تهيمن على عقول المراقبين لما يجري في المنطقة، خاصة عقب فوز دونالد ترامب بولاية ثانية لرئاسة الولايات المتحدة، رؤيتان متناقضتان تدوران حول كيفية التعامل مع إيران في المرحلة المقبلة. الأولى متشائمة ترى أن الأوضاع في المنطقة تتجه حتماً نحو حسم عسكري ينتهي بسقوط النظام الإيراني، شرطاً ضرورياً لاستقرار المنطقة من المنظورين الأميركي والإسرائيلي. والثانية متفائلة ترى أن ترامب مقاول يتقن فنّ إبرام الصفقات الكُبرى، وليس جنرالاً يعشق شنّ الحروب، وأن الأوضاع في هذه المنطقة باتت ناضجةً بما يكفي لتمكين رئيس أميركي جسور من بلورة وفرض تسوية شاملة تشمل إيران أيضاً. وبينما ترتكز الرؤية المتشائمة لمسار الأحداث على فرضيات وشواهد تنطلق من إيمان راسخ بأن الصراع الممتدّ بين إيران والكيان الصهيوني، الذي بدأ منذ اللحظة الأولى لنجاح الثورة الإسلامية في إيران عام 1979(وما زال محتدماً) غير قابل للتسوية السلمية ولا يمكن حسمه إلا بحرب، خصوصاً بعدما أصبحت إيران تشكّل تهديداً وجودياً للكيان. ترتكز الرؤية المتفائلة للأحداث على فرضيات وشواهد أخرى تنطلق من قناعة بأن الحرب المحتدمة حالياً أفرزت نتائجَ من شأنها إنضاج الشروط اللازمة للتوصّل إلى تسوية شاملة عقب دخول ترامب البيت الأبيض.
يبدو الصراع بين إيران والكيان غير قابل للتسوية بسبب طبيعة الثورة الإسلامية في إيران، من ناحية، وطبيعة العلاقات التي ربطت النظام الإيراني القديم بكلّ من الولايات المتحدة والكيان، من ناحية أخرى. فالنظام السياسي الذي استقر في إيران بعد الثورة هو نظام عقائدي يتعامل مع الصراع من منظور إسلامي راديكالي، وبالتالي يدرك المشروع الصهيوني باعتباره خطراً على الإسلام والمسلمين ككلّ، وعلى هُويَّة إيران الحضارية والدينية. ولأن الثورة الإيرانية اندلعت أصلاً ضدّ نظام الشاه، الذي ربطته علاقات وثيقة بكلّ من الولايات المتحدة، التي يعتبرها النظام الإيراني “شيطانا أكبر”، وبالكيان الصهيوني الذي يعتبره “شيطاناً أصغر”، فقد كان من الطبيعي أن يشتعل الصراع بين تلك الأطراف الثلاثة منذ اللحظة الأولى لاندلاع هذه الثورة، وأن تظلّ نيرانه متّقدةً.
صبّت عملية إدارة هذا الصراع في النهاية لمصلحة إيران. صحيح أن الكيان، وبالتعاون الوثيق مع الولايات المتحدة، بذل جهوداً مضنيةً لعرقلة مسيرة الثورة الإيرانية، وللحيلولة دون تمكينها من ترسيخ جذورها في التربة الإيرانية، ومن انطلاقها نحو آفاق أرحب، غير أن هذه الجهود فشلت. فبعد النجاح في استدراج العراق لخوض حرب مريرة ضدّ إيران، امتدّت ثماني سنوات، واستهدفت استنزاف البلدَين معاً، وإشعال فتنة طائفية في المنطقة، قبلت إيران “تجرّع كأس السم”، حين وافقت على وقف إطلاق النار، وراحت تتفرّغ بعد وقف الحرب لعملية البناء الداخلي، ونجحت في تشييد دولة قوية قادرة على مدّ نفوذها خارج حدودها الجغرافية، مستفيدةً من عوامل ثلاثة؛ أخطاء ارتكبتها الولايات المتحدة، خصوصاً عقب احتلالها العراق، الذي حوّلته لقمةً سائغة للنفوذ الإيراني؛ وفراغ تركته الدول العربية بعد تخلّيها عن القضية الفلسطينية، خاصة عقب إقدام السادات على إبرام معاهدة “سلام” منفرد مع الكيان، ملأته إيران؛ وتعنّت مارسه الكيان برفضه إقامة دولة فلسطينية مستقلة في حدود 1967، وإصراره على بناء دولة يهودية كُبرى مهيمنة في المنطقة، ما أدّى إلى فشل محاولات التسوية السياسية، من ناحية، وتصاعد حركات المقاومة التي أصبحت إيران هي داعمها الرئيس ومزوّدها الأكبر بالسلاح، من ناحية أخرى. وهكذا، وجد الكيان الصهيوني نفسه عشية “طوفان الأقصى” محاطاً من كلّ جانب بحلفاء لإيران، بل أصبحت إيران نفسها دولةً تمتلك برنامجاً نووياً، وآخر صاروخياً، مكّناها من أن تصبح لاعباً مؤثّراً في المنطقة.
ترامب لا يريد حرباً شاملةً مع إيران، لأن هذه الحرب ستؤثّر سالباً في استراتيجيته الرامية إلى إعادة بناء أميركا من الداخل
لم تكن إيران على علم مسبق بنوايا ومخطّطات حركة حماس، حين شنّت “طوفان الأقصى” يوم 7 أكتوبر (2023)، غير أن التفاعلات الناجمة عن هذه العملية الفذّة غيّرت تماماً شكلَ ومعطياتِ الصراع في المنطقة وفي العالم، خصوصاً بعدما ردّ الكيان بشنّ حرب إبادة جماعية على الشعب الفلسطيني، وحاول انتهاز الفرصة لمواصلة مشروعه التوسّعي، الذي لا يكتمل إلا بإقامة دولة يهودية كُبرى. وفي سياق هذه التفاعلات، وجد الكيان الصهيوني نفسه، وللمرّة الأولى في تاريخه، مشتبكاً في حرب تدور رحاها في عدّة جبهات، بما في ذلك جبهة إيران، التي تبادلت الهجمات معها مرّات عدّة، وتمتدّ ما يزيد عن 14 شهراً، ولا تزال مستمرّة. لم تنته هذه الحرب بعد، لكن القراءة المتباينة لما أسفرت عنه من نتائج (حتى الآن)، وتأثيراتها في مستقبل الأحداث في المرحلة المقبلة، خصوصاً بعد وصول ترامب إلى السلطة في الولايات المتحدة، أدّت إلى انقسام المراقبين إلى فريقَين، كما سبقت الإشارة.
يرى الفريق المتشائم أن الظروف أصبحت ناضجةً لتوجيه ضربة تؤدّي إلى تدمير برنامجي إيران النووي والصاروخي، قوية بما يكفي لإضعاف، أو حتى إسقاط نظامها السياسي. وتستند رؤية هذا الفريق إلى حسابات مفادها أن جميع حلفاء إيران في المنطقة أُضعِفوا وأصبحوا في طريقهم إلى الخروج من ساحة ومعادلات الصراع في المنطقة. ففي الساحة الفلسطينية، دُمِّر قطاع غزّة بالكامل، وأصبح يحتاج إلى سنوات طويلة لاستعادة عافيته. و”حماس”، ومعها بقية المنظّمات الفلسطينية المسلحة، تخوض الآن معركةً ميؤوساً منها. صحيح أنها لا تزال تحتجز بعض الأسرى الأحياء، رغم مصرع ما يزيد على 30 منهم، ولا تزال قادرةً على القيام بعمليات عسكرية تلحق خسائر يومية بجيش الكيان، غير أن بوسع بنيامين نتنياهو تجاهل قضية الأسرى، من دون أن يؤثّر ذلك في تماسك حكومته، ونجح في ذلك لفترة تزيد عن عام كامل، والخسائر التي يتكبّدها جيشه في غزّة حالياً قابلة للاحتمال، خصوصاً في ظلّ حكومة يمينية متطرّفة تحكم إسرائيل حالياً. وبالتالي، سيقتصر تأثيرها في المدى الطويل. وفي الساحة اللبنانية، فقد حزب الله جزءاً لا يستهان به من قدراته وإمكاناته المادّية والبشرية، واضطر لوقف مساندته العسكرية للفصائل الفلسطينية، حين قبل وقف إطلاق النار، ما أدّى إلى الفصل بين الجبهتَين اللبنانية والفلسطينية، ويواجه الآن وضعاً داخلياً صعباً، خصوصاً بعد الدمار الكبير الذي لحق بالجنوب اللبناني وبالعاصمة بيروت، ما يجعله غير جاهز لاستئناف القتال، حتى لو أراد. وفي الساحة السورية نجحت القوى المناوئة لنظام الرئيس بشّار الأسد في إشعال الحرب في شمال سورية من جديد، وتراهن قوىً كثيرةٌ معاديةٌ لإيران والمقاومة على سقوط النظام السوري، وقطع الإمدادات عن حزب الله. ويرى أنصار هذا الفريق أن هذا هو الوضع الإقليمي الأمثل لتوجيه ضربة لإيران تغيّر موازين القوى في المنطقة. فحتى إذا لم يكن ترامب راغباً في توريط الولايات المتحدة مباشرة، يُرجَّح أن يوافق على فرض عقوبات شديدة القسوة على إيران، وألا يمانع في مدّ الكيان بأنواع الأسلحة، والوسائل كلّها، التي تمكّنه من تنفيذ الضربة المأمولة بنجاح.
يرى النظام السياسي الإسلامي في إيران بعد الثورة المشروع الصهيوني خطراً على الإسلام والمسلمين
ويرى الفريق المتفائل أن جبهة المقاومة لا تزال متماسكةً وقادرةً على الصمود فترةً طويلةً، وأن ما حقّقته من نتائج في هذه الحرب يمكن أن يمهّد الطريق لصفقة شاملة. فترامب لا يريد حرباً شاملةً مع إيران، لأن هذه الحرب ستؤثّر سالباً في استراتيجيته الرامية إلى إعادة بناء أميركا من الداخل، والتفرّغ لترتيب أوراقه التفاوضية في مواجهة اقتصادية كُبرى قادمة مع الصين. ولأن جميع الأطراف في المنطقة، وفي رأسها الكيان الصهيوني، في حالتي إرهاق واستنزاف كبيرَين، يُتوقَّع أن يتوافر لديها دافعٌ للموافقة على صفقة متكاملةٍ إذا ما وجد كلّ طرف فيها بعض ما يبحث عنه، خصوصاً أن ترامب يملك كثيراً من أوراق ووسائل الضغط، ويعرف كيف يستخدم خيوطها المتشابكة والمعقّدة في نسج الصفقات الكُبرى. ويفترض هذا الفريق أن ترامب قادر على استخلاص الدروس المُستفادة من تجربته السابقة مع دول المنطقة، ومن ثمّ، فربما يكون قد أدرك أن ما أظهره من تهوّر إبّان فترة ولايته الأولى أدّى إلى نقل السفارة الأميركية إلى القدس، التي اعترف بها عاصمةً موحّدةً للكيان، وإلى الموافقة على ضمّ الجولان إلى الكيان، وإلى إصراره على تمرير “صفقة القرن” من خلال الضغط على الدول العربية للتطبيع مع الكيان وإبرام اتفاقيات أبراهام، لكنّ ذلك كلّه لم يسفر عن إيجاد تسوية مقبولة للقضية الفلسطينية، وربّما يكون قد ساعد على وقوع الانفجار الذي سُمِع دويّه عبر “طوفان الأقصى”. ولأنه يُفترَض أن يكون قد أدرك الآن أن انسحابه من اتفاق البرنامج النووي الإيراني عام 2018، وإقدامه على فرض عقوبات شاملة على إيران، لم يؤدّيا إلى إضعافها أو إلى إسقاط نظامها، بل ساعداها في الاقتراب من “العتبة النووية”، وامتلاك ترسانة كبيرة ومتطوّرة من الصواريخ الباليستية والطائرات المُسيَّرة. لذا، لا يستبعد هذا الفريق أن يكون ترامب قد أدرك أن المنطقة لن تستقرّ وتنعم بالسلام إلا إذا أصبحت إيران طرفاً في أيّ صفقة تتعلّق بوقف الحرب والبحث عن تسوية. وبالتالي، يأمل أن تشهد المنطقة نسخةً مختلفةً من ترامب، قادرةً على مساعدتها في الدخول في مرحلة تسويات وصفقات سياسية، وليس حروباً كُبرى.
وعلى أيّ حال، فبعد أسابيع قليلة ستتعرّف المنطقة على ترامب الحقيقي، الذي سيبدأ ولايته الثانية والأخيرة، ونأمل أن يكون قد أدرك أن السياسة التي سينتهجها تجاه إيران هي التي ستشكّل المفتاح الرئيس لقضايا الحرب والسلام في المنطقة.
المصدر: العربي الجديد