بين حدود جغرافية ضيقة وأوضاع معيشية خانقة، يجد الشباب في سوريا أنفسهم عالقين في مناطق يسيطر عليها النظام السوري، خاصة في المناطق المعروفة بـ”مناطق التسوية”، هذه المناطق، التي كانت شاهدة على سنوات من الحصار والتهجير كدرعا وريف حمص الشمالي والغوطة، أصبحت بمنزلة سجون كبيرة.
الخوف من الاعتقال على حواجز النظام السوري يُكبّل حركة هؤلاء الشباب، حيث يخشى معظمهم من الخروج للعمل أو السفر، فمعظمهم إما متخلفون عن الخدمة الإلزامية في جيش النظام، أو يحملون ماضياً في صفوف فصائل المعارضة والجيش الحر، وهو ما يجعلهم في دائرة الخطر، وسط مخاوف دائمة من انتقام النظام وميليشياته، لتبدو الحياة في هذه المناطق مجمدة، مع أفق مسدود، تتفاقم معه المآسي وسط واقع اجتماعي واقتصادي قاسٍ يفتقر لأدنى مقومات الاستقرار.
قيود مفروضة وحركة محدودة
يعيش الشباب في “مناطق التسويات” أوضاعاً معيشية قاسية، فهذه المناطق، التي خضعت سابقاً لسيطرة المعارضة، أصبحت مع مرور الوقت (حتى منتصف عام 2018) تحت قبضة النظام السوري.
الشباب هناك لا يجرؤون على مغادرة مناطقهم سواء للعمل أو السفر، خوفاً من الاعتقال على الحواجز الأمنية، التي تحولت إلى مصدر تهديد دائم لهم، فمعظم هؤلاء الشباب إما متخلفون عن الخدمة العسكرية الإلزامية أو الاحتياطية، أو كانوا منخرطين في صفوف الفصائل.
وقال الكاتب والصحفي السوري أحمد مظهر سعدو، إنّ “نظام بشار الأسد لم يكن صادقاً في وعوده التي قطعها على نفسه يوماً ما، وهو لطالما كذب وما زال يكذب فيها”.
وأضاف سعدو في حديث مع موقع تلفزيون سوريا: “أذكر أنه وفي أثناء وجودي في المعتقل في فرع المنطقة (الفرع 227) بدمشق عام 2014، كيف كان يأتي بالشباب الذين قبلوا بالتسويات معه إلى المعتقل وكيف كنا نسمع أصواتهم في أثناء التعذيب المفجع الذي يتم ضدهم، وهو الآن ما برح يمنع كثيراً من الشباب من الخروج من بلداتهم بسبب احتمالات الاعتقال وذريعة خدمة العلم، وهو ما يفعله اليوم مع معظم قرى ريف دمشق وكذلك مع شباب محافظة السويداء التي رفض أهلها إرسال أبنائهم إلى جيش النظام ومن ثم الاشتراك في قتل المتظاهرين السلميين”.
وبحسب الكاتب، فإنه “ليس غريباً ما يفعله النظام المجرم، فهي كانت وما زالت سياساته التي اعتمدها دائماً، حيث يتم اعتقال كل من يعود إلى سوريا من لبنان أو تركيا أو الأردن”.
وبحسب مصادر خاصة لموقع تلفزيون سوريا في محافظة حمص، فإن الخوف من الاعتقال يُقيد الحياة اليومية، لا سيما في مناطق الريف الشمالي، فالقلق من الاعتقال أو الإخفاء القسري يجعل الشباب هناك يعيشون في حالة دائمة من التوتر.
ويقول الشاب “أحمد”، القاطن في بلدة الغنطو شمالي حمص، إن مجرد التفكير في عبور حاجز أمني يُعد مغامرة قد تكلفه حياته، مضيفاً في حديث مع موقع تلفزيون سوريا: “نعرف كثيراً من الشباب الذين خرجوا بحثاً عن فرصة عمل أو زيارة عائلية ولم يعودوا ألبتة، الاختفاء على الحواجز أصبح أمراً مألوفاً”.
حتى داخل مناطق سكنهم، يواجه هؤلاء الشباب خطر المداهمات الأمنية أو الاستدعاءات المفاجئة، ليُضطر الكثيرون للتخفي أو البحث عن طرق غير قانونية للهروب إلى الخارج، لكن ذلك يتطلب مبالغ مالية ضخمة قد لا يستطيع معظمهم تأمينها.
أوضاع معيشية خانقة
إلى جانب القيود الأمنية، يعاني الشباب في هذه المناطق من أزمة معيشية خانقة، فالبطالة مرتفعة بشكل كبير، والأسعار تفوق قدرة السكان على تحملها.
وقال “محمود”، شاب من درعا، إنه لا يمكنه العثور على عمل بسبب عدم قدرته على مغادرة المنطقة، “الفرص داخل درعا محدودة للغاية، وكل من يريد العمل في مناطق أخرى عليه أن يتحمل مخاطر الحواجز أو الاعتقال”.
كما يعاني الأهالي من نقص في الخدمات الأساسية كالتعليم والرعاية الصحية، إذ إنّ الجامعات والمؤسسات التعليمية غالباً ما تكون خارج هذه المناطق (في مراكز المدن كمدينة حمص أو دمشق)، ما يجعل استكمال التعليم حلماً بعيد المنال لكثيرين.
الماضي في فصائل المعارضة
الانتماء السابق لفصائل المعارضة يجعل وضع الشباب أكثر تعقيداً، ورغم إبرام اتفاقات التسوية التي من المفترض أن تضمن لهم الأمان، فإن النظام السوري ينظر إليهم بعين الشك، إذ يقول “عمر”، وهو شاب من ريف حمص الشمالي، إنه تعرض لمضايقات أمنية متكررة بسبب عمله سابقاً في أحد فصائل الجيش الحر.
وتابع الشاب: “رغم أنني سلمت سلاحي والتزمت بالاتفاق، فإنني ما زلت أعيش في خطر دائم، كل يوم أتوقع أن يتم استدعائي أو اعتقالي، هذا الواقع يدفع بعضهم للعيش في عزلة اجتماعية أو التفكير في مغادرة البلاد بأي وسيلة”.
الآفاق المسدودة تفرض الهجرة كخيار وحيد
بسبب هذا الواقع، تصبح الهجرة الخيار الوحيد أمام الكثير من الشباب، سواء إلى الشمال السوري أو إلى تركيا، فطرق التهريب عبر الحدود بين مناطق السيطرة باتت تشكل الملاذ الأخير، رغم كلفتها الباهظة وخطورتها في بعض الأحيان.
ويتحدث العديد من الشباب عن رغبتهم في مغادرة البلاد أو الوصول إلى الشمال السوري بحثاً عن حياة آمنة نسبياً وفرص عمل تتيح لهم بناء مستقبل بعيداً عن الخوف والقيود.
مطالب بتغيير جذري
يطالب الشباب في هذه المناطق بضرورة توفير ضمانات حقيقية لحمايتهم وإلغاء القيود المفروضة على حركتهم، كما يدعون إلى تحسين الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، وخلق فرص عمل داخل المناطق التي يعيشون فيها.
ورغم أن النظام السوري يروج لاتفاقات التسوية كخطوة نحو الاستقرار، فإن الواقع الميداني يؤكد أن الشباب في “مناطق التسوية” ما زالوا يعانون من انعدام الأمان وضيق الأفق.
“محاصر في مدينتي بلا أمل“
يقول “علاء” (26 عاماً)، شاب من ريف حمص الشمالي، إن حياته أصبحت أشبه بسجن مفتوح منذ عودة المنطقة لسيطرة النظام السوري، مردفاً: “لا أستطيع العمل بحرية، ولا أستطيع مغادرة مدينتي خوفاً من الاعتقال على الحواجز، وضعي معقد، فأنا متخلف عن الخدمة الإلزامية، وهذا يجعلني ملاحقاً حتى لو حاولت التنقل داخل مناطق النظام”.
ويضيف علاء أن محاولاته للعمل داخل مدينته باءت بالفشل بسبب قلة الفرص المتاحة، مؤكداً أن “العمل هنا محدود للغاية، وإذا فكرت بالذهاب إلى مدينة أخرى بحثاً عن فرصة أفضل، أواجه خطر الحواجز، إذ أعرف أشخاصاً حاولوا الخروج وتم اعتقالهم لأنهم مطلوبون للخدمة العسكرية”.
ويشير علاء إلى أن العيش في هذه الظروف ليس مجرد معاناة اقتصادية، بل نفسية أيضاً، قائلاً: “أشعر أني عاجز تماماً، لا يمكنني العمل، ولا السفر، ولا حتى بناء حياة بسيطة، الحواجز هي عائق ليس فقط لحركتي، بل لأحلامي كلها، أعيش كل يوم في انتظار أن يتغير شيء، لكن الأفق مسدود، ولا أمل في المستقبل”.
تحديات نفسية واجتماعية
يعيش الشباب والسكان بشكل عام في تلك المناطق حالة من الضغط النفسي المستمر بسبب العزلة والخوف الدائم من الاعتقال، لدرجة أن الخروج من المنزل أو حتى التفكير في العمل أصبح مغامرة محفوفة بالمخاطر.
هذه الظروف تؤدي إلى اضطرابات نفسية مثل القلق المزمن والاكتئاب، فضلاً عن الشعور بالعجز وفقدان السيطرة على الحياة، كما أن غياب الأمان والاستقرار يجعل الشباب عاجزين عن وضع خطط مستقبلية، علماً أن الحالات الأكثر حدة يمكن أن تتطور إلى اضطرابات نفسية خطيرة، بما في ذلك التفكير في الهجرة بأي ثمن، أو حتى الانتحار كخيار أخير.
إلى جانب ذلك، فإن القيود الأمنية لا تعزل الشباب عن العمل أو التنقل فقط، بل تمتد آثارها لتطول حياتهم الاجتماعية، فالخوف من الحواجز أو المداهمات يجعل الشباب أقل تفاعلاً مع محيطهم، مما يؤدي إلى تآكل العلاقات الاجتماعية التقليدية.
وتشير مصادر متطابقة لموقع تلفزيون سوريا إلى أن العائلات أصبحت أكثر انغلاقاً، حيث تحاول حماية أفرادها من أي تهديد خارجي، فضلاً عن أن اللقاءات الاجتماعية التي كانت جزءاً مهماً من الترابط المجتمعي تقلصت بشكل كبير، ما أضعف العلاقات بين الأصدقاء والجيران.
ويخشى الشباب من الحديث عن مخاوفهم حتى مع أقرب الناس إليهم، خوفاً من التعرض للخيانة أو الإبلاغ عنهم.
يمكن القول إنّ “التسويات” بمنزلة “فخ” قانوني واجتماعي، إذ إن العديد ممن خضعوا لهذه الاتفاقات واجهوا لاحقاً استدعاءات أمنية أو اعتقالات تعسفية، كما أن التسويات لم تحسن الوضع الأمني للشباب، بل زادت من القيود عليهم، فمعظمهم فقدوا الثقة في أي ضمانات تُقدم، ووجدوا أنفسهم أمام خيارات محدودة: البقاء في مناطقهم تحت ضغط نفسي واجتماعي، أو محاولة الهروب بطرق غير شرعية.
جدير بالذكر أن النظام السوري قدّم وعوداً براقة خلال عملية التسوية في مختلف المناطق، تضمنت ضمانات بعدم الملاحقة أو الاعتقال، وإعادة الخدمات وتحسين الظروف المعيشية في المناطق التي شملتها التسويات، لكن هذه الوعود بقيت حبراً على ورق، وعلى الأرض يواجه سكان هذه المناطق، خصوصاً الشباب، قيوداً أمنية مشددة ونقصاً حاداً في الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والماء وفرص العمل، بالإضافة إلى ذلك، تم استغلال التسويات كوسيلة لتصفية الحسابات مع المعارضين للنظام، وهو ما جعل الثقة بهذه الاتفاقات معدومة.
المصدر: تلفزيون سوريا