ليس هناك خلاف حول مساوئ الاستعمار الغربي، وكل تلك الأضرار التي تعرّضت لها الدول التي تم استعمارها، ولا شك في أن ثروات الدول المستَعمَرة هي التي ساهمت في نهضة الدول المُستعمرة وتقدمها وغناها. ولا شك أن دول الغرب الأوروبي الاستعماري، ومن بعدها الإمبريالية الأميركية، قد ارتكبوا جرائم عديدة في حق شعوبٍ كثيرة.
ولكن يلاحظ أنه يتم في الخطاب العربي، الرسمي والشعبي، ذكر الولايات المتحدة وأوروبا الغربية فقط عند إيراد الدول ذات التاريخ الاستعماري الطويل، أو عند الحديث عن الاستعمار والإمبريالية، أو الدول التي تسعى إلى الهيمنة والسيطرة وسرقة مقدّرات الشعوب، أو عند الحديث عن الدول التي تتدخل في شؤون دول أخرى، في حين أنه كثيرا ما يكون هناك إغفال لدول أخرى تسعى إلى الهيمنة، ولا تقل أدوارها عبر التاريخ عن أدوار الدول الاستعمارية الغربية، دول لديها سلوك استعماري قديما أو حديثا، ويتم تجاهل الإشارة إليها، على الرغم من أنها ذات مسلك استعماري أو تعمل على الهيمنة على دول أخرى، إيران وتركيا أمثلة لقوى إقليمية كان لها أطماع في المنطقة في عهد الإمبراطوريات.
وهذه الأيام أيضا تطالعنا أخبار مجموعة فاغنر الروسية، وهي منظمة عسكرية تابعة للمخابرات الروسية بشكل غير رسمي، ويتم تكليفها بتنفيذ الأعمال القذرة والاغتيالات والأنشطة التي لا يريد الجيش الروسي التورّط فيها صراحة، أنشأها ضابط سابق في الاستخبارات الروسية، يدعى ديمتري أوتكينوكانو، وهو الذي يطلق عليه لقب “فاغنر”، وقوامها من ضباط وجنود سابقين شاركوا في حروب روسية سابقة، مثل غزو أفغانستان، وحرب الشيشان، أو غزو جورجيا والقرم، وهي مجموعة مسلحة، تشبه شركة بلاك ووتر الأميركية التي تضم مرتزقة ارتكبوا جرائم كثيرة في العراق قبل سنوات، وهناك تقارير صحافية كثيرة عن دور مجموعة فاغنر الروسية في دعم بشار الأسد ونظامه في سورية. وفي بداية العام الماضي، كانت هناك قضية مثارة في الإعلام الدولي عن اغتيال مرتزقة فاغنر الروسية ثلاثة صحافيين، كانوا يعدّون تقارير صحافية عن امتداد نشاط المجموعة في ليبيا، لخدمة الأهداف التوسعية الروسية، وتحقيق الرغبة القديمة في وجود منفذٍ على ساحل المتوسط.
يدين أغلبنا التدخل الأميركي في سورية، وينظر آخرون إلى التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) بنظرة الريبة، في الوقت الذي نجد هناك من يدين عدم التدخل، أو التقاعس الأميركي، في القضاء على “داعش”. ولكن ماذا تفعل روسيا في سورية، هل روسيا بوتين جمعية خيرية، أم أنها جاءت لتقديم الإغاثة وتوزيع الورود على الشعب السوري؟ تتحدّث تقارير عديدة إن غرض روسيا أن تتخذ من سورية موطئ قدم لها في الشرق الأوسط، وبذلك تضمن إطلالةً بحريةً على البحر المتوسط، وحدوداً برّية مشتركة مع كل من تركيا، ودولة الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، ولبنان، والعراق، والأردن، فسقوط نظام الأسد يعني فقدان روسيا القاعدة العسكرية الوحيدة خارج روسيا منذ فترة ما بعد الاتحاد السوفيتي. وتسعى روسيا كذلك إلى تقوية نفوذها، وترسيخ مشروعها في الشرق الأوسط، حيث المياه الدافئة، بالإضافة إلى التنافس مع الغرب بشأن توسيع النفوذ بين الطوائف المسيحية الإقليمية.
يسعى الرئيس الروسي بوتين إلى الإبقاء على نظام الأسد، ومنع هزيمته، ليكون ككيان سياسي يوفر له ممرًا سهلًا لبسط النفوذ الروسي، ويضمن لروسيا حصةً في أية تسوية سياسية ضمن البلاد في المستقبل، كما أنه لا يسعى أيضا إلى إحداث هزيمة تامة لتنظيم الدولة الإسلامية، حتى يظل التهديد قائماً دائما. وفي سبيل الوجود على ساحل المتوسط، ارتكبت روسيا انتهاكات ومذابح كثيرة، وقتلت آلاف المواطنين السوريين الأبرياء.
ولروسيا تاريخ كبير في مساعي الهيمنة والتوسع، مثل باقي الدول الاستعمارية، فروسيا القيصرية قديما قد أبادت ملايين المسلمين عبر تاريخها الدّموي، واستغلّت ثرواتهم قرونا طويلة، ولا تزال تستغل خيرات وموارد كثير من تلك الدول، بصفتها كانت جزءا من الاتحاد السوفيتي حتى وقت قريب. وكانت روسيا القيصرية، ثم الشيوعية بعدها تستولي على بلدان وسط آسيا والقوقاز المسلمة ومنطقة البحر الأسود والقرم.
وكثيراً ما نقرأ للقوميين والشيوعيين العرب خطابات ثناء ومديح على المواقف الروسية حالياً، أو السوفيتية سابقا من القضايا العربية، والقضية الفلسطينية خصوصا، وكأن روسيا دولة عربية تربطها أصول مشتركة بالعرب أو المسلمين، على الرغم من أن الروس هم أوّل من أعطى وعداً بمنح اليهود أرض فلسطين بعد انتصار الثورة البلشفيّة في العام 1917، حيث كان هناك كثير من التعاطف مع الحركة الصهيونية والقومية اليهودية من الحركة الشيوعية منذ بدايتها. وهناك تنظيرات عديدة اعتبرت أن الدعم مهم للحركة الصهيونية، لأن اليهود شعب مضطهد في أوروبا. ويفسر بعضهم ذلك التعاطف بأن كثيرين من رموز الشيوعية ومؤسسيها في العالم من اليهود في الأساس، أضف إلى ذلك هجرة العلماء اليهود الروس إلى إسرائيل وبنائها لها، ونقل كل تلك العلوم والخبرات، وهناك ما يقرب من مليوني روسي يعيشون في الكيان الصهيوني، ويسخِرون خبرتهم العلمية والعسكرية في خدمة الاحتلال.
وفي عام 1947 دعم السوفييت خطة التقسيم التي دعت إليها الأمم المتحدة، والتي كانت بغرض إقامة دولة يهودية في فلسطين. وكان الاتحاد السوفيتي من أوائل الدول التي اعترفت بـ”دولة إسرائيل”، بل وندّد بالتدخل العسكري العربي وإعلانه الحرب، كما أنه عقد عدة اتفاقيات مع دولة الاحتلال، منذ إنشائها. وظلت السياسة الروسية تجاه القضية الفلسطينية تتراوح وتتجاذب حسب مصالحها الجيوسياسية وتنافسها مع غريمها التقليدي، الولايات المتحدة الأميركية، في المنطقة، إلا أن ميزان الترجيح في الأفعال كان دائما يميل إلى كفة “إسرائيل”، وعدم السماح بهزيمتها بأي حال، وهذا يفسر كثيرا العلاقات الوثيقة بين بوتين ورئيس حكومة الاحتلال، نتنياهو، رغم تحالف روسيا مع بشار الأسد على الجانب الآخر.
وقبل بدء الصراع العربي الإسرائيلي بزمن طويل، هناك تاريخ طويل من الاضطهاد ضد الأعراق، والأديان المختلفة للعرق السلافي في مناطق شرق أوروبا وآسيا الوسطى، ففي الحربين العالميتين، الأولى والثانية، تم ارتكاب مذابح وانتهاكات بحق تتار القرم، وتم ترحيلهم إلى سيبيريا ومناطق أخرى، خوفاً من مساندتهم الألمان في تلك الحروب. وترصد تقارير تاريخية إبادة 350 ألفا من تتار القرم من المسلمين، بجانب إجبار الملايين على الرحيل، بالإضافة إلى الروايات التاريخية عن المذابح التي ارتكبها الزعيم جوزيف ستالين (توفي 1953) في حق التتار المسلمين.
وقبل ذلك بأكثر من مائة عام، كانت روسيا القيصرية تتوسع في مناطق أخرى، تعتبرها تابعة لنفوذها، على الرغم من اختلاف اللغة والثقافة والدين، مثل مناطق آسيا الوسطى، ومنغوليا، والدول المجاورة للبحر الأسود، وبحر قزوين، وأعراق أخرى مثل الطاجيك والأوزبك، ومناطق إسلامية مثل بخارى، وسمرقند، وطشقند، إلى أن كان احتلالها أفغانستان عام 1979، بهدف استغلال موارد أفغانستان، والوصول إلى منابع النفط، واحتواء الصين من جانبها الغربي، بالإضافة إلى دعم الحكومة الشيوعية الموالية لها.
أما عن علاقتها بالقضية الكردية، فقد لعبت روسيا أيضاً على هذه الورقة، بغرض دعم مصالحها، فقد دعمت مليشيات الزعيم الكردي مصطفى البرزاني والحزب الديمقراطي الكردستاني في العراق لإسقاط جكومة نوري السعيد (1888 – 1958)، كما دعمت الاقتتال الكردي تاليا بين مسعود البرزاني وجلال الطالباني. وفي تركيا، دعمت روسيا تمرد عبدالله أوجلان وحزبه (العمال الكردستاني) سنوات طويلة، قبل أن تتخلى عنه في مقابل توقف تركيا عن دعم المقاتلين الشيشان.
وبشكل عام، وفي قواعد الجيوبوليتيك، هناك نظرية قلب الأرض للألماني ماكندر (1861 – 1947)، أن من يسيطر على منطقة قلب الأرض يحكم العالم، والمقصود شرق أوروبا ووسطها ووسط آسيا وغربها. ومعروفٌ أن الوحدات الكبيرة تسعى إلى التهام الأصغر منها، أو على الأقل السيطرة عليها واستقطاع جزء من مواردها. ولا تنتهي الرغبة في الالتهام والسيطرة والهيمنة، طالما كانت هناك قوة وإمكانيات لذلك، فالعلاقات الدولية تشبه العلاقات بين الحيوانات المفترسة في الغابة، توازنات ومناطق سيطرة حسب القوة والعزوة. وإذا كان مصطلح الإمبريالية والاستعمار يشير عادة إلى الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، إلا أن هناك أيضا دولاً أخرى لديها تطلعات استعمارية، وترتكب الممارسات نفسها، وإن كان لا يتم إدانة أفعالها بالمقدار نفسه، لأسباب سياسية أو نفعية أو أيديولوجية.
المصدر: العربي الجديد