يدفعني إلى إعادة نشر هذه المحاضرة التي أعددتها منذ 16 عاماً، مع إجراء بعض التعديلات لربط الماضي المنظور بحاضرنا العربي البائس.
ضرورة الارتقاء في البحث العلمي العربي
لا تقلُّ عملية تحسين أداء الدول العربية في مجال البحث العلمي أهمية عن الملفات السياسية الراهنة، حيث تعتبر مستويات البحث العلمي مؤشراً على مستويات التطور المختلفة، وبالتالي مدخلاً لتبوؤ الدول العربية موقعاً في إطار العلاقات الدولية. ومن هنا فإنّ العالم العربي بحاجة إلى نهضة سياسية أولاً، تنشر الديمقراطية وحرية التفكير وحرية التجريب، وتفتح أفقاً رحباً للمبادرات الأكاديمية، وتتعهد الدولة باستيعاب الكفاءات حسب نجاحها وإبداعها، وليس حسب أي اعتبار آخر، مما يتطلب:
1 – تخصيص موازنة لائقة بالبحث العلمي في البلاد العربية، وإلحاق مراكز بحثية لائقة بأقسام الدراسات العليا في الجامعات العربية.
2 – احترام الحريات الأكاديمية وصيانتها وعدم تسييس التعليم أو عسكرته، وهو ما يعني من الناحية العملية، احترام حقوق الإنسان وخضوع السلطة والأفراد للقانون، وذلك عبر إعطاء أعضاء الهيئات الأكاديمية والعلمية حرية الوصول إلى مختلف علوم المعرفة والتطورات العلمية وتبادل المعلومات والأفكار والدراسات والبحوث والنتاج والتأليف والمحاضرات، واستعمال مختلف وسائل التطور الحديثة، من دون تعقيد أو حواجز.
3 – إعادة النظر في سلّم الرواتب التي تمنح للكفاءات العلمية العربية، وتقديم حوافز مادية ترتبط بالبحث ونتائجه، ورفع الحدود العليا لمكافأة البارزين من ذوي الكفاءات، وتقديم الحوافز التشجيعية والتسهيلات الضريبية والجمركية، للوفاء بالاحتياجات الأساسية، خاصة منها المساعدات التي تضمن توفير السكن المناسب وتقديم الخدمات اللازمة لقيامهم بأعمالهم بصورة مرضية.
إنّ الجامعات لا يمكن أن تنتج معرفة بدون حريات أكاديمية، ومراكز الدراسات والبحوث لا يمكن أن تعمل وتنتج معرفة جديدة في ظل تدخلات وممنوعات تفرضها السلطات العربية، أو بعض القوى الجاهلة في المجتمع تارة باسم ” الأعراف والتقاليد ” وتارة باسم ” السلم الأهلي ” وتارة أخرى باسم ” الدين “. وبالطبع لا يمكن الحديث عن إنتاج معرفة لا يمكن النطق بنتائجها في غياب حرية التعبير كلاماً وكتابة، مما يجعلنا ننتظر حصول تغييرات كبرى في عقلية وإرادة وتوجهات وبنية الدولة العربية نفسها، وخاصة في مجالات:
(1) – استقلال الجامعات العربية
لعلَّ قضية استقلال الجامعات، محتفظة بشخصيتها المعنوية وتدبير شؤونها بنفسها تحت إشراف وزارة التعليم العالي، هو أحد أهم المداخل لتطوير البحث العلمي. وذلك من خلال رفع يد السلطات عن الجامعات، ووقف التدخل الأمني والسياسي في شؤونها، واختيار القيادات الجامعية عن طريق الانتخاب، بدءاً من منصب رئيس الجامعة حتى عميد الكلية ورؤساء الأقسام، والعمل على تطوير البحث العلمي والدراسات العليا من أجل النهضة بمستوى التعليم الجامعي.
(2) – إصلاح الجامعات العربية
ثمة مستلزمات واشتراطات لابدَّ أن تُعتمد رسمياً من قبل الجامعات العربية لتسري تطبيقاتها على الجميع من أجل إصلاحها، إذ يجب:
1 – فصل الجامعات العربية عن سياسات الأنظمة السياسية، باعتبارها مؤسسات علمية وأكاديمية بحتة، وأن لا ترتبط تلك المؤسسات بأية أجهزة أمنية.
2 – التعامل مع الأساتذة على أساس منح الحقوق وأداء الواجبات، بشكل متوازن وقانوني ومُتعارف عليه.
3 – تداول المسؤولية وتكافؤ الفرص في المواقع من حين إلى آخر، ويراعى في الاختيار أولئك المتميّزين من الأكاديميين.
(3) – الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية
طبقا لأعمال المؤتمر العلمي الثاني للحريات الأكاديمية في الجامعات العربية، فإنّ المطلوب في شأن الحريات الأكاديمية هو:
1 – العمل على تطوير التشريعات والسياسات الخاصة بشؤون الجامعات العربية بما يحقق الأهداف والمتطلبات اللازمة للنهوض بواقع هذه الجامعات الحكومية والخاصة، لتعزيز الحريات الأكاديمية، وتفعيل المنظومات التشريعية القائمة متى كانت ضامنة لمبادئ ومسيرة هذه الحريات.
2 – العمل على منح الجامعات دوراً مهماً في وضع السياسات العامة للتعليم، والاستقلال في تحديد المناهج الدراسية والمساقات، وتحديد معايير أكاديمية وأخلاقية شفافة للترقية العلمية.
3 – العمل على تجنّب التدخل بالسياسات المتصلة بالمناهج وتعيين أعضاء هيئة التدريس، وضرورة اعتماد مبادئ الكفاءة والنزاهة والشفافية عند اختيار أعضاء هيئة التدريس وقبول الطلبة، ولن ندرك ذلك إلا من خلال الاستقلال العلمي والإداري والمالي للجامعات العربية.
4 – العمل على إصدار دليل شامل باسم ” دليل الحريات الأكاديمية العربية “، يشمل المبادئ والآليات ومناهج تدريبية، والعمل على توزيعه على جميع الجامعات العربية.
5 – العمل على إشاعة مبدأ الحصانة الأكاديمية، في حدود البحث العلمي، والعمل على إقرارها في التشريعات العربية ونشرها في وسائل الإعلام.
6 – العمل على دعم وتشجيع المبادرات المحلية لتشكيل روابط وهيئات للحريات الأكاديمية في البلدان العربية.
دولة الكفاءة لا دولة الولاء
بعد سقوط الأنساق السياسية المغلقة، التي كانت تحتكر الحقيقة السياسية، وظهور أنساق سياسية مفتوحة، تتعدد فيها الأصوات، وتبرز المعارضة وتتنافس الأحزاب والجماعات السياسية. وبعد أن أضحى مجتمع المعرفة يقوم على أساس تنمية الإبداع والاعتماد على الأنساق الفكرية المفتوحة، القادرة على مواجهة مشكلات العالم الجديد المعقدة. فإنّ ما نحتاج إليه هو دولة بالمعنى الحديث، بعد أن صارت النخب الحاكمة تعتبر ممارساتها السياسية والأمنية هي المرجعية الوحيدة في الدولة، وكل ما يخرج عن إطارها إنما يجنح نحو الخيانة والمساس بالأمن الوطني أو القومي، وبالتالي فإنّ أي حراك اجتماعي وأي نشاط في الشأن العام هو حكر على أصحاب السلطة، وعليه أن يستند إلى ما تقوله وتمارسه وتفرضه عبر وسائل الطاعة العمياء والترداد الببغائي.
إنّ المأمول هو الوصول إلى الدولة بمعناها الحديث، أي عبر مندرجات العقد الاجتماعي التي تجد أساسها في تحقيق مفاهيم المواطنة والديموقراطية التعاقدية، ذلك أنّ النظام الأصلح في أي بلد عربي هو ذلك النظام الذي يحفظ التوازن الوطني وكفاءة المؤسسات وتكاملها وتعاونها، ويوفر فاعلية السلطات وتناوب المسؤولين وتجديد البنى السياسية.
وهذا يقتضي التعاقد على أساس سياسي يوفر، بشكل ملزم ودائم، آلية إنتاج السلطة الوطنية على قاعدة التوازن الوطني، وبالتالي يتوجب ممارسة المسؤوليات في مؤسسات الدولة والسلطة الدستورية والمؤسسات العامة على قاعدة الاستحقاق والمؤهلات دون تفرقة أو تمييز بين مواطن وآخر.
إنّ التحوّل من دولة الولاء إلى دولة الكفاءة هو تحوّل من الشكل التقليدي للدولة إلى دولة المؤسسات والقوانين، وبالتالي تحوّل الناس من مجرد رعايا تابعين وغير مبالين إلى مواطنين مشاركين، بإمكانهم التأثير والتغيير من منطلق تساوي الفرص.
وعندما نتكلم عن دولة الكفاءة فإننا نقصد دولة المؤسسات ودولة النظام ودولة القانون التي تحترم أسس قيام دول الحق والقانون، لأنّ الكفاءة تعني التقيّد بالدستور والالتزام بالقوانين السارية وتنفيذ القرارات، والفصل بين المصلحة الشخصية والمصلحة العامة. كما أنّ الكفاءة تعني أنّ اختيار الرجال والنساء يتم على أساس الشفافية الكاملة، وعلى مقاييس النزاهة والقدرة على العمل والإنجاز لا على مقاييس الانتماء والولاء فقط.
وما يجب أن لا نغفل عنه أنّ الشخص الكفء يشعر بالانتماء والولاء للمكان دائماً، لأنه يعمل ونتائج عمله يراها على أرض الواقع، وبالتالي يشعر بأنه جزء من ذلك الواقع ومن ذلك المكان، ومن الطبيعي أن يولد لديه ولاء للمكان الذي يعمل فيه. أما الذي يدّعي الولاء بلا كفاءة فلا شيء يربطه بأي مكان غير الكلام والشعارات، فهو اليوم هنا وغداً هناك. ويبقى الولاء شيئاً معنوياً لا يمكن اختباره على أرض الواقع، بينما الكفاءة مسألة مادية من السهل التأكد منها بناء على العمل الذي يُنفَّذ والنتائج التي نراها.
ومما يجدر الانتباه إليه دائماً أنّ حسن اختيار الكفاءات هو من علامات البناء الصحيح للمجتمع ولأية مؤسسة، وفي المقابل فإنّ من علامات فساد المجتمع وفشل المؤسسات عدم التركيز على الكفاءات في من تُسند إليهم مهام كبيرة. وللأسف فإنّ ذلك يتم على أسس غير سليمة، كالقرابة والصداقة والمحسوبية في بعض الأحيان، وفي بعض الدول على أساس الحزبية والطائفية، وفي أحيان أخرى على مدى النفاق والمداهنة.
وعندما نعتمد أسلوب الاختيار على أساس الكفاءة فإننا نعطي أملاً لجميع المواطنين في إمكانية التغيير، فطالما أنّ الكفاءة هي المعيار، وهذا المعيار لا علاقة له بجنس أو حزب أو قبيلة أو لون أو شكل، فإنّ حق العمل والوصول إلى تحقيق الطموحات الشخصية والعامة تكون متساوية للجميع، بعيداً عن الحسابات التي لا تكون لها أية قيمة في معادلات بناء الأوطان، ويصبح الباب مفتوحاً أمام الجميع، كل حسب اجتهاده وجهده.
كما أنّ الاختيار على أساس الكفاءة يحوّل الناس من سلبيين وساخطين ومحبطين دائماً إلى أناس مشاركين وفاعلين ومتطلعين ولهم أمل، وتساعد على خلق صفوف جديدة من القيادات الشابة التي تستعد لأخذ دورها، بناء على جهدها وعملها ونشاطها.
إنّ من صالح دولنا العربية إطلاق سراح البحوث العلمية، وجعلها في مأمن من المزايدات ومن صراع قوى الشد والجذب في مواقع التفكير والقرار في حكوماتنا العربية. فلا بدَّ من ضمان حرية البحث، وفي مقدمتها حرية اختيار الموضوع والظاهرة، وتجنّب الوصاية بنوعيها السياسي والديني. وإذا أرادت دولنا العربية، خاصة القيّمون عليها من القادة والنخب، أن تفتح مسارات وطرقاً واسعة لها باتجاه امتلاك زمام المبادرة الحضارية في المستقبل، عليها أن تعيد الاعتبار للعمل المؤسساتي، ولدولة القانون والعدل، وتتيح عملية المشاركة في صنع القرار، وتقوم بتنمية الثروة بالإدارة العلمية الكفؤة، وتجعل من العلم والبحث العلمي المبدع رافعة للدولة والمجتمع على أساس أولوية العلم والثروة البشرية على المال، باعتبار أنّ هناك طاقة وقيمة حضارية مختزنة في ذات العلم تضع المال والثروة في خدمة هذا العلم الذي يوّلد ثروة ومال الأمة.
إنّ التعليم العالي في العالم العربي سيظل يعاني من مشاكل مستدامة، وسيبقى دون مستوى الطموح، إذا لم يصار إلى بعض المعالجات الجوهرية التي تتعلق أولاً بإبعاد المؤسسات العلمية عن مؤثرات السلطة السياسية، سواء في القيادات العليا أو عمادات الكليات والكوادر الإدارية الأخرى، وأن تعتمد المعايير العلمية الدقيقة في اختيار تلك القيادات.
(*) – في الأصل ورقة قُدمت في المؤتمر الخامس والعشرين لمنتدى الفكر المعاصر حول ” دور الجامعات والباحثين بين حرية الإبداع وممارسات الرقابة ” في الفترة من 19 إلى 21 يونيو/حزيران 2008، بدعوة من ” مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات ” و ” مؤسسة كونراد أديناور بتونس “.