قراءة في رواية: لماذا أنت هنا

أحمد العربي

فرج العشّة روائي ليبي متميز. روايته لماذا أنت هنا هي العمل الأدبي الأول الذي أقرأه له.

يتم السرد على لسان الراوي في الرواية التي تتابع حياة الشخصية المحورية لها. حيث لا تسير الأحداث في الرواية وفق ترتيب زمني متتابع، بل تعتمد على التنقل العشوائي في حياة بطلها طفولته وشبابه وتنقلاته العائلية ودراسته ومن بعد ذلك هروبه من قمع نظام القذافي إلى أوروبا واستقراره في ألمانيا.

ونحن هنا نعيد التحدث عن حياته وفق محطاتها الاساسية.

هو من الجنوب الليبي حيث يعيش في أجواء صحراوية مع عائلته. يتذكر جدّه المعمّر الذي كان من المجاهدين المصاحبين لعمر المختار، حيث كان يحدثهم عن بطولاتهم وصراعهم ضد المستعمر الايطالي. الذي استمر في ظلمه وعدوانه بحق الليبيين الذين سقط منهم عشرات الالاف من الضحايا جراء سنوات الصراع مع المستعمر. وضحية أعمال السخرة التي يجبر عليها أهل ليبيا في سنوات حكم المستعمر التي انتهت بعد خسارة إيطاليا وألمانيا في الحرب العالمية الثانية المنتهية ١٩٤٥م. وحلول المستعمر الانكليزي بعد الايطالي المهزوم في ليبيا  ومن ثم خروجه من هناك عام ١٩٥١م وتسليم سلطة البلاد الى السنوسي ملكا على ليبيا.

كان يعيش صاحبنا في طفولته في الصحراء ويتعلم القراءة والكتابة ويحفظ القرآن عند الشيخ المصاحب لهم في حياتهم. وبعد الاستقلال وبفضل التغيرات التي صاحبت اكتشاف النفط الليبي وعمل والده مع الدولة. فقد انتقل بصحبة العائلة إلى مركز حضري قريب من احدى المدن. و بحكم عمل والده مع الدولة فقد كانت أحوالهم المعيشية جيدة.

في المركز الحضري تابع تعليمه في مدارس نظامية وكبر ودخل في سن النضج. حيث اقترن ذلك مع تحولات كثيرة محيطة بليبيا حيث كان جمال عبد الناصر النجم الساطع في سماء العرب حرر مصر من الإنجليز  وأمّم قناة السويس و..الخ  مما جعله قبلة شعبية في ليبيا. وكان المد الناصري الحافز الذي دفع مجموعة من الضباط بقيادة معمر القذافي للاستيلاء على الحكم في ليبيا عام ١٩٦٩م.

كان صاحبنا قد دخل في سن الشباب وانتقل للدراسة في الجامعة. وكان قد اكتشف موهبة شعرية لديه. وكانت ليبيا قد أصبحت دولة استبدادية بامتياز. وبدأت تظهر المجموعات المنظمة التابعة لسلطة القذافي  في أوساط الطلبة وكل المجالات المجتمعية العامة. مؤسسات رديفة للأمن والجيش وتحولت مع الوقت إلى سلطة باطشة. اقترن ذلك مع خلق طبقة من المخبرين المندسين في كل مرافق الحياة. لمتابعة حياة كل الناس ورصد اي تحدث او سلوك عدواني تجاه نظام القذافي. ليتم معاقبته. بأقسى العقوبات الاعتقال والسجن وحتى القتل.

كان صاحبنا من النخب المثقفة التي تلتقي في أروقة الجامعة ومنتدياتها الثقافية وفي الشقق التي يسكنوها. ليتناقشوا بهموم الثقافة والتطورات التي صاحبتها الحداثة وقصيدة الشعر الحديث. ولا يخلو من مناقشة واقع القمع المجتمعي والسياسي. والفساد والمحسوبية. خاصة وان مال النفط المكتشف المنهوب قد بدأ يظهر على أهل الحكم وزبانيتهم.

لقد اخترقت السلطة أجواء هؤلاء المثقفين بالمخبرين الذين ينقلون ما يحدث وأكثر لمسؤولي الأمن وادى ذلك الى نتائج كارثية بحق البعض. حيث شاهد صاحبنا إعدام مدرس جامعي مع اربع طلاب متهمين بأنهم يعملون ضد سلطة القذافي. وهم في حقيقة أمرهم بريئين من ذلك.

لم يرتدع صاحبنا من القمع الذي يراه حوله واستمر بتواصله مع شلة أصدقائه المثقفين. يعيشون حياة هوائية منفتحة على كل المستويات. حيث كان له صديقة واكثر وكانت العلاقات بينهم تصل إلى التواصل الجسدي. كانوا يعيشون حريتهم الشخصية بغياب الهامش العام للحرية السياسية والمجتمعية. ومع ذلك لم يسلموا من التقارير الامنية الكيدية بحقهم. وخاصة ان احدهم اعطى لهم قطعة حشيش مخدر قبل مداهمة مكان لقائهم. هربوا لكنهم وقعوا في الاعتقال بعد ذلك.

كان لصاحبنا قريب في الجيش ساعده في الخروج من المعتقل وانقاذه من احتمال الموت. ومن ثم تأمين فيزا للسفر إلى ألمانيا وهناك قدّم طلب لجوء وهكذا هرب من جحيم ليبيا والقذافي الحاكم المطلق الذي جعل نفسه شبه إلاه.

غادر صاحبنا إلى ألمانيا وهناك قدم طلب لجوء سياسي لأنه من ليبيا القذافي المستبد. خضع لتحقيق طال كل شيء في حياته. وانتظر حتى تأتي النتيجة اما قبول اللجوء أو الرفض.

كان يعيش في مجمّع اللاجئين في ألمانيا. فيه من عراق صدام حسين، اكراد وسنة وشيعة وكل له مبرره للهروب من العراق، وكذلك من افغانستان وايران ومصر والجزائر وكثير من بلدان العالم الثالث. لكل منهم حكاية.

كانت الحياة في مجمّع اللجوء ممتلئة بتنوع أنماط حياة هؤلاء الهاربين من بلادهم وتحمل في داخلهم كل متناقضات حياتهم تلك.

عاش هؤلاء اللاجئون فترة مستقطعة من حياتهم داخل هذا المجمّع. يأكلون ويشربون المسكرات ويتناولون جميع انواع المخدرات. المتاحة والمشرّع بعضها. ناهيك عن العلاقات الجنسية المفتوحة سواء بين بعضهم او مع الفتيات الالمانيات. كان ذلك طبيعيا في مجتمع منفتح.

انتظر صاحبنا حتى جاءه الرد وكان ايجابيا بقبول لجوئه وهكذا حصل على حق العيش والسكن والمعونة الاجتماعية وجواز السفر وتأمين العمل. وهذا كان أكثر بكثير مما كان يحلم به صاحبنا. لقد ضحكت له الدنيا اخيرا.

لقد تعرف على احدى الفتيات الألمانيات التي تعايش معها كحبيبين لأشهر عديدة. حياة كاملة على كل المستويات، كانت بعضا من الجنة كما يتوق إليها صاحبنا. لقد عاش حبا حقيقيا واشباعا نفسيا وجسديا وفوق ذلك رافقته في سياحة الى اسبانيا ومشاهدة العظمة الأندلسية واسترجع هناك تلك الحضارة والعمران وتذكر نهاية الأندلسيين أجدادنا وإخراجهم من جنتهم وكان آخرهم حاكمها عبد الله الصغير.

لقد كان لنا مجدا وحضارة.

لكن فرحة وسعادة صاحبنا ذلك لم تكتمل. فقد قام بعض المتطرفين النازيين الألمان برمي القنابل الحارقة على مجمّع اللاجئين حيث يسكن وكانت حبيبته في بيته واحترقت وماتت.

لقد انفجع لذلك.

عاد صاحبنا للعيش في ألمانيا وسط مجمع اللاجئين مستفيدا من كل المزايا التي حصل عليها. مسترجعا في ذاته كل ما عاشه من حياته السابقة في ليبيا . لم يستطع التحرر من ذاكرته الممتلئة. وفوق ذلك فقد كان معه أحد الليبيين الذي كان واحدا من كلاب السلطة سابقا مدمن مخدرات ومريض نفسي، يعرفه منذ أيام ليبيا. يرى بصاحبنا النموذج المنافس له. يحقد عليه. وصاحبنا يتجنبه كل الوقت.

لكن ذلك الليبي الموتور والمريض النفسي والمدن يعتدي على صاحبنا ويطعنه ويقتله.

هنا تنتهي الرواية.

في التعقيب عليها اقول:

اننا امام رواية تطال واقع الحال في ليبيا القذافي قبل سقوطه جراء الربيع العربي في عام ٢٠١١م. يوثق مأساة الليبيين مع القمع والاستبداد والظلم والقتل العشوائي والاستباحة لحياة الناس. وإن نموذج الظلم العربي واحد. وانه يدفع الناشطين الاحرار به للهروب خارج بلادهم لعلهم يجدوا في بلاد الغرب بعضا من انسانيتهم التي افتقدوها في بلادهم. لكن واقع الحال يؤكد أن كل مهاجر ولاجئ ما زال مسكونا بوطنه وحياته السابقة وسيبقى يعيش صراعا نفسيا بين ما عاش في بلاده وبين ما يعيشه في الغرب. حيث سيكون أغلبهم ضحايا المخدرات والعيش العبثي والضياع. وقد يكون نصيب بعضهم من ارث ماضيه ان يلحقه ذلك الماضي حيث هو في جنّته البديلة ليموت ضحية في غربته من ابن بلاده كما حصل مع صاحبنا.

الرواية لم تتابع ما حصل في ليبيا من ثورة شعبها إبان الربيع العربي. ولا حرب القذافي على الشعب. ولا حصول التحالف الدولي على قرار إسقاط نظام القذافي وقتله ذليلا في مجرور في ليبيا البلد الذي استعبد أهله لعقود.

لعله يكون عبرة.

كذلك تجعلنا الرواية نطل على نمط حياة مختلف عن بلادنا سواء بالقيم والأعراف الاجتماعية. وكون الإنسان في الغرب مطلق الحرية في أفعاله بما لا يخالف القانون. وان ذلك لا يعني ان الكثيرين يدمرون حياتهم بالمخدرات وغيرها. والأسوأ عودة النزعة العنصرية في الغرب التي يكون ضحاياها من الهاربين من ظلم بلادهم ليجدوا انفسهم ضحايا النازية الأوروبية.

لكل ذلك نرى ان اللجوء الى اوروبا والغرب من ابناء العروبة الذين ترزح بلادهم تحت ظلم الأنظمة المستبدة المتوحشة. يعني خلاصا فرديا مؤقتا. لكن الخلاص النهائي الحقيقي لكل الشعوب العربية. هو بإسقاط أنظمة الاستبداد وبناء الدول الديمقراطية العادلة محققة الحرية والكرامة والحياة الأفضل للشعوب العربية.

هذا ما يجب أن نعمل له.

تعليق واحد

  1. رواية “لماذا أنت هنا” للروائي الليبي “فرج العشة” قراءة جميلة وتعقيب موضوعي من الكاتب “احمد العربي” الرواية سرد لحياة الشخصية المحورية لها وهو من الجنوب الليبي. بالتنقل العشوائي في حياته من طفولته وشبابه وتنقلاته العائلية ودراسته ومن بعد ذلك هروبه من قمع نظام القذافي إلى أوروبا واستقراره في ألمانيا.

زر الذهاب إلى الأعلى