لم تكن الفصائلية يوما نمط التنظيم العسكري القادر على إلحاق الهزيمة بالنظام الأسدي، أو المؤهل للدفاع عن المناطق التي سيطر عليها، بعد تحوّل القتال ضد مليشيا الأسد إلى حرب تولاها الروس والإيرانيون: القوتان اللتان تمتلكان من القدرات الميدانية، والتقدّم التقني، والاحتياطيات البشرية والسلاحية، ما يتحدّى قدرات التنظيمات الفصائلية التي كان عليها، لو أرادت حقا مواجهة الغزو الروسي / الإيراني المباشر، أن تطوّر أشكالا تنظيمية تتخطّى الفصائلية وتبعثرها المكاني وافتقارها إلى قيادة موحدة وخطط عسكرية مهنية، تدمجها في إطار وطني جامع، لطالما رفض معظم قادتها الانضواء فيه، وأحبطوا إقامته.
قاوم معظم قادة الفصائل التخلي عن نمطها التنظيمي الذي استجاب لمصالحهم، وللسلطة “الأسدية” التي أقاموها في المناطق التي احتلوها، وتنعموا بما ومن فيها من موارد ومواطنين، فلا عجب أن رأى السوريون فيهم نماذج تُخضعهم لما اعتقدوا أن الثورة ستحرّرهم منه: الاستبداد والإجرام.
… وكنت قد كتبت أواخر عام 2014 مطالبا بالتخلي عن الفصائلية، لاعتقادي أنها عسكرة عضوض، تكتم أنفاس الشعب وتقوّض قدرته على المقاومة، وأنه حان الوقت لاستبدالها بتنظيم وطني مقاوم وموحّد، يقوده ضباط مهنيون وأصحاب خبرة، يجيدون وضع (وتطبيق) خطط ميدانية ينفذها جيش تحرير وطني، يضم وحداتٍ صغيرةً وثابتة، تغطي جميع مناطق سورية، وخصوصا التي أخرجت الأسدية منها، ووحدات متحرّكة كبيرة نسبيا، وتعمل على مستوى الأقضية والمحافظات، تنضوي في وحدات أكبر، جيدة التسليح عالية التدرب، تضم خيرة مقاتلي الثورة، وتعمل على المستوى الوطني. تعمل هذه المستويات الثلاثة بإشراف مركزي وتنفذ برامج مدروسة، وتشن هجماتٍ متفرقة ومتواصلة على الأسدية، وتقوم، في توقيت زمني واحد، بهجوم استراتيجي أو أكثر كل عام، لتحرير أوسع رقعة من الأرض، وأكبر عدد من السوريين، وإقامة نظام بديل فيها، يجسد قيم الثورة.
اقترحت ذلك، لأن التجربة الميدانية كانت تؤكد فشل الفصائلية، وإصرار معظم قادتها على التمسك بها، من دون الالتزام بأي قيادة سياسية أو عسكرية، وتبنّي خطط جامعة، يتطلب تنفيذها تبني ممارساتٍ اخلاقية ووطنية تعبر عن تفوق الثورة الإنساني على الأسدية، وتحول بين قادتها وبين إقامة نظم تشبيح وفلتان أمني وأخلاقي حيثما يحلون، وخصوصا في في المناطق التي يحتلونها فيحولونها إلى معازل تحتجز مواطنيها الذين يجدون أنفسهم، وقد فرّوا من الأسدية، بين يدي أسديين فصائليين، لا يقلون عنها هم إجراما، ولا يتقيدون باخلاق أو قانون أو عرف أو دين.
.. واليوم، والأخبار تنقل إلينا صورا كارثية عن تعامل بعض هؤلاء القادة مع الذين أرسلوهم للقتال في ليبيا، وعن انتهاك حياتهم وحقوقهم بأشد الصور إجراما. بينما نرى بأسى وغضب صور عشرات السوريات والسوريين، القتلى والجرحي في انفجارات رأس العين، وصور آلاف المهجّرين منها إلى المجهول، لمجرّد أن قادة الفصائل الذين يحتلونها، ويصادرون أراضي فلاحيها، ويسطون على عوائد عمل مواطنيها، ولا يوفرون من “خدماتهم” أحدا من بناتها وأبنائها: كبارا وصغارا، نساءً وذكورا، يرفضون الخروج منها، بعد أن تظاهروا قبل أيام بالموافقة على إخلائها، لكنهم انقضّوا عليها وأخذوا يدمّرونها، ليثبتوا أن خروجهم منها سيجلب الفوضى والموت والدمار لها، وأن “المحافظة” على أمن ناسها يتطلب بقاءهم فيها. يرفض قادة الفصائل، كذلك، حلها، على الرغم من “انضمامهم” إلى ما يسمى “الجيش الوطني” الذي حوّلوه إلى تجمّع تفكّكه تناقضاتهم وصراعاتهم.
إذا كان هذا دور الفصائل وأداؤها .. بربكم، ما الذي يسوغ الإبقاء عليها؟ ولماذا لا تحلّ وينزع سلاحها، إن كانت تمثل خطرا على السوريين، وتحول دون بلوغ أهدافهم، وتضطهدهم وتعتدي عليهم، ويظهر بالتجربة أنها لعبت بفاعلية واقتدار دورا خطيرا في تقويض ثورتهم التي لم يخدمها إطلاقا، بل خدم الأسد ونظامه.
المصدر: العربي الجديد