع قوى الثورة في مؤسستها ويتناقض مع جوهر برنامجها الوطني، وهذه سياسة لا تنمّ عن وحدة الرؤية والموقف السياسيين لـ”المجلس الوطني الكردي”.
بيان تأسيس “جبهة السلام والحرية”، تحدث عن “خصوصية كل المكونات السورية وحقوقها القومية والديمقراطية”، ليصل إلى فكرته التي تقصّد تعميتها، وأطلق عليها تسمية “نظام لامركزي” غامض وغير محدد البنية.
هنا يمكن طرح أسئلة واقعية ومشروعة، وأول هذه الأسئلة، لماذا يتم إنشاء جبهات وتجمعات سياسية ذات أثر محدود على بناء الوطنية السورية، التي يشكّل المكون العربي فيها الأغلبية الكبرى في كل مناطقها.
إذا أردنا أن نناقش فكرة تأسيس “جبهة السلام والحرية”، وقول الموقعين على بيان تأسيسها “قيام هذا التحالف لا يؤثر سلبًا على استمرارية عضوية الأطراف المشكلة لها في الأجسام والمؤسسات السياسية السورية المعارضة”، سنلمس في هذا السياق، أن هذه مبادرة تخصّ أطرافها، وهي بعيدة عن محاولة اجتماع السوريين حول تحديد مفهوم الوطنية السورية، ومعنى اللامركزية، باعتبارها لامركزية إدارية، أو لامركزية سياسية.
الجهد الذي جمع أطراف “جبهة السلام والحرية” لإعلان جبهتهم، هو جهد يبدو أنه يريد أن يلوّح بورقة سياسية تخص احتمال بناء نظام سياسي سوري، وفق مصلحة الطرف الأقوى بين الموقّعين، وهو “المجلس الوطني الكردي”.
هذا الجهد ببساطة، يهدر فرص الحوار مع المكونات الوطنية المختلفة، محاولًا الإيحاء بضرورة تطبيق فكرته على أنها هي الأفضل، والأكثر إمكانية للتحقق، من بقية الأفكار والطروحات الأخرى، وهذا عجز حقيقي عن رؤية جوهر الصراع في سوريا، ومحاولة في استثماره من خلال محاولات التقاطع مع رؤى بعض الأطراف الدولية المنخرطة في الصراع السوري.
إن حقوق المكونات السورية يتم نقاشها وبلورتها في دستور وطني يحدده السوريون، وليس بمحاولة فرض صيغ سياسية على البلاد من مكونات سورية محددة، تعتقد أنها ستنال ما تريده وفق وضع الخلخلة السياسية والأمنية السائدة في البلاد حتى الآن.
بمعنى آخر، لا يمكن اعتبار أي جهد سياسي على أنه وطني، ما دام يستند إلى ما تدفع به قوى دولية منخرطة في الصراع السوري، ولا يمكن قبول رأي يمثل مكونات صغيرة، على أنه الأجدر والأفضل والممكن على حساب المكوّن الكبير.
الجهد السياسي الذي يمكن إطلاق صفة الوطنية عليه، يقوم على توافق المكونات السورية دون تدخلات خارجية، وهذا يعني، اعتماد مبدأ المساواة في الحقوق والواجبات لكل المكونات دون تمييز، وحين نقول المساواة، فنحن نقصد الحقوق الثقافية والسياسية والاقتصادية ضمن وحدة الدولة ونظامها اللامركزي الإداري.
لهذا فإن هدر فرص الحوار على رؤى ضيقة وطنيًا، لن يخدم بالمحصلة ترسيخ مفهوم الوطنية السورية، أو قيام دولة المواطنة للجميع.
وفق هذه الرؤية يمكن القول، إن القوى السياسية الكردية السورية لا تزال عاجزة عن تغليب وطنيتها السورية على اعتقادها بضرورة بناء هويتها القومية، في ظل ظروف إقليمية ودولية، لا تسمح ببناء كيان قومي للكرد.
إن اعتماد القوى الكردية في ساحاتها الوطنية الأربع حلولًا من خارج صيرورة تطور بلدانها التي تعيش فيها، هو شكل ينبغي إعادة النظر فيه خارج ذهنية المفهوم القومي الذي طرحته البرزانية، التي كانت تطرح مفاهيمها القومية انطلاقًا من ذهنية ما قبل وطنية، أي ذهنية قبلية كانت تمثلها الحركة البرزانية آنذاك.
إن إطلاق “جبهة السلام والحرية” لن يغير من حركة واقع الصراع في سوريا، فهناك حقائق لا يمكن طمسها ولا القفز فوقها، وإن العمل وفق أولويتها هو جهد سياسي، يخدم ترسيخ الوطنية السورية، ونقصد بذلك رفض كل حل خارج سوريا الواحدة، ذات نظام حكم ديمقراطي تعددي، يبني دولة المواطنة الواحدة.
المصدر: عنب بلدي