بشير زين العابدين مفكر سوري متميز، قرأت له سابقا كتاب النظريات الأمنية وتطبيقاتها في العالم العربي، وكتبت عنه.
كتاب إدارة المشاريع السياسية في عالم عربي متحول يتناول الواقع السياسي العربي بعد المتغيرات العميقة التي حصلت به على خلفية حصول الربيع العربي عام ٢٠١١م . وما صاحبه من نتائج مازالت تتداعى بعد عقد من الزمان حيث يغطي الكتاب الفترة الزمنية من عام ٢٠١١م إلى عام ٢٠٢٠م.
يتألف الكتاب من ثلاثة فصول أساسية:
الفصل الأول: مراجعات على ضوء التحولات.
يهتم الكتاب بشكل أساسي بالجيل الجديد جيل ما قبل الالفية الثانية والجيل الذي يليه ويعتبرهم بنسبة عددهم الكبيرة والمتغيرات التي حصلت في حياتهم وزمانهم سواء من خلال فشل الأنظمة الاستبدادية العربية وفسادها وظلمها، وكذلك حال الأحزاب العربية المعارضة بهويتها الأيديولوجية المختلفة والتي فشلت أيضا في مواجهة الواقع العربي وتغييره سواء لكونها كانت ضحية هذه الأنظمة المستبدة. أو لكونها حملت ذات امراض الانظمة. من البنية المستبدة و المؤدلجة والمنقسمة على بعضها. ومحدودية وجودها وانعدام تأثيرها كلها في الواقع السياسي العربي.
لذلك كان الجيل الجديد في الألفية وما بعدها يحمل معالم سلوك سياسي عربي مختلف. لكونه اقترن مع متغيرات جديدة في عالم التواصل الاجتماعي عبر الانترنت فيس بوك وأقرانه وأصبح على تواصل دائم مع المتغيرات في الدنيا وجعله يتابع بقلق واقع الاستبداد والفساد والتخلف والفقر وقلة فرص العمل وكان إحساسه بالمظلومية عال. والاهم انه لم يكن على تواصل مع البنية الحزبية العربية التي ترهلت وانعدم حضورها وتأثيرها في الواقع العربي. وجعل الجيل الجديد بعيد عن ارشفة الأمن والمخابرات التي تتابع أنفاس الناس. ولذلك كانت ثورة الربيع العربي مفاجئة للانظمة وحتى للقوى الدولية. ولكنها كانت حتمية الحصول في البلاد التي حصلت فيها. تونس ومصر وليبيا واليمن وسورية وكانت ستمتد الى كثير من البلاد العربية لولا المواجهة التي تكتلت بها قوى الدول العميقة المستبدة العربية وعمقها الدولي الداعم متمثلا بأمريكا لبعضها وروسيا وايران لسورية بشكل أساسي.
وبعودة الى جيل الالفية وما بعدها فقد ركز الكاتب على مجموعة سمات لها: منها التحرر من القيود الذي يعني ان اغلب الجيل كان منفك الصلة مع الكثير من الثوابت الاجتماعية والعقائدية والدينية وغيرها. وعمل ليصنع لذاته هوية مختلفة متوافقة مع العصر ومتغيراته .
مما أدى للحديث عن ضرورة التمسك بالهوية العربية الإسلامية لهذا الجيل خوفا من ضياعه وذوبانه سواء في بلاد الغربة واللجوء التي انتقل إليها الملايين منهم. أو النكوص الى الارتباطات ما دون الوطنية من طائفية واثنية واقلياتية. بحيث يكون الشباب ضحية هذه الانتماءات ويصبحوا جزء من الاحتراب البيني العربي داخل الدول العربية ويخدم اجندة الأنظمة المستبدة الحاكمة والقوى الدولية والإقليمية الداعمة.
ولذلك حدد الكاتب معالم المطلوب من جيل الالفية وما بعدها من خلال ما اسماه كسر القوالب الجامدة ويعني مجموعة الثوابت الفكرية والسياسية والعقائدية التي كانت حاضرة في الفضاء السياسي العربي ومشكلة حاجزا معرفيا عن إدراك حقيقة الواقع العربي.
لذلك ركّز على الاهتمام بفقه الواقع العياني المعاش والذي يجب أن يواجهه هذا الجيل ليحقق حياته الافضل.
وكذلك الاهتمام بالبرمجة اللغوية التي أصبحت حاضرة بقوة في عصر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي. ومن ثم العمل لتناول القضايا المهمة لمجتمعاتنا العربية. التخلف والاستبداد والفساد والفقر والجهل وكيف ننتقل الى عصر العلم والتطور واستثمار طاقات البلاد والشباب لصالح الشعوب العربية وصناعة حياة أفضل لها.
الفصل الثاني: فنون الممارسة.
ينتقل الكاتب في هذا الفصل إلى الحديث عن الحلول للمشاكل التي يعانيها جيل الالفية وما بعدها. وثم الى البحث عن الحلول والبحث في الأدوات والآليات التي يجب أن تمارس لصناعة المستقبل الأفضل عبر محددات معينة وهي:
- تحديد الأهداف التي يجب أن يعمل لها الجيل الجديد.
- التخطيط الاستراتيجي ويعني ذلك وضع هذه الأهداف ضمن المعادلة الزمنية والممارسة العملية لتحقيقها اولا بأول.
- التحليل السياسي وذلك يعني أن يكون هناك إدراك من الجيل لواقع ما يعيشه في البلاد العربية وشبكة الترابط المجتمعي بتنوعها وضمن صراعاتها ومع الأنظمة واجنداتها ومع القوى الدولية وخططها وممارساتها في الواقع العربي. وان كل ذلك يجب أن يكون حاضرا لدى الشباب العربي عند تفكيرهم وممارستهم للتغير وصناعة المستقبل.
- إدارة البيئة السياسية .
- مخاطبة الجماهير.
- إدارة الصراع.
- إدارة التغيير.
وكل هذا البنود شرحها الكاتب ضمن سياق حراك متواصل داخل الواقع السياسي في البلاد العربية سواء من جهة مخاطبة الناس أصحاب المصلحة بالتغيير ، الذين هم اداة التغيير، وإدارة الصراع مع القوى المختلفة المتوافقة مع التغيير نحو الأفضل او المعادين للتغيير سواء لمصالح فئوية اقلويّة أو اقتصادية أو سلطوية أو ارتباطاتها مع قوى خارجية لها مصالح مشتركة معها ويستخدمها كأداة داخل البلاد العربية. ومتابعة النضال للتغيير وفق الاستراتيجية الموضوعة. وفق تكتيكات متتابعة ومتراكمة للوصول إلى الهدف.
الفصل الثالث: أدوات العمل السياسي.
توسع الكاتب في النظريات السياسية في تفسير الظاهرة السياسية وقراءة تحولاتها وتغيراتها. ومر على الليبرالية والبنيوية والواقعية ونظرية الألعاب وغيرهم من نظريات. وان على جيل الالفية وما بعده ان يدرك قواعد اللعبة السياسية والقوى الفاعلة داخليا وخارجيا وكيفية التصرف للوصول للهدف الموضوع وفق اللعبة العالمية الكبرى التي تحكم البلاد العربية داخلا وخارجا بعلاقاتها الدافعية المصلحية، التوافقية منها والصراعية، للتقدم نحو الهدف المأمول.
كذلك الوقوف عند مصادر القوة الذاتية وللغير في سياق اللعبة السياسية وتحديد الأدوات السياسية التي يجب اعتمادها للوصول للمأمول.
واكد الكاتب ان جيل الألفية لم يعد معني بالبنى الحزبية التقليدية. وانتقل ليكون جزء من شبكية وسائل التواصل الاجتماعي وانه انتقل إلى مرحلة الحشود الشبكية الافقية عبر تلك القنوات الالكترونية واصبح يخوض معاركه في سياقها.
وأكد أن المهمة الملقاة على عاتق المنوّرين أن يخاطبوا جيل الالفية الجديدة وما بعده في عالمهم ومسرحهم ووفق ادواتهم ليستطيعوا أن يكونوا فاعلين ومؤثرين.
كما يمر الكاتب على قراءات سياسية مختلفة في مناهج تفسير الظاهرة السياسية. بحيث ركز على القراءات التي تنظر للمجتمعات حسب واقعها الجغرافي، في الوقت الذي كان الدراسات السابقة تنظر الى العامل التاريخي او البنى الاجتماعية وفق المنظور الليبرالي أو الطبقي .. الخ.
و بالمحصلة كلها مناهج تتكامل لأجل الوصول الى التفسير الأصح للواقع السياسي ومآلاته والمطلوب منه وكيفية حصول ذلك.
ينتهي الكتاب وقد أشبع موضوعه في دراسة علمية شاملة موثقة في صفحاته التي وصلت إلى ٣٧٠ص. بحث تأصيلي تفصيلي تحتاج إليه المكتبة العربية. ويحتاج الجيل الجديد من الشباب العربي إلى الاطلاع عليه والاستفادة من مادته وخبراته.
في التعقيب على الكتاب أقول:
أنني متفق مع مجمل الكتاب في مادته العلمية في طرح تحليل واستقراء مستقبلي .
ومع ذلك ارى ان هناك مقاربة لذات الموضوع في السياق العربي وفق رؤية سياسية للواقع العربي منذ أكثر من قرن. وتداخل العوامل الدولية والإقليمية والمحلية لكل بلد عربي ضمن سياق التداخل بين السلطة والمجتمع والقوى السياسية المعارضة وبقية مكونات المجتمع.
لابد من التأكيد أن البلاد العربية كانت منذ ما قبل سقوط السلطنة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى ١٩٢٢م. كانت ضمن خطط الغرب الأوروبي الذي سارع يقتسم التركة العثمانية في بلادنا وأن عقود من الاستعمار حصلت للبلاد العربية من فرنسا وبريطانيا وإيطاليا قبل هذا التاريخ وبعده. وان امريكا بعد الحرب العالمية الثانية وضعت نفسها اللاعب الأهم في مسار الواقع السياسي العربي.
لقد استعمر الفرنسيين لبنان وسورية واغلب دول المغرب العربي. اما انكلترا فقد احتلت فلسطين والعراق ومصر وأغلب دول الخليج العربي وكانوا الفاعلين الأساسيين في السياسة والحكم ونهب خيرات البلاد ورعاية التخريب المجتمعي وتقوية النزعات الطائفية والاثنية والمصلحية. وكان لإنجلترا دور في وجود الصهاينة في فلسطين ورعاية اعلان دولتهم في فلسطين عام ١٩٤٨م بعد ذلك.
ورعت هذه الدول المستعمرة مع امريكا الدول العربية الوليدة بعد الاستقلال ودعمتها كدول استبدادية تابعة تضمن مصالح الغرب كل الوقت. وحتى بعد حصول بعض الثورات العربية التي تم إعادة تأهيلها لتكون ضمن سياق المصالح الغربية بالعنف العراق نموذجا او التوافق سورية نموذجا. وكانت هذه الأنظمة تعتمد العنف والبطش والقوة المفرطة بحق كل مختلف. لذلك لم تستطع بلادنا أن توجد معارضات قادرة على التغيير السياسي سواء بالثورة أوالنضال الديمقراطي الممنوع اصلا. وبقيت رمزية المعارضات وعدم فاعليتها هو واقعها رغم كبر التضحيات التي قدمتها : ضحايا ومعتقلين وسجون لسنوات طويلة.
كانت شبكة المصالح العالمية الغربية والتي دخل عليها السوفييت والروس بعدهم والايرانيين بعد ذلك في وقت ما متوافقة بالمطلق مع الأنظمة التي تستعبد الشعوب العربية وتمنع امكانية اي فعل تغييري جدي.
كانت الأنظمة وداعميهم العالميين مطمئنين انهم سيطروا على الشعوب العربية الى الابد.
لكن التغييرات التي حصلت في مجال التواصل الاجتماعي والجيل الجديد كما ذكر الكاتب والمظلومية المتراكمة. دفعت هؤلاء الشباب العربي للثورة خارج المجال الذي كانت تحكمه الانظمة والدول الداعمة لها وهو الاحزاب المعارضة الخلبية. وخرجت الى الشارع في الربيع العربي في نهاية عام ٢٠١٠م وبداية عام ٢٠١١م وحصل الربيع العربي في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا وكاد يتمدد الى دول عربية اخرى.
كان الذهول الغربي كبيرا لقد تم كسر قواعد اللعبة دوليا. لذلك عاد الغرب وأمريكا ومعهم روسيا وإيران للتدخل في دول الربيع العربي لاعادة سياق السيطرة السابقة للنهب : أنظمة تابعة ودول عالمية مسيطرة ومصلحتها مع هذه الانظمة.
في تونس اعيدت الدولة العميقة وهاهم يقضون على ما تبقى من بقايا الربيع التونسي بالقمع والاعتقال والتعسف.
في ليبيا تم القضاء على القذافي ثم تم اللعب مع القوى المسيطرة “الثوار” وتم خلق صراعات بينية وتم تجهيز ليبيا لاحتمال تقسيم فعلي واعيد تفعيل المصالح الغربية عبر استمرار تدفق النفط وترك الوضع الداخلي مقلقل وصراعي.
أما مصر فقد عادت الدولة العميقة المدعومة من الغرب وأسقطت الحكم الديمقراطي وقتلت الرئيس المنتخب وعادت مصر الى سياقها القمعي التابع السابق للغرب والتحالف مع العدو الصهيوني. أما اليمن فقد لعبت القوى الدولية ومعها ايران لعبة تقاسم المصالح والنفوذ واصبح اليمن يمنين وتم ادخال الحوثيين كأداة ايرانية في حروب النفوذ الإيراني في المنطقة.
أما سورية فالأمر أسوأ فقد تم تهجير نصف الشعب السوري خارجا وداخلا. وتم تدمير أغلب الحواضر السورية وراح اكثر من مليون ضحية ومثلهم معتقل ومغيب ومفقود. واصبحت سورية محتلة من الأمريكان والروس والإيرانيين وحزب الله اداة ايران في لبنان والمنطقة. بعض سورية في شمالها محرر والبعض تحت سيطرة النظام مع داعميه الروس والايرانيين وحزب الله. والبعض تحت سيطرة حزب العمال الكردستاني وأداته روج آفا وال ب ي د ، وقوات سورية الديمقراطية شرق الفرات في محاولة لخلق كيان أثني على خلفية كردية. كما النموذج العراقي.
لذلك نقول ان هناك قرار دولي أن لا تنتصر ثورات الربيع العربي. وأن لا تعاد الكرة مرة اخرى.
السوريين المتبقين في الداخل السوري يعيشون أسوأ حياة على كل المستويات اقتصاد وسياسة وأعمال. والسوريون في الخارج يحاولون أن يزرعوا انفسهم حيث هم في بيئة طاردة. أما السوريون في المخيمات فإن أحوالهم تبكي الحجر ولا تبشر بخير.
هل ندعو إلى اليأس ؟. بالطبع لا، لكن واقعنا مؤلم والمطلوب كثير ونحن عاجزون…
اخيرا لا بد من شكر د. بشير زين العابدين على كتاباته وإثرائه المكتبة العربية بما يغطي موضوعات مهمة كثيرا للجيل الجديد من الشباب العربي ولكل باحث سياسي .