في تمام الساعة الواحدة وأربع دقائق ظهرا من يوم 18 إبريل 1983 انفجرت سيارة مفخخة من نوع GMC مقتحمة مبنى السفارة الأمريكية في بيروت، ما أسفر عن دمار شديد، أتى على معظم أركان المبنى، الهجوم الذي لم يعرف تماما منفذه أسفر عن مقتل 63 شخصا وإصابة 120 آخرين، من بين القتلى 17 أمريكيا منهم ثمانية من ضباط وكالة الاستخبارات الامريكيةCIA ، وبينهم المسؤول الأكبر عن ملف الشرق الاوسط (روبرت “بوب” أيمز)، وهذه أكبر ضربة توقع خسارة بهذا الحجم في تاريخ الوكالة.
الكتاب الذي بين أيدنا يتحدث عن السيرة الذاتية لأيمز، أعده كاي بيرد ونُشر بالانكليزية في العام 2014، بعنوان:
The Good Spy : The Life and Death of Robert Ames : Bird Kai
وترجمه إلى العربية د محمد جواد الأزرقي، وصدر عن الدار العربية للعلوم ناشرون بتاريخ 19 / 11 / 2015، بعنوان ” الجاسوس النبيل : حياة روبرت ايمز وموته”.
وأيمز ضابط من ضباط الوكالة الذي غطى نشاطه منطقة الشرق الاوسط وكان مسؤولا عن العمل التجسسي، وعن توفير ممرات العوالم الخلفية للسياسة الامريكية في المنطقة، ومنذ نشر ترجمته العربية تناوله العديد من المعلقين والمقدمين، لكن لأهمية ما ورد فيه فإنه يحتمل تسليط المزيد من الضوء عليه.
كاي بيرد الصحفي الأمريكي مؤلف الكتاب الحائز على جائزة بوليتيز “تقدمها جامعة كولومبيا بنيويورك في مجالات عدة” يقدم لنا عرضا مشوقا بأسلوب روائي راق وجذاب، لعالَم روبرت إيمز “بوب” من لحظة قدومه إلى الحياة حتى مغادرتها، ثم يمتد العرض إلى أبعد من ذلك، لكن لأناس ذوي علاقة بتلك العالم، بيرد يهتم بتفاصيل الحوادث، ويقدمها في إطار من العلاقات الإنسانية والمشاعر، والدفئ العائلي، الذي قد ينسي القارئ لبعض الوقت أن ما يطلع عليه إنما هو صفحة من صفحات التجسس التي تنسجها الولايات المتحدة في المنطقة، وكيف أنها توفر لها أناسا أكفاء يمتلكون من الخصائص الذاتية والتأهيل العلمي والتدريب ما يمكنهم من إتمام مهمتهم على أفضل وجه.
تفاصيل كثيرة في حياة أيمز، حياته العائلية الأولى، ودراسته، واهتماماته وهواياته المختلفة وصولا إلى تكوينه لأسرته الجديدة زوجته التي عقد قرانه عليها في العام 1960، واستقباله لأولاده الستة في ظروف وظيفية وحياتية متباينة كلها مسطورة في هذه الرواية.
الشخصية الرئيسية في رواية بيرد هي بالتأكيد شخصية روبرت أيمز “بوب”، لكن الذي يشكل حياته المهنية منذ أن دخل وكالة المخابرات المركزية وتخصص بمنطقة الشرق الأدنى، هم الشخصيات التي استهدفها في عمله، وعمل على استقطابها لتكون في موقع “العميل” لهذا الجهاز بمراتبه المختلفة، العميل المأجور الذي وقع مع الوكالة عقد عمالة، ويتقاضىى مالا على عمالته، أو العميل الذي يعتبر مصدر موثوق للمعلومات لكن لأسباب مختلفة لم يوقع عقدا، ولا يتقاضى أجرا، لكنه شأن الأول له اسم سري في مراسلات الوكالة، ثم هناك صنف ثالث على أهمية كونه مصدرا إلا أنه يصنف تصنيفا مستقلا، فهو ينظر لنفسه، ولما يقوم به على أنه تخادم من الطرفين تفيد الطرفين معا، وهذا لا يكون عادة إلا بين مندوبي مخابرات دول متحالفة أو متصارعة تريد أن تنشئ لها عوالم خلفية تتبادل فيها المعلومات، لكن في مثل الوضع في منطقة الشرق الأدنى فإن الأمور تتداخل كثيرا.
ومع شخصية ايمز وعمله تظهر أمامنا شخصيات عايشها الكثير منا أو عايش بعضها إما مباشرة وإما من خلال الأحداث والوقائع والأعلام، وفي سيرة أيمز سنقف مع:
** شخصية “عبد الفتاح اسماعيل” الزعيم الماركسي الأول في جنوب اليمن، والذي بقي في موقعه القيادي الأول لفترة عقدين من الزمن على الأقل. تعرف عليه أيمز في جلسة قات، ثم توطدت العلاقة بين الاثنين حتى اعتبرت الوكالة أنهم بصدد توظيف رئيس دولة قادم.
** وشخصية القيادي والأكاديمي في حركة القوميين العرب ومن ثم في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين العراقي “باسل رائد الكبيسي”، الذي سعى إلى لقاء أيمز في اليمن الجنوبي عقب الاستقلال وانسحاب بريطانيا، والذي صار واحدا من أهم مصادره، مؤكدا في الوقت نفسه أنه لم يسجل عميلا رسميا للوكالة، والذي اغتاله الموساد الاسرائلي في 6/ 4 / 1973 ، موجها بذلك دون ان يعملم ضربة لمصدر مهم من مصادر الوكالة.
** الشخصية اللبنانية الغامضة والمدهشة مصطفى الزين، ابن الجنوب اللبناني، والناشط في منظمة الطلبة العرب الأمريكيين حين كان في الولايات المتحدة، الذي أقام مع أيمز علاقة وطيدة بترشيح من أحد عناصر ال CIA، حين عاد مصطفى إلى لبنان، واستمرت هذه العلاقة توطدا وقوة، وكان مصطفى حاضرا إلى الجانب الأمريكي والفلسطيني، في المشاهد التي شكلها تطور الأوضاع في لبنان: الأمريكية الفلسطينية اللبنانية الاسرائيلية.
كان حاضرا في لبنان، وفي أوربا، وفي الولايات المتحدة، وحتى في الأمم المتحدة. وكانت عين العناية والرعاية تحيط به في كل حين، حتى حينما خطفه مسؤول في الجبهة الشعبية وحقق معه للتمحيص بشبهة عمالته، تمكن من الفرار من سجنه، ثم أعدمت الجبهة في وقت لاحق هذا المسؤول،
وبعد أن قتل أيمز استمر مصطفى الزين، في مهامه، وكان واسطة التفاوض مع عماد مغنية للافراج عن مدير الوكالة في بيروت وايم كيلي الذي اختطف في العام 1984 ، وكادت الوساطة أن تنجح لولا تداعيات المحاولة الفاشلة عام 1985 لاغتيال محمد حسين فضل الله الذي اعتبر الاب الروحي لحزب الله.
شخصية زين وبكل الاعتبارات شخصية استثنائية ومحيرة، حتى أن الظن قد يذهب إلى اعتبار هذه الشخصية شخصية وظيفية، قدمها كاي بهذا الشكل مستهدفا أغراضا محددة.
** القيادي الفلسطيني البارز على حسن سلامة ” أبو حسن سلامة” قائد الفرقة 17 المسؤول عن أمن زعيم حركة فتح، وزعيم منظمة التحرير الفلسطينية، الذي كان الزين واسطة العلاقة بين الطرفين، والذي توثقت العلاقة به إلى درجة أن الوكالة عرضت عليه رسميا مرتين أن يكون عميلا رسميا لها، وحددت الثمن المادي، لكن صلة أبو حسن سلامة كانت بتنسيق مع عرفات، وتعبيرا عن التعاون بين جهازين لذلك رفض أن يتحول إلى عميل، ثم عرضت عليه مرة ثالثة بدعوى حمايته من توجه الموساد الاسرائيلي لاغتياله.
** كذلك تظهر شخصيات عدة على طريق بيروت طهران عقب انتصار ثورة الحميني، وفي هذه المرحلة تم قتل ايمز ورفاقه في بيروت، لذلك فإن الرواية لا تختتم إلا بتسليط الضوء على هذه المرحلة وعلى هذه الشخصيات وفي هذا المسار يظهر عماد مغنية، والإيراني ”علي رضا أصغري”، وآخرون.
وفي خضم هذه الشخصيات والمهام التي قام بها هؤلاء يظهر أمامنا عالم من العلاقات المتشابكة، والشخصيات المؤثرة، التي تفسر لنا معرفتها كثيرا من المسائل والمواقف، وتساعد على كشف حقيقتها.
لذلك فإن من المفيد أن نطل على هذا العرض الملحمي الذي يقدمه لنا كاي بيرد، لكن قبل ذلك لا بد من الإشارة إلى أن ما يقدمه الكاتب هو سيرة لمسؤول في المخابرات المركزية الأمريكية، وبالتالي فإننا يجب أن نقف بحذر أمام ما يورده من معلومات، وذلك لأسباب عدة أهمها سببين رئيسيين:
الأول : أن ما يمكن أن يرد من أحداث، ومن تقويمات لشخصيات، ومن كشف لعلاقات، هو بالتأكيد ليس كل ما يخص هذه الأحداث والوقائع والشخصيات، ونحن نعلم أن نصف الحقيقة أو الحقيقة المنقوصة أو بعض الحقيقة قد تكون مضللة إلى أبعد حد، وحين تكون الكتابة في إطار ” المخابرات” فإن الحذر يصبح فرضا لا يجوز التهاون به.
الثاني : أن كثيرا مما يكتب عادة في هذا الاطار له سبب ودافع وظيفي، وهو يستهدف أحيانا الاستثمار في صراعات أو معارك أو لتشويه صورة لشخصيات ذات وزن وقيمة في الحياة.
ومع هذا الحذر فيجب الاعتراف أن معظم الشخصيات الرئيسية التي ذكرتها هذه السيرة، غابت عن الحياة منذ فترة طويلة، وغاب معها أثرها، ووهجها، وبالتالي لم يعد مفيدا تعمد تشويه صورتها، أو تعمد إلباسها ثوبا غير ثوبها، وهذا ما يوفر حدا معتبرا من الأمان في الاقتراب منها، ويحقق أيضا أرضية مهمة ضروريا لفهم الأحداث، بأكثر مما هي ضرورية لإصدار الأحكام.
كذلك فإن الرواية كلها بتفاصيلها وشخوصها تؤكد لنا ما يعرفه الكثير منا بشأن مكانة ” الكيان الصهيوني” في العقل السياسي الأمريكي، وفي تركيبة الإدارات والدولة الأمريكية، وهي مكانة لا نراها تختلف باختلاف رجالات البيت الأبيض أو باختلاف حزبية الرؤساء الأمريكيين، وقد يبدو القول أن هذا الكيان بمثابة “الطفل المدلل” للعقل السياسي الأمريكي كاف في التعبير عن هذه المكانة، لكن متابعة ما تعرضه هذه السيرة في هذا الجانب يظهر أن مكانة هذا الكيان لا تستوعبه وصفة الطفل المدلل، وإنما لمكانتها شيء من القدسية، وأن الذي يريد أن يتحالف مع العقل السياسي الأمريكي تحالفا حقيقيا فإن المدخل الرئيس له هو مدى تحقيق مصالح هذا “الكيان” ومدى الإيمان بشرعيته.
سنبحر مع سيرة أيمز كما عرضها بيرد، بالاختصار الممكن، وبالوقوف على ما يهمنا، وفي مسار هذا العرض ستتكشف لنا الشخصيات الرئيسية المشار إليها، وأيضا شخصيات فرعية مؤثرة.
أولا: روبرت أيمز “بوب”، صاحب السيرة الذاتية وبطلها
يفتتح بيرد روايته عن أيمز برفع الستارة عن مشهد توقيع اتفاقية أوسلو في حديقة البيت الأبيض، وكيف أن الجهات الداعية تناست دعوة ممثلين عن CIA رغم الدور غير المنكور لهذه المؤسسة في الوصول الى هذا المشهد، ويذهب وفد من CIA إلى المقبرة لزيارة ضريح أيمز الذي قتل بتفجير السفارة الأمريكية في بيروت والذي كان قد افتتح السبيل الأول الذي عبرته فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية الى حديقة البيت الأبيض في 13 سبتمبر 1993 حيث يلتقي الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات مع رئيس الوزراء الاسرائيلي اسحق رابين برعاية الرئيس بيل كلينتون للتوقيع على اتفاقية الحكم الذاتي .
بعد هذا المشهد الافتتاحي يقدم لنا بيرد بطله روبيرت ايمز المولود في العام 1934 والمميز في كل شيء، في تربيته وسلوكه وبنيته الجسدية وتأهيله الرياضي والأكاديمي وحبه للقراءة والتزامه الديني وعنايته بالتفاصيل في كل شؤون حياته، وفي شغفه في تعلم اللغات الأجنبية : الفرنسية، الاسبانية، ومن ثم العربية، تخصص في علم الاجتماع ودرس في علم الفلسفة وتخرج من جامعة لاسال في العام 1956، وذهب لتادية الخدمة العسكرية في عام تخرجه حيث تم فرزه للعمل في شعبة الاتصالات العسكرية ولتكون محطة التجسس الالكترونية في كاغينيو بأرتيريا هي محطة العمل الأولى له، وهي أهم محطة تجسس أمريكية في فترة الحرب الباردة متخصصة في التقاط وفك الشفرات والاتصالات في كل من افريقيا والشرق الوسط.
وبعيد انتهاء الخدمة الالزامية، ومدتها عامين، ونيله مدالية حسن السلوك والتصرف، وزواجه في الثلاثين من ابريل 1960 من ايفين التي تصغره بثلاث سنين، بدأ أيمز عمله بوكالة المخابرات المركزية الأمريكية في أواخر الستينات، وبعد خضوعه للتدريبات الاولية اللازمة واجتاز برنامج التدريب DP الذي يستمر لعامين بات عمله ضابط مهمته تجنيد المخبرين وجمع المعلومات الاستخبارية من المصادر الاجنبية.
والمحطة الرئيسية في عملية التجنيد الخطرة والمعقدة للعملاء هي “الحصول على توقيع الشخص المستهدف على اتفاق مكتوب … ففي الوقت الذي يعطي فيها المخبر المستهدف آراء أو يدلي بمعلومات مقابل بعض المردود المالي أو غيره تبدا عندئذ اللعبة” ص 31.
خلال عمليات التدريب المتنوعة التي كان يشرف عليها ويشارك فيها أساتذة جامعة ومحتصون من مختلف العلوم الانسانية لمع نجم ايمز، وحصل على المرتبة الاولى بين 46 متدربا ولتفوقه واهتماماته تم فرزه إلى قسم الشرق الادنى، وفي تصوير لطبيعة عمل الاستخبارات الأمريكية في هذه المرحلة ينقل بيرد عن دوان كلارج الضابط المتمرس في العمليات السرية، واحد الذين عمل ايمز تحت امرتهم لاحقا قوله:” كانت واشنطن تعتمد بشكل كبير على المعلومات التي تحصل عليها من البعثات التبشيرية والعاملين في ميدان صناعة النفط” ص41. وكان ضباط المخابرات العاملين في المنطقة يفتقرون لأي معرفة عميقة بتاريخ المنطقة وثقافتها، ولا يتحدثون لغتها، وحين علم ايمز انه سيتم تعيينه في المنطقة عكف على تعلم اللغة العربية، وكانت قاعدة الظهران في المملكة العربية السعودية أول موقع عمل فيه ايمز، حيث انتقل إليها وزوجته وابنته مطلع صيف 1962، وبقي هناك لثلاث سنوات ورغم صعوبة الحياة فقد تمتع بها أيمز، وتمنى ان يبقى في السعودية حتى بعد انتهاء عملة في CIA ، وأقام علاقات وثيقة مع المجتمع والقبائل وتعلم اللغة العربية كما هي، واكتشف خلال رحلاته الصحراوية مواقع أثرية، وكون علاقة صداقة مميزة مع أمير المنطقة الشرقية ابن جلوي” الأمير سعود بن عبد الله بن جلوي آل سعود”.
اهتمام أيمز بالعلاقة مع السكان البدو كان لهدف عملي مباشر إذ لم يكن ” اهتمام بوب بشخصية البدو لم يكن مرده اعجابه بهم وبثقافتهم وعاداتهم ونمط حياتهم فقط ، بل هدف إلى تأمين علاقات معهم للحصول على ثقتهم لكي يطلعوه على المعلومات التي تخص نمو حركة القومية العربية والحركات المتمردة الأخرى في المنطقة” ص57.
في العام 1966 انتقل إلى بيروت لدراسة اللغة العربية بشكل مكثف ومنذ ان حط بهذه المدينة اعجب بها كثيرا بحيويتها وتنوعها وبانها مركزا لنشاطات مختلف اجهزة الاستخبارت الاجنبية، وفي فندق السان جورج حيث يلتقي الجميع بالجميع تعرف على الصحفي اللبناني “محمد خليل أبو ريشة” أبو سعيد، الذي عمل سابقا مراسلا لصحيفة نيويورك تايمز والذي تدور حوله إشاعات بأنه يمعمل لصالح المخابرات الامريكية، ويعتقد أيمز انه ليس كذلك رغم تزويده الوكالة بما يحصل عليه من معلومات لكونه يميل إلى الجانب الامريكي، ويشير مترجم الكتاب ـ في هامش الصفحة 61 ـ أنه بعد سنوات ادعى آرجي روزفلن أحد ضباط الوكالة أنه جند أبو ريشة عميلا للوكالة أواخر الاربعينات، وأن اسمه الحركي هو PENTAD ، ويقول إن ابنه سعيد اعترف في مقابلة صحفية بعمالة والده مؤكدا أنه أسر له بذلك قبل وفاته.
في العام 1967 نقل أيمز للعمل في صنعاء، حيث كانت تدور حرب اليمن التي وصفها أيمز بالحرب الأهلية، وشهد شهر يونيو من هذا العام حرب الخامس من حزيران / يونيو، ووقعت الهزيمة التي كانت وفق وصفه هزيمة للعالم العربي، وخصوصا لزعيمه جمال عبد الناصر، لكن هذه الحرب ونتائجها قوض مكانة الولايات المتحدة، وفرضت عليها سحب 24 ألف أمريكي كانوا يعملون في المنطقة، وطلب من أيمز التوجه إلى عدن التي كانت محمية بريطانية، وكانت عدن حينها تموج بالمقاومة.
وفي وصفه للحالة الأمنية يقول أيمز: إن القتال كان بين ثلاثة أطراف: البريطانيون، وجبهة التحرير الوطني اليسارية التي ولدت من حركة القوميين العرب (الجبهة القومية)، وجبهة تحرير اليمن الجنوبي المحتل التي تلقى حسب وصفه الدعم من جمال عبد الناصر، ويشير إلى أن بريطانيا حين قررت سحب جنودها من جنوب اليمن قررت تسليم الجبهة اليسارية السلطة، وكانت هذه الجبهة تتقدم في عدن على خصومها وتعمل على إبادتهم. ص73 .
وتحت قيادة زعيم الجبهة اليسارية قحطان الشعبي اسنقر الأمر في عدن، وبدأت مظاهر الحياة الهادئة والمنضبطة تعود إليها، وبدأ هو يخرج ويتجول ويسافر باطمئنان في انحاء اليمن الجنوبي.
ثانيا: عبد الفتاح اسماعيل
وفي إطار تقاليد اندماجه في بيئة مجتمع الجنوب، بدأ أيمز يحضر ويشارك في مجالس مضغ القات، وفي هذه المجالس التقى الزعيم الايديولوجي الأشهر في الجنوب عبد الفتاح اسماعيل، وقد أخبر ايمز بعد سنوات مدير الاستخبارات الأمريكية “وليم كيسي” بأنه “صادق ذلك الشاب الثوري أو أنه على الأدق حصل على ثقته” ص 78.
العلاقة بين عبد الفتاح وايمز مثيرة، وحسب توصيف أيمز قدم عبد الفتاح له ـ وهو يعرف من هوـ شرحا ضافيا عن تجربته في مدرسة الكوموسمول التي أسسها السوفييت لتدريب الشباب الثوري، كما تحدث عن خططه في التغيير الاجتماعي، واستلم عبد الفتاح وزارة الثقافة، قبل ان ينفى في مارس 1968 من قبل الحكومة اليمينية إلى الاتحاد السوفياتي، ليعود بعد ذلك في انقلاب داخلي في يونيو من العام 1969 وليصبح السكرتير العام للجبهة وعضوا في مجلس الرئاسة، وليكون بذلك القائد الفعلي للبلاد، ص78، وقد بقي في منصب القائد الفعلي لليمن الجنوبي حتى مقتله وعدد من رفاقه خلال اجتماع للمكتب السياسي للحزب في عدن في يناير 1986.
كان الاحساس في لانغلي،( الضاحية التي تقع على قرب واشنطن وفيها مركز المخابرات المركزية) أن”أيمز استطاع أن يجند للمستقبل رئيس دولة”، يعلق كاتب السيرة على هذه العلاقة بقوله “من الصعب حتى الآن معرفة ماذا حصَل أيمز أو واشنطن من توطيد تلك العلاقة، كما من الصعب معرفة ماذا حصَل اسماعيل منها، ويفسر بيرد الأمر بالقول: ربما كان الشاب الثوري يشعر بالقوة إلى الحد الذي جعله يثق بضابط الوكالة، ولكن أيمز حصل على فرصة أن يفهم عقلية شخص أصبح لاعبا كبيرا في سياسة بلده” ص 79 .
العلاقة بين أيمز وعبد الفتاح اسماعيل كانت وطيدة من الجانبين، وبقي الأخير الزعيم الأول في بلاده لنحو عقدين من الزمن، ومع ذلك فمن حين غادر عدن لم نسمع من أيمز أي تواصل أو تقدير أو ذكر لهذه العلاقة، وهو أمر لا يتسق مع طبيعة أيمز الذي كان يحتفظ دائما بعلاقاته مع الأشخاص الذين اهتم بهم حتى ولو غادر منطقتهم، وسنشاهد مثل هذا الاهتمام مع الشخصيات التي التقاها في بيروت.
ثالثا: باسل رؤوف الكبيسي
وفي عدن تعرف أيمز على باسل الكبيسي الذي سعى بنفسه للقاء ضابط المخابرات، وكان باسل العراقي شخصية نضالية قومية بارزة، وعضو حركة القوميين العرب، والأكاديمي الذي نال الماجستير من جامعة كلية ادمز الحكومية في كولورادو، وشهادة الدكتوراة من جامعة هوارد في واشنطن، وكتب أطروحته عن حركة القوميين العرب بين الاعوام 1951 ـ 1971 ( تعتبر هذه الأطروحة أهم مرجع في دراسة حركة القوميين العرب)، وهي الحركة التي كان يراقبها ويتابعها أيمز خلال فترة وجوده في السعودية، وبسبب انتمائه الحركي ومسعاه الأكاديمي التقى الكبيسي زعماء حركة القوميين العرب وزعماء الجبهتين الشعبية والديموقراطية اللتين تخلفتا عن الجبهة بعد انفراط عقدها عقب العام 1967، اذ قابل قحطان الشعبي وجورج حبش ونايف حواتمة ووديع حداد، ومن موقعه الحركي والسياسي والثقافي والأكاديمي بات السفير الثقافي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
وفي اطار خطتها لتصفية العقل الفلسطينيي عقب عملية ميونخ 1972 اغتال الموساد الإسرائيلي العديد من المثقفين والأدباء والمفكرين الفلسطينيين، وكان الكبيسي من هؤلاء وقد اغتيل في فرنسا في التاسع من أبريل 1973، ويعلق بيرد بقوله: ربما لم تعرف اسرائيل أنها اغتالت شخصا كان لا يزال على علاقة مع المخابرات الأمريكية ص 159، وكانت “هذه هي المرة الأولى التي يخسر فيها أيمز أحد مجنديه بعملية اغتيال” ص 160، ويأتي هذا التوصيف رغم أنه لم يتم تحويله رسميا إلى عميل، لكن أيمزكان قد أعطاه اسما سريا في الوكالة.
دوافع اتصال الكبيسي بالوكالة لم يسلط عليها الضوء، لكن وثائق الخارجية البريطانية التي أستعان بها بيرد اعتبرت الكبيسي مصدر معلومات لها عن حركة القوميين العرب عام 1963.
نجاحات أيمز ودقته في عمله أثمرت المرة تلو الأخرى في ترقيته وظيفيا، ورغم عمق العلاقات التي صاغها في جنوب اليمن إلا أنها تاثرت كثيرا بتطوير العلاقات الامريكية الاسرائيلية عقب حرب 1967 وحين قطعت اليمن الجنوبي علاقاتها مع الولايات المتحدة عقب صفقة الفانتوم الامريكية لاسرائل عين ايمز في لبنان فتوجه إثر ذلك الى بيروت.
رابعا: مصطفى الزين
في بيروت التقى أيمز بالشاب الجنوبي مصطفى زين ابن صور، وابن العائلة الثرية، خريج معهد جيرارد الأمريكي في صيدا، وخريج كلية نورث سنترال الأمريكية بمدينة نابرفيل في ولاية إلينوي، والعضو النشط سابقا بمنظمة الطلبة العرب في الولايات المتحدة، وبسبب هذه النشأة كانت علاقاته واسعة بالطلبة العرب الفلسطينيين والمصريين الذين درسوا في الولايات المتحدة، وبمنظمتهم الطلابية، وكان منهم نبيل شعث، وعمرو موسى، وأسامة الباز، وكان على صلة بمنظمة الاتحاد الوطني لطلبة الولايات المتحدة التي رعت برنامجها وكالة المخابرات الامريكية منذ تاسيسها لتكون وسيلتها للتغلغل في منظمات الطلبة الاجانب.
في العام 1964 انتقل زين إلى القاهرة ليدرس الطب لسنة واحدة ثم تفرغ للتجارة والسياسة والتقطت له صورة مع الملك حسين، وحظي بمقابلة جمال عبد الناصر، وأصبح في العام 1968 مستشار خاصا ومترجما للشيخ زايد بن سلطان ال نهيان، ولم يكن عمره قد تجاوز 26 عاما، وفي موقعه هذا التقى بمسؤول في المخابرات المركزية يعمل تحت ستار الملحق التجاري في الظهران، وقد عرفه على حقيقة تبعيته للمخابرات، ودعاه إذا انتقل إلى بيروت أن يلتقي بشاب أمريكي يعمل هناك اسمه “بوب أيمز” وتم هذا اللقاء أواخر عام 1969 .
العلاقة بين أيمز وزين صارت وطيدة جدا، وكانت صريحة جدا، فزين يعرف مع من يتعامل ومستوى من يتعامل معه، واستمرت هذه العلاقة تتوطد حتى مقتل ايمز في تفجير السفارة.
المدهش في هذه العلاقة أن زين كان قادرا على التواجد في كل مكان، وعلى الانتقال إلى كل مكان، وكان على علاقة وطيدة مع مختلف الأطراف الفلسطينية واللبنانية، من “بشير الجميل” إلى “أبوحسن سلامة” مرورا ب “أبو عمار”، وكانت علاقته بسلامة مميزة جدا كما علاقته بأيمز، وقام بنقل مقترحات الرئاسة الأمريكية إلى عرفات عقب الاجتياح الاسرائيلي للبنان، والتي صيغت لاحقا تحت عنوان ” مبادرة سلام أمريكية لشعوب الشرق الأوسط”، وحين دعي عرفات إلى الأمم المتحدة ليلقي خطابه أمام الجمعية العامة كان زين ضمن الوفد، ورافق أبو حسن سلامه إلى الولايات المتحدة للاجتماع إلى رئيس الوكالة حينها جورج بوش الأب، وفي مسار العلاقات الخلفية الأمريكية الفلسطينية ما من مكان إلا وكان مصطفى زين حاضرا فيه.
كان وضع زين مثيرا لكثير من التساؤلات، لكن أحد مسؤولي الوكالة أكد أمام إحدى المحاكم الفيدرالية أن زين لم يستلم قطعا أموالا من الوكالة، وأن الأساس في تعاونه رغبته بأن تتفهم الولايات المتحدة وجهات نظر الفلسطينيين والعرب تجاه الوضع في الشرق ألأوسط ص 93.
اعتبره سام وايمن مسؤول CIA الذي تواصل مع زين في مرحلة لاحقة أن زين ” كان مخبرا عقائديا، تطوع بمحض إرادته أو سمح لنفسه أن يجند، …. لم يكن شخصا يمكن شراؤه، ولم يقبل أن يتلقى الأوامر من الأمريكيين، كان شخصا مستقلا بنفسه، … ولذلك لم تكن هناك حاجة فعلية أن يدفع له مقابل خدماته” ص 94، لشدة تقدير أيمز لصديقه مصطفى الزين واعترافه بذكائه أعطاه في برقياته للوكالة اسم ” النبي ” .
ويذكر كاتب السيرة أن زين اعتقل من قبل ضابط مخابرات الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أحمد أبو يونس لمدة عشرة أيام، وحقق معه بقسوة لكنه تحمل ذلك، وتمكن من الفرار، ثم في وقت لاحق أعدمت الجبهة الشعبية عام 1981 “ابو يونس” الذي تفذ عملية اعتقاله.
خامسا: علي حسن سلامة ” أبو حسن سلامة”.
تولى زين تعريف أيمز على رئيس جهاز الاستخبارات الفلسطيني المعروف بالقوة 17 علي حسن سلامة ” أبو حسن سلامة”، مشيرا إلى صلته الخاصة بياسر عرفات، وكان سلامة شخصا متميزا لم يتجاوز حينها السابعة والعشرين من العمر، لكنه ورث عن والده الشهيد حسن سلامة تاريخا نضاليا مجيدا أهَله ليكون بمثابة الابن لعرفات، وكان في سلوكه الشخصي ثوريا مغامرا منفتحا، لكنه لم يكن ماركسيا كالشباب الثوري في تلك المرحلة، تعرف عليه زين في إيطاليا في العام 1964، قبل أن ينتقل لاحقا إلى الكويت ليكون مسؤول حركة فتح الطلابي فيها.
وكان سلامة درس الهندسة بدعوة من جمال عبد الناصر الذي علم بوضع أسرته الحياتي الصعب في بيروت، وأنه ابن الشهيد أبو علي سلامة، فخصص له منحة جامعية، ويوصف سلامة بالارستقراطي، كان يتكلم الإنكليزية والألمانية والفرنسية بطلاقة، وكان رياضيا يلعب الكاراتيه، كان يرتاد أفخم المطاعم، ويركب سيارات فارهة، وبينظر إليه بأنه زير نساء، ووصف بالأمير الأحمر، وقد تزوج لاحقا من ملكة جمال الكون اللبنانية جورجينا رزق، لتكون زوجته الثانية، وحين تم اغتياله كان جورجينا في حملها الاول.
المعلومات التي وفرها زين عن علي حسن سلامة جعلت أيمز يتطلع لتجنيده، ولهذا الغرض شجع زين ليجمع بينهما، وفي شارع الحمرا ببيروت كان لقاؤهما الأول، ثم تحولت اللقاءات لتكون في أماكن سرية مؤمنة، وأبلغ أيمز بشكل رسمي أبو حسن سلامة أن مجلس الأمن القومي الامريكي كلفه رسميا بإقامة قناة اتصال سرية مع منظمة التحرير، وأن الخيار وقع عليه.
في صيف العام 1970 بات سلامة مصدر المعلومات الرئيس لأيمز، وقد أعطي إسما سريا لدى CIA هو ” MJTRUST/2 “، ويرمز الحرفان الأوليان إلى بلد الشخص، وهو هنا فلسطين، أما الرقم 2 فهذا دليل وجود شخص آخر يعمل لصالح الوكالة داخل المنظمة، اما الاسم TRUST ( ثقة)، فقد أطلقه أيمز على صديقه دليلا على ثقته به.
حين وقع الصراع بين الفلسطينيين والملك حسين عام 1970 كان أيمز يميل إلى الاعتقاد بان في قدرة الفلسطينيين الانتصار على الملك واسقاط دولته، لكن خطف الطائرات وأخذ الرهائن ومن ثم تفجر الحرب بينهما أثبت ان تقدير أيمز ومجموعته، والتي استندت إلى تقديرات سلامة لم تكن في محلها.
وفي أجواء الصراع العنيف بين الطرفين أعلنت وفاة جمال عبد الناصر بعد أن رتب في قمة عربية طارئة وقفا لاطلاق النار بين المنظمات الفلسطينية وقوات الملك حسين، لكن عقب الوفاة تابعت قوات الملك سحق الفدائيين موقعة هزيمة ساحقة بهم دفعتهم للانتقال الى لبنان.
في كل هذه الفترة كان الموقف الرسمي الامريكي متمثلا بمنع إقامة أي علاقة مع منظمة التحرير، باعتبارها تنظيما ارهابيا، لكن علاقة أيمز مع سلامة سمحت بتمرير المعلومات التي يبعث بها سلامة إلى مكاتب أعضاء مجلس الامن القومي الامريكي. وكان أيمز على قناعة تامة بأن ما يتم بينه وبين سلامة ينقل فورا إلى عرفات، وأن الأخير يبارك هذه العلاقة.
كان يعض رؤساء ايمز يأخذون عليه انه لم يطور هذه العلاقة إلى علاقة “عمالة رسمية”، أي أن أيمز لم يستطع تجنيد سلامة، والتجنيد يعني توقيع عقد اتفاق مأجور بين الطرفين، إذ دون هذا العقد، يبقى الطرف الآخر غير خاضع للوكالة، أو أنه يعتقد أنه يملك حرية التصرف بالرفض والقبول لما يطلب منه، وقد تم اطلاع الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون ومستشاره للامن القومي هنري كيسنجر على الصلة مع سلامة، لكن الرئيس ومستشاره كانا يفضلان تحول سلامة إلى عميل رسمي حتى يكون الأمر منضبطا، ومتوافقا مع سياسة الوكالة والسلطة السياسية.
وفي أجواء الاختلاف في تقييم العلاقة مع سلامة قررت الوكالة إرسال مندوب عنها ليقوم بعملية التجنيد الرسمي، واختيرت روما للقاء بين سلامة والضابط المكلف فرانك كاسن، وقام زين بإبلاغ سلامة بالموعد، ونبهه بأنه ستتم محاولة تجنيده، وقد حدث اللقاء في 16 ديسمبر 1970، وعرض كاسن على سلامة راتبا شهريا قدره 300 ألف دولار، لم يجب سلامة على العرض، ثم لم يلبث أن غادر بعد أن حدد كاسن موعدا للقاء في اليوم التالي، وكان زين حاضرا اللقاء الثاني، “وحين خرج سلامة لقضاء حاجته التفت زين إلى كاسن وقال له : أخبرني علي بكل شيء، وقال بأنكم مستعدون أن تدفعوا لمنظمة التحرير سنويا 35 مليون دولار، وستعترفون بها، وقد أرسل رسالة مشفرة إلى عرفات ينقل إليه العرض، وأن رئيس المنظمة ممتن جدا” ص 122 ، كان هذا ايذانا بفشل مهمة كاسن فشلا ذريعا.
يقدر أيمز الذي نقل في هذا الوقت إلى المركز في واشنطن أن مكانة سلامة داخل المنظمة عانت من نكسة حقيقية وأن قربه من عرفات خصوصا بعد أحداث الأردن لم يعجب أبو اياد، وعمد الرجل الثاني في فتح إلى تحميل “سلامة” مسؤولية هجمات في أوربا في فبراير 1972 أدت إلى مقتل خمسة عناصر من القوة 17، وفتح عرفات تحقيقا بالأمر لكنه لم يلبث أن بُرئ سلامة من المسؤولية عن تلك الهجمات، وعاد إلى موقعه في القوة 17. وكان أيمز وهو في لانغلي يتابع تطور وضع سلامة ومكانته من عرفات.
عقب أحداث الأردن الدامية ظهرت منظمة أيلول الأسود وبدأت عملياتها الانتقامية ممن رأت أنهم يتحملون مسؤولية ما حدث للفلسطينيين في الأردن، وكان اغتيال رئيس وزراء الاردن وصفي التل في 28 / 11 / 1971 في القاهرة من أبرز ما قامت به، ويؤكد أيمز أن سلامة ميز نفسه عن جماعة أيلول الأسود التي قادها ميدانيا أبو داوود، وكان أبو اياد عرابها.
قبل ساعات من مقتل التل كان أيمز قد وصل إلى عمان في زيارة قصيرة، ما لبثت أن تحولت إلى مهمة التعرف على حقيقة ما جرى، ثم عاد إلى حياته المكتبية في المركز، إلى حين أن طار بمهمة مؤقتة في مايو 1972 إلى صنعاء تستغرق شهرين ونصف الشهر، وكان صديقه “عبد الفتاح اسماعيل لا يزال رئيسا للنظام الماركسي في اليمن الجنوبي ” ص136 ومع ذلك لا يذكر أنه تواصل معه، وعاد إلى واشنطن في 13 اغسطس فيما كانت حملة الرئيس نيكسون للتجديد له في أوجها، وفي مطلع أبريل 1973 غادر إلى طهران ليكون نائبا لمدير محطة طهران آرت كالاهان.
لكن أيمز الذي بات خبيرا بقضايا المنطقة ويوصف بالمستعرب، استمر وهو في واشنطن أو طهران يتابع القضية “الفلسطينية ـ الاسرائيلية”، وسافر خلال السنوات القليلة التالية برحلات عديدة بين واشنطن وطهران وبيروت ” ص 141، ولأهمية أيمز اقترح هيلمز على مستشار الأمن القومي الأمريكي هنري كيسنجر أن يخصص من وقته للاستماع الى تقيم بوب أيمز لبعرض عليه مشاكل الخليج، وكان هذا الوقت وقت العمليات التي نفذتها أيلول الأسود في انحاء مختلفة من العالم.
في اعتقاد أيمز لم يكن سلامة بعيدا عن بعض هذه العمليات، وبسبب مخاوفه من هذا الاتجاه كتب أيمز في 26 مارس 1972 إلى زين رسالة مطولة يعبر فيها عن هذه المخاوف، ومؤكدا في الوقت نفسه خطورة هذه العمليات على المسار الذي تم فتحه بين منظمة التحرير وواشنطن، وخطورة أن تصل مثل تلك الهجمات إلى الولايات المتحدة، ولم يفته أن يشير إلى الضرر البالغ من تسرب رسالته هذه إلى الإعلام الأمريكي، معبرا عن ثقته بزين وكذلك بسلامة، وعرض في هذه الرسالة اللقاء مع سلامة، وكذلك استعداده لترتيب انتقال آمن ل”سلامة” وعائلته إلى أي منطقة من أوربا، وواضح من نص الرسالة أنه بات يخشى على سلامة من الموساد الإسرائيلي الذي جعله هدفا له بعد أن اعتبره مسؤولا عن الهجمات الأخيرة، وقد أطلع زين صديقه سلامه على الرسالة فاستخف بها، لكنه اطلع عليها عرفات.
في 9 ابريل 1973 تمكنت فرقة إسرائيلية خاصة من اغتيال ثلاثة من كبار القادة الفلسطينيين في مقر إقامتهم في شارع فردان بيروت وهم ” محمود يوسف النجار، وممدوح عدوان، وكمال ناصر”، العملية باستهدافاتها وجرأتها شكلت صدمة عنيفة للقيادة الفلسطينية، واعتبر الاسرائيليون أن عملية الاغتيال جزءا من الرد على عملية ميونخ حيث قتل فدائيون فلسطينيون عددا من الرياضيين الإسرائيليين المشاركين في دورة الألعاب الأولمبية.
يؤكد أيمز أن العملية من تخطيط “أبو اياد”، وكان رأي الموساد الذي قرر تصفية كل من له علاقة بهذا الهجوم، ان سلامة ليس بعيدا عن العملية وأنه كان في غرفة عمليات بألمانيا الشرقية يتابعها، ويؤكد أيمز أن سلامة لا علاقة له بالهجوم، وأكد زين الأمر نفسه، ونقل عن شقيقة سلامة أنه أنكر أي صلة له بالعملية حينما سألته مباشرة عن الأمر، لكن سام وايمن الذي فشل في تجنيد سلامة يعتقد مثل الإسرائيليين بمساهمته في هذا الهجوم.
ويروي بيرد أنه رغم ضجيج عملية ميونخ فقد حاولت CIA بعد هذه العملية تجنيد سلامة مرة ثانية، وذكرت زوجة سلامة الأولى نشروان شريف أنها “شاهدت أحدهم يعطيه شيكا لم يكتب عليه مبلغا، وقال له أن يكتب ما يشاء، فغضب زوجها جدا، لأن ذلك كان إهانة قوية له، رمى الشيك وغادر الغرفة ” ص 152
في أواخر العام 1972 التقى أيمز بزين الذي كان شديد الغضب من تدهور العلاقة بين الجانبين، وكذلك كانت خيبة الأمل تعلو ملامح أيمز، بعد أن تبين له أن معلومات كثيرة تسربت عن علاقة أيمز بمنظمة التحرير وأن مصدر التسريب الموساد الإسرائيلي ما رجح لديه أن للموساد مصادر داخل منظمة التحرير، لكن زين أكد له أن علاقة أيمز مع سلامة لا يعرفها إلا أربعتهم فقط.
منذ منتصف العام 1971 حين نقل أيمز إلى واشنطن، وحتى فبراير 1973 كانت العلاقة المباشرة بين سلامة وأيمز مقطوعة إلا عبر زين الصديق المشترك لكليهما، وفي رسالة بتاريخ العاشر من ذلك الشهر أكد أيمز لمصطفى أن الوكالة لا تسعى لاغتيال سلامة، وأعلمه أنه يخطط للحضور إلى بيروت يومي 24 فبراير، وكذلك يوم 9 مارس، وأنه على استعداد للقاء سلامة في أي مكان يختاره، وعلى استعداد للإجابة على كل تساؤلاته.
وقد تم اللقاء بين الطرفيين في مارس، لكن اللقاء جاء في أجواء قيام مجموعة من ايلول الأسود باقتحام السفارة الأمريكية في الخرطوم، وأخذ السفير وطاقمه رهينة، ومن ثم اعدام السفير الأمريكي كليو نويل، والملحق كيرتس مور، ودبلوماسي بلجيكي كان حاضرا في حفل وداع مور حين اقتحم الفدائيون السفارة وطالبوا الأردن بالإفراج عن “أبو داوود” أحد قادة ايلول الاسود، ولم يكن سلامة على علاقة بالعملية، ويؤكد أيمز أن سلامة لم يستنكر العملية ووصفها بأنها شر لابد منه، وأكد كذلك أن الفلسطينيين لا يخططون لاستهداف الأمريكيين ولا مصالحهم ص 155 . وشدد على أهمية مثل هذه العلاقات التي يقيمها عبر قنواته للطرفين، وتأكيدا لأهمية هذه العلاقة أشار أيمز أنه حين وصلت مطلع السبعينات معلومات بأن الفلسطنيين يخططون لاغتيال الرئيس نيكسون، بعث برسالة مستعجلة إلى سلامة يستوضحه الأمر، وأكد له سلامة بعد التحقيق أن هذه مجرد إشاعة أطلقها ليبي أوقفته السلطات الإيطالية في محاولة تهريب مخدرات.
في يونيو/ حزيرن بعث سلامة رسالة ل”أيمز” يطلب لقاءه على وجه السرعة، واستجاب أيمز وطار الى بيروت فالتقيا يومي 9 و 10 يوليو في بيت آمن للوكالة، وفي اللقاء أبلغه سلامة بانطباعاته عما يجري في لبنان وتوجيهات عرفات بعدم الصدام مع الجيش اللبناني كما شكا من برنامج الاغتيالات الاسرائيلي والتي كان اخرها اغتيال المسرحي الجزائري محمد بوضيا في باريس، وكشف سلامه أنه جند بوضيا شخصيا ليتولى إدارة عمليات ايلول الأسود في فرنسا،
بعد ايام من اغتيال بو ضيا في الأول من يوليو 1973 تم اغتيال العقيد “يوسف آلون” الملحق العسكري الجوي في السفارة الإسرائيلية بواشنطن أمام منزله في ميرلاند، ويبدو أن المستهدف كان السفير الاسرائيلي “اسحق رابين”، ووجه الإتهام حينها إلى أيلول الأسود، واعتقد زين أن سلامة هو من وجه باغتيال آلون، وترجح مصادر الوكالة أن يكون سلامة أخبر أيمز بمسؤولية القوة 17 عن الاغتيال، لكن عملية الاغتيال بقيت غامضة.
وخلال لقائهما يومي 9+10 يوليو أخبر سلامة أن عرفات أعطاه تعليمات لأخذ مبادرة رئيسية لمفاتحة الامريكيين، وأن عرفات شعر بالامتنان لما ورد في البيان المشترك الصادر عن قمة نيكسون ـ بريجينيف بشأن “مصالح الفلسطينيين في الشرق الاوسط”، منوها إلى أن تغييرات كبيرة حدثت داخل الحركة الفلسطينية منذ التقيا آخر مرة في مطلع مارس 1973، وأن عرفات يريد إخبار الأمريكيين أنه وضع حدا لأي عمليات تستهدفهم، وأن هذا الحظر سيبقى ساريا ما دام الطرفان يواصلان حوارهما، وصرح سلامة بأن عمليات الفدائيين ستقتصر على الأردن وإسرائيل، ولاحقا وضع أيمز مختلف هذه الافكار في مذكرة قدمها للسفير هلمز بتاريخ 18 ايلول، وطلب سلامة في لقائهما أن ياتيه جواب واشنطن عن الأسئلة التالية :
ما ذا تقصد الولايات المتحدة عندما تقول ” المصالح الفلسطينية”؟.
كيف يتعامل الحل السلمي مع مسالة المصالح الفسطينية؟.
هل سيفسح المجال للفلسطينيين في وضع خطط الحل السلمي الجزئي أو الشامل؟.
وفي أواخر يوليو عندما سافر هلمز إلى واشنطن أخُبر كيسنجر بلقاء أيمز و سلامة وبما طرحه الأخير والقائم على مبدأين :
** أن اسرائيل هنا، وهي باقية، وهذا اعتراف بوجود اسرائيل وهو تنازل مهم براي هلمز وأيمز
** أن الدولة الفلسطينية يجب أن تحل محل المملكة الهاشمية، ورأيا أنه مطلب استفزازي
وقد رد كيسنجر بأنه سيفكر بالامر، لكن موقف كيسنجر كما تبين من مذكراته لم يكن إيجابيا بشان حلول الدولة الفلسطينية محل المملكة الهاشمية، وكذلك الأمر بشان دولة فلسطينية في الضفة الغربية، وعبر عن اعتقاده بأن الفسطينيين لن يكتفوا بمثل هذه الدولة حتى لو ضمت كل الضفة الغربية والقدس الشرقية (ص164)، وعبر كذلك عن اعتقاده بأن اسرائيل لن تنسحب من المناطق المحتلة.
رسالة أخرى بنفس المضمون وصلت كيسنجر من منظمة التحرير عن طريق ملك المغرب الحسن الثاني سلمها للجنرال فرنن والتر نائب مدير محطة الوكالة حين كان يزور الملك.
وفي إطار تنشيط اللقاءات السرية بين الجانين التقى والتر في الرباط في 3 نوفمبر بالأخوين “خالد وهاني الحسن”، وقد أكد لهما موقف أمريكا الإيجابي من الملك حسين، وأنه في ضوء الحل الشامل فإن واشنطن تأمل من الحركة الفلسطينية والنظام الهاشمي “أن يعملا سوية نحو الصلح” (ص 166)، ويشار هنا ألى أن الاسرائيليين كانوا غاضبين من اللقاءات السرية الأمريكية ـ الفلسطينية، ويرونها خطرا على مصالحهم.وقد احتجوا رسميا عليها.
بعد 11 يوما من لقاء سلامة وأيمز في بيروت اغتال الموساد في النرويج العامل المغربي أحمد بوشيكي ظنا منهم أنه “أبو حسن سلامة” الذي كان في ذلك الوقت في أوربا، ورغم الموقف الإسرائيلي من التواصل الأمريكي الفلسطيني، سمح كيسنجر وقد أصبح وزيرا للخارجية للجنرال فيرنون والتر نائب مدير محطة الوكالة بالاجتماع ثانية مع الفلسطينيين بتاريخ 7 مارس 1974، وقد أخبر المسؤول الفلسطيني والتر بأن سلامة أحبط محاولة لاغتيال كيسنجر بتفجير طائرته في سماء بيروت بتاريخ 16 ديسمبر 1973 .
في هذه الاجواء كانت المنظمة تبتعد عن استراتيجية العمل المسلح، وتتحول إلى حركة سياسية، ووفق ما أعلن عرفات في 8 يونيو 1974، فقد تبنى المجلس الوطني الفلسطيني بالاجماع خطة جديدة من عشر نقاط مضمونها موافقة المنظمة على إقامة دولة فلسطينية على أي قسم يحرر من أرض فلسطين التي احتلتها إسرائيل عام 1967 ” الضفة وغزة”، وكانت هذه أول خطوة في اتجاه “حل الدولتين”، وهذا التطور مما كان قد عمل عليه أيمز وسلامة طويلا، كما مثل الإعلان اعترافا صريحا بتخلي المنظمة عن فكرة الإطاحة بالمملكة الاردنية الهاشمية، مما فتح باب المصالحة بين عرفات والملك حسين، وهذا ما تم تثبيته في القمة العربية التي انعقدت بتاريخ 28 اكتوبر 1974 بالرباط، بتبنيها قرار اعتبار المنظمة هي “الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني”، وتبع ذلك بسرعة دعوة الأمم المتحدة لياسر عرفات للحضور إلى نيويورك وإلقاء خطاب أمام الجمعية العامة للامم المتحدة.
وكان سلامة بحكم عمله مرافقا لعرفات في هذه الزيارة، والتقى في فندق ولدروف استوريا حيث ينزل الوفد الفسطيني مع جالس وافرلي مدير محطة الوكالة الجديد في بيروت، وحضر الاجتماع مصطفى زين وهو من قدم سلامة إلى وافرلي.
وكان من نتائج زيارة نيويورك أن حل عرفات منظمة أيلول الأسود، وأعطى رجاله توجيها بملاحقة جماعة أبو نضال في ليبيا، وفي أماكن أخرى ومنعهم من الوصول إلى البر الامريكي.
كان أيمز يضع ما تحقق في خانة نجاحاته التي حققها من خلال تواصله مع سلامة وبالتالي مع عرفات، وكان يعتقد أن سياسة “الخطوة ـ خطوة” التي اعتمدها كيسنجر أعاقت التوصل إلى حل شامل كان يرجح أنه ممكنا.
ايمز بكل ما قام به في العامين 1973 ـ 1974 كان على رأس عمله في طهران وبإمرة السفير هلمز، ثم انتقل إلى الكويت بعد أن رقي ليكون مدير محطتها، حتى صيف 1975
وفي الكويت تمكن أيمز من تجنيد عميل فلسطيني، وصفه بأنه على معرفة واسعة بالسياسات الفلسطينية والكويتية، وله ارتباطات قوية بالجبهة الشعبية الديموقراطية لتحرير فلسطين، وكانت تقاريره تشير إلى انه يتمتع بقدرة تحليلية فائقة ويأتي بوجهات نظر فريدة. وقد أعطاه أيمز اسما سريا هو MJVOICE/1. ولم يكشف أيمز عن أي ملمح من ملامح هذا العميل أبدا.
في خريف 1975 وكان أيمز قد عاد إلى واشنطن رقي إلى منصب رئيس قسم عمليات الشرق الأوسط وشبه الجزيرة العربية، وبالتالي بات مسؤولا عن كافة العمليات السرية في السعودية واليمن والكويت وباقي المنطقة.
وخلال وجوده في مركز الوكالة انكشفت فضائح الوكالة ومسؤوليتها عن اغتيال أو محاولة اغتيال قادة دول ورؤساء وزراء مثل الرئيس التشيلي سلفادور اللندي، وورئيس وزراء الكونغو باتريس لومومبا ، والرئيس الكوبي فيديل كاسترو، ومثل مدير الوكالة هلمز امام لجنة من الكونغرس للتحقيق بهذه العمليات، وكذب وهو تحت القسم حينما أنكرتورط الوكالة بهذه العمليات، لكنه لم يلبث أن اعترف بذلك وتمت محاكمته على اقترافه جريمة الكذب تحت القسم.
في هذا الوقت كان الوضع الداخلي في لبنان يسير سريعا نحو التفجر وجاءت مجزرة عين الرمانة حين هاجمت الميليشيا المارونية في 13 ابريل 1975 حافلة تمر في تلك المنطقة قتلت من ركابها الفلسطينيين والمسلمين 27 راكبا، لتكون هذه المجزرة العنوان الرسمي لبدء الحرب الداخلية في هذا البلد وليتحول لبنان الى ساحة صراع دام باجندات متعددة ومختلفة، وقبيل هذا التطور الدامي كانت لانغلي أرسلت “كلير جورج” ليتولى منصب مدير محطة بالوكالة في بيروت التي غدت مركزا رئيسا للتجسس، وتم تكليف سام وايمن وجاس وافرلي بالتواصل مع سلامة، وحاولا أن يضعاه تحت الرقابة الألكترونية وسجلا له لقاءات غرامية مع صحفية المانية، وكلف زين بترتيب لقاءات وايمن ووافرلي مع سلامة، وبقي أيمز وهو في واشنطن صلة الوصل بين سلامة والوكالة عن بعد.
هذه التطورات زادت من قيمة سلامة في عين الأمريكيين، وفي يونيو 1976 حين اختطف وقتل السفير الفرنسي فرانسيس ملوى والقنصل التجاري روبرت وورنغ وسائقهم وهم في طريقهم للقاء الرئيس الياس سركيس وذلك مباشرة بعد اجتازهم نقطة العبور بين غرب بيروت وشرقها بات من مهام سلامة تأمين تحرك الأمريكيين، وقد عمل على إجلاء منتسبي السفارة الأمريكية وعددهم 263 إلى دمشق، و شكر الرئيس فورد منظمة التحربر على ما قامت به، وفي رسالة رسمية لعرفات شكر كيسنجر رسميا سلامة على هذا التعاون. وفي أكثر من واقعة ذكرها راوي السيرة بدا سلامة على تواصل مباشر مع بشير الجميل زعيم ميليشيا الكتائب وكانا يتبادلان الخدمات، وحينما وقع داني شمعون زعيم ميليشيا النمور المارونية بيد الفلسطينيين تدخل سلامة بطلب من بشير للافراج عنه.
وفي إبريل 1976 خص سلامة صحفية بمقابلة مثيرة، ومطولة مع صورة له، وهو أمر يخالف قواعد العمل السري، ويعرضه للخطر في وقت كانت فيه الموساد تترصد حركته، بعد أن حاولت مرات عدة اغتياله داخل لبنان وخارجه، ووجه مسؤولوا الاستخبارات الأمريكية انتقادات لسلامة على هذا الاستهتار لكنه لم يعر ذلك أي اهمية. واستمر يتنقل من بيته لمكتبه على نحو ثابت وبشكل واضح.
في أواخر 1976 وبعد أن فشل الرئيس فورد في حملته التجديد له، أقنع أيمز مدير ال CIA جورج بوش بتوجيه الدعوة لسلامة لزيارة واشنطن، وكان هذا تطورا مهما، ووجهت الدعوة ايضا لزين ليكون معه، لكن زين اعتذر مشيرا إلى أنه ما عاد لوجوده ضرورة حيث باتت العلاقة بين الجانبين مباشرة.
واستطاع بوش أن يقنع الرئيس الامريكي المنتخب جيمي كارتر، ووزير خارجيته سايروس فانس بأهمية هذه الزيارة للمصالح الأمريكية، واصطحب سلامة معه في هذه الزيارة جورجينا رزق، وأمن زين تأشيرات الزيارة من السفارة الأمريكية في القاهرة لسلامة وجورجينا ومرافقين آخرين بأسماء مستعارة. وفي واشنطن كان أيمز بصحبة سلامة في زيارته لمبنى المخابرات المركزية حيث التقى عددا من المسؤولين، كما عقد لاحقا اجتماعا استمرخمس ساعات مع ألن وولف الرئيس المباشر لأيمز في أحد الفنادق.
في أواخر فبراير 1977 كلف أيمز بمهمة مؤقتة إلى بيروت لمدة ثلاثة اشهر، وكانت العاصمة اللبنانية حينها ساحة حرب ودمار حقيقي، وأمضى أيمز وقته وهو يعيد تنظيم شبكة العملاء في شطري بيروت ويزودهم بأجهزة اتصال جديدة، وتعرض إلى الكثير من المواقف الحرجة خلال تنقله في شطري العاصمة، وكانت علاقاته مع زين وسلامة شبه يومية وكثيرا ما كانوا يسهرون معا ويحتفلون بالمناسبات في جناح زين بفندق بيدفود في الحمرا.
بتاريخ 16 مارس 1977 حين ذكر الرئيس كارتر “وطنا قوميا للاجئين الفلسطينيين” سرى شعور بالغبطة بينهم، وبعد أيام علق سلامة على تصريج الرئيس الأمريكي بأن الفلسطينيين يشكرون له هذا الموقف،
في هذا الوقت كان السفير الأمريكي في بيروت هو رجرد باركر،وكان تقيمه وتقيم أيمز لبشير الجميل سلبيا جدا، وحين تمكن سلامة من الوصول إلى سيارة السفير الفرنسي الذي قتل وأعد تقريرا مطولا عن ظروف اختطافة وقتله، اعتبر أيمز أن المسؤولين الأمريكيين باتوا الآن يعرفون حقيقة ما تم، وكان هذا إنجازا لسلامة.
في العام 1976 كادت الحرب في لبنان على وشك أن تنتهي لولا تدخل النظام السوري وإرساله 40 الف جندي لوقف تقدم قوات الحركة الوطنية، ومنع هزيمة التحالف الماروني، واستمر تدهور الوضع في لبنان فقد اغتيل في 16 مارس 1977 كمال جنبلاط، ووقع رد فعل درزي على الموارنة في الجبل، وبدت اليد الاسرائيلية وثيقة مع قادة الميليشيات المارونية، وتلقت هذه الميليشيات أسلحة وتدريب من اسرائيل، وقامت عن طريق البحر بالانتقال الى مناطق جنوبية وارتكبت مجازر في قرى ومواقع للشيعة ولمنظمة التحرير الفلسطينية. ونفذ الطيران الاسرائيلي هجمات عنيفة على مواقع جنوبية أدت إلى موجة هجرة واسعة من الجنوب باتجاه بيروت.
أحداث متسارعة وخطيرة شهدها لبنان، كان أيمز الذي لم يمض على وجوده في بيروت إلا أسابيع يغطي هذه الأحداث بتقارير كثيرة ومتعاقبة يرسلها إلى لانغلي، وكانت وجهة نظر أيمز وكذلك السفير الأمريكي بخطأ التحالف العسكري الماروني الاسرائيلي، وقد أبلغ السفير هذا الرأي لبشير الجميل، الذي لم ير حرجا من نقله إلى رئيس الوزراء الاسرائيلي مناحيم بيجن.
في الثاني من إبريل 1977 التقى أيمز في أحد المخيمات الفلسطينية بياسر عرفات، اصطحبه سلامة إلى هذا اللقاء، وكان هذا أول لقاء طويل بينهما، لكن أيمز لم يكتب تقريرا حول هذا اللقاء ـ فقد كان ممنوعا على المسؤولين الأمريكيين اجراء محادثات مع القيادة الفلسطينية ـ مما جعل بعض المسؤولين يشككون بحدوثه، وقد وصف سلامة اللقاء بأنه كان مفيدا جدا.
كان لقاء المسؤولين الأمريكيين مع الفلسطينيين بمثابة المجازفة الخطرة، لأنه محظور رسميا وفق اتفاق عقده كيسنجر مع رئيس الوزراء الاسرائيلي في الأول من سبتمبر 1975 ، الى حين التوصل الى سلام شامل، ولذلك أضطر السفير الأمريكي في الأمم المتحدة أندرو يانغ إلى الاستقالة بسبب أنه التقى نظيره الفلسطيني زهدي الطرزي بعد سبعة عشر شهرا في شقته.
يؤكد أيمز أن معظم المعلومات التي يرسلها من بيروت كان مصدرها سلامة، وقد اضطر الى العودة الى الولايات المتحدة قبل انتهاء انتدابه بشهر بسبب وفاة والده، في 8 حزيران 1977 تزوج سلامة رسميا في حفلة فاخرة بجورجينا رزق.
وبعد سنة بالتمام في منتصف يونيو 1978 توجه أيمز من واشنطن إلى بيروت ليحل محل مدير المحطة فرانك أندرسون، تفاجأ أيمز بما حل ببيروت نتيجة ما سمي بحرب الفنادق، وحجم الخراب الذي أتى على أجمل مناطق العاصمة، ويذكر أن آخر الأحداث الكبيرة كانت يوم 11 مارس حين نفذت الفدائية الفلسطينية دلال المغربي يرافقها احد عشر فدائيا عمليتها قرب تل أبيب في فلسطين المحتلة والتي وصلتها بطوافات عبر البحر وسيطرت على حافلة لكن الاسرائيليين هاجموا الحافلة وفي ختام معركة استمرت تسع ساعات قتلت المغربي ومعظم رفاقها وكذلك 37 اسرائيليا هم معظم من كان في الحافلة، وعقب هذه العملية بثلاثة ايام اجتاحت القوات الاسرائيلية الجنوب اللبناني ووصلت إلى حدود الليطاني، وقتل في هذا الاجتياح أكثر من ألفي مدني وهجر ربع مليون باتجاه بيروت.
قبل هذا الهجوم الاسرائيلي بخمسة أيام ارتكب بشير الجميل مجزرة إهدن حينما اقدمت ميليشياته على تصفية طوني فرنجية زعيم حزب المردة وزوجته وطفلته وحراسه، في هجوم على معقله باهدن، وذكر أن الأسباب الرئيسية لوقوع هذه المجزرة اعتراض فرنجية على التحالف مع اسرائيل.
في واشنطن تقرر تشكيل مجلس المخابرات الوطني من عدد محدود من الأشخاص تكون مهمته “تزويد واضعي السياسة بوجهات نظر مستقلة عما يجري في العالم”، وتقدم أيمز المحبط مما يجري لعضوية هذا المجلس،وأعلم في أواخر صيف 1978 باختياره عضوا في هذا المجلس، وباتت درجته الوظيفية الآن تعادل كولونيل في الجيش الأمريكي، ومن موقعه شارك أيمز بشكل جزئي في التحقيقات بقضية اختفاء موسى الصدر بعد مقابلته للعقيد معمر القذافي، وطلب الخميني الذي كان لا يزال في العراق من عرفات التدخل في الأمر، وسال أيمز صديقه سلامة إن كانت لديه معلومات بهذا الشأن، وأشارت التحقيقات إلى أن الصدر ذهب الى ليبيا للقاء القذافي مع منافس الصدر الزعيم الشيعي محمد بهشتي المقيم في المانيا، وكان الصدر لا يؤمن بحكم الملالي، ص 220، لكن الأخير لم يأت، وأن تصفية الصدر تمت بعد منع الصدرمن المغاردة بسبب تأخر اللقاءومعرفته بعدم وصول بهشتي، وحصول مشاجرة قاسية مع حرسه الليبي، ما أسفر أولا عن سجنه ، لعدة شهور، ثم جاءت تصفيته بعد مكالمة بين القذافي وبهشتي، ودفن في مكان مجهول، والرواية المذكورة كلها تحمل المسؤولية بتصفية الصدر ورفيقيه إلى بهشتي والقذافي، وقد قتل بهشتي في تفجير منصته في 28 يونيو حينما كان يلقي خطابا في طهران عقب انتصار ثورة الخميني، وقتل في ذلك التفجير العديد من قادة حزب الثورة الإسلامي.
في صيف 1978 علمت CIA باتجاه الموساد لاغتيال سلامة، وذلك حين وجه أحد رجالاتها سؤال لضابط منها يستفسر عما إذا كان سلامة عميلا لهم، ولم يتلق السائل جوابا، لكن بتحليل الحادث في اجتماع خاص بلانغلي غاب عنه أيمز ـ لأنه بات في موقعه الجديد ـ فهم معنى سؤال الموساد.
عند الأمريكيين رمسميا سلامة ليس عميلا ولكنه مصدر، وبذلك لم يكن على الإسرائيليين، حرج في قتله، وذكر زين أن هذا التطور نقل إلى أيمز وإلى سلامة، وأن أيمز طلب باتصال هاتفي منه القبول بأن يقوم الأمريكيون بإبلاغ الاسرائيليين بأن سلامة عميل لهم حفاظا على حياته، لكن هذا الطلب رفض، وحاول أيمز أن يوفر الحماية لسلامة بطرق شتى لكن ذلك لم يثمر، وبات زين على قناعة بأن سلامة سيقتل، وأنه يستهتر بأمنه كثيرا.
بعد انتخاب مناحيم بيغن رئيسا للوزراء في إسرائيل أطلق مجددا عمليات اغتيال من يزعم بصلتهم بعملية ميونخ، وكانت هذه العمليات أوقفت بأمر من غولدا مائير عقب العملية الفاشلة التي قتل فيها العامل المغربي احمد بوشيكي في النرويج في 21 يوليو عام 1973، ويبدو أن توجيه إدارة كارتر وبطلب من أيمز الدعوة لسلامة لزيارة واشنطن للتداول معه بشأن اتفاقات كامب ديفيد بين مصر واسرائيل التي كان يعارضها، عجل بقرار الموساد تنفيذ عملية الاغتيال، وكان سلامة بدل موعد زيارته لواشنطن من ديسمبر 1978 إلى إبريل 1979.
تم الترتيب للاغتيال بدقة، وتولت عميلة كانت تراقب الشارع كبس زر التفجير لدى مرور سيارة سلامة بقرب السيارة المفخخة المركونة في شارع مدام كوري، تم ذلك في الثالثة والنصف وخمس دقائق من بعد ظهر يوم 22 يناير و كان سلامة متوجها من شقة روجينا الى بيت والدته لحضور حفل ميلاد ابنة أخته، وتوفي سلامة في المستشفى بعد التفجير بنصف ساعة، وقتل في التفجير حراسه الأربعة، وخمسة مدنيين كان بينهم المانية وبريطانية، وأصيب 16 اخرين، دلت المعلومات عن مشاركة 15 عنصرا من الموساد وصلوا بيروت بجوازات سفر كندية مزورة منتصف يناير، ووصلت “اريكا ماري جمبز” التي فجرت السيارة بجواز سفر بريطاني، وكان تعرف الأجواء الفلسطينية وسبق لها أن تطوعت لرعاية الأطفال اليتامى في مخيم تل الزعتر.
قبل الاغتيال وصلت رسالة تحذير من بشير الجميل، وكذلك التقى فرانك أندرسون وكيل محطة بيرون بسلامة وحذره، لكن لا ينفع حذر من قدر.
في اليوم التالي للاغتيال حضر بشير الجميل تشييع جثمان سلامة. عملية الاغنيال أصابت أيمز بصدمة، ووصفها ضباط من الوكالة بأنها خطأ فظيع، وأبلغ الأدميرال ستانسفيلد تيرنر مدير الوكالة الرئيس كارتر قائلا ” إن رجلنا في منظمة التحرير قد اغتيل” ص 235، لكن الإسرائيليين دونما استثناء احتفلوا بهذا العمل.
اغتيال سلامة أغلق قناة تواصل كانت شديدة الأهمية لكنها لم تقطع عملية التواصل بين الطرفين، ولاحقا أبلغ عرفات الأمريكيين أن زين هو قناة التواصل الجديدة، وخلال اسبوعين سافر زين إلى واشنطن للقاء أيمز، والتداول في الأمر.
سادسا : طهران في العهد الجديد
لم يكن أيمز يحمل تقديرا لشاه إيران حينما خدم في طهران في العام 1973، ومع وصول الخميني إلى العاصمة الإيرانية، كان واضحا للأمركيين أن الشاه الذي ثبتوه على عرشه في انقلاب عام 1953 انتهى، وبسرعة سحبت واشنطن سفيرها من طهران وخفض عدد العاملين بالسفارة، ثم بدأت جهدا لإقامة علاقة مع النظام الجديد الذي بدأ بإصلاحيين على رأس السلطة مثل مهدي بازركان الذي تسلم رئاسة الحكومة، ثم بعد ذلك الرئيس أبو الحسن بني صدر، لكن سريعا ما اعتُبر هؤلاء على علاقة مع الغرب، وتسلم الثوريون السلطة.
وفي إطار سعيها لبناء علاقة جديدة كلفت واشنطن أيمز ببناء هذه العلاقة مع حكومة بازركان فطار الى طهران لأجل ذلك، وأقام قناة اتصال بعد اجتماعه مع بازركان ووزير خارجيته ابراهيم يزدي، وحاول اقناع محاوريه أن الخطر عليهم قادم من العراق والاتحاد السوفياتي، وخارج المهمة الرسمية التي انجزها بسرعة تمكن أيمز من لقاء الدكتور محمد يهشتي الزعيم الديني القريب جدا والموثوق من الخميني، في اكتوبر 1979 أي بعد ستة اسابيع من مغادرة ايمز طهران، أرسلت الوكالة جورج كيف للتباحث مع يزدي ونقل معلومات حول تجهيزات عراقية لغزو ايران عسكريا،ص 244، وليطالب حكومة طهران بالسماح للأمريكيين بتشغيل نظامي تجسس لمراقبة الحدود العراقية والروسية كانوا يديرونهما زمن الشاه، وبتاريخ 15 اكتوبر حذر الأمريكيين طهران صراحة بأن العراق على وشك الهجوم العسكري على ايران.
رغم الشكوك الإيرانية تجاه واشنطن لكن كانت هذه البداية مشجعة، إلا أن قرار الرئيس كارتر في 20 أكتوبر بالسماح للشاه بدخول الولايات المتحدة للعلاج أطاح بكل جهود التقارب، وترتب على هذا القرار اقتحام الطلبة الثوريين مقر السفارة الأمركية في طهران واحتلالها واخذ العاملين فيها رهائن، ووضع الطلبة يدهم على مختلف الوثائق التي كانت في السفارة، والتي كشفت جانبا من العلاقات الجديدة الأمريكية ـ الايرانية والاجتماعات الأخيرة بين الجانبين، كما تم الكشف عن عدد من العملاء والمصادر وأعدم بعضهم، وتمت الاطاحة بحكومة بازركان، وصعود التيار الثوري المدعوم من الخميني.
في سبتمبر من ذلك العام بدأت الحرب العراقية الايرانية، وكان على واشنطن ان تواجه أزمة الرهائن التي استمرت لأكثر من 444 يوما ، وكذلك تطورات الحرب العراقية الايرانية التي امتدت لثماني سنوات، وفي محاولة لاحياء الاتصالات الخلفية أجرت الوكالة ممثلة برئيسها جورج بوش، ومن ثم كبار مسؤوليها وبحضور ممثلين عن الجانب الاسرائيلي اتصالات مع رئيس الوزراء الايراني أبو الحسن بني صدر، ومع مسؤولين آخرين وتضمنت هذه الاتصالات، محاولة تأمين اطلاق سراح بعض الرهائن، وتزويد إيران بقطع غيار لأسلحتها عن طريق طرف ثالث، وتم شحن كميات من الصواريخ وقطع الغيار إلى إيران واستخدمت أموال هذه الصفقة لتمويل انشطة الكونترا ضد نظام الحكم في غواتيمالا، ويورد بيرد تفاصيل عن نوع الأسلحة التي تم تسليمها لإيران، وتمت هذه العملية التي عرفت بفضيحة إيران ـ مونترا بإدارة تاجر السلاح السعودي عدنان خاشقجي.
على مدة 444 وهي مدة أزمة الرهائن كانت هذه الأزمة وتداعياتها والمحاولة الفاشلة لاطلاق سراح الرهائن عبر عملية انزال عسكري في صحراء لوط ، شغل أيمز الرئيسي، وكان أيمز يعرف صلات ياسر عرفات مع الثورة الايرانية، لذلك طلب من زين مساعدة عرفات على حل هذه الازمة، وكان عرفات قد ساعد في الافراج عن بعض الرهائن في بداية الأزمة، كما ساعد لاحقا في الإفراج عن جثث قتلى عملية صحراء لوط الفاشلة التي هدفت إلى الافراج عن الرهائن بالقوة ص 263، وتبين الوثائق أن فريق مرشح الرئاسة الجديدة رولاند ريغن عمل على تأجيل حل هذه الأزمة الى ما بعد الانتخابات لتوضع في صالح ريغن وترجح انتخابه، وتبلغ زين بذلك وهكذا كان ص 264، وفي العام 1996 حينما زار كارتر غزة أبلغه عرفات بأن الجمهوريين عرضوا عليه تأخير الاتصالات بشأن الإفراج عن الرهائن، ووعدوه بصفقة اسلحة مقابل ذلك، وأبلغه بأنه لم يستجب لهم ص 266.
بعد نجاح ريغن اجتمع أيمز مع الرئيس بصحبة كبار مسؤولي المخابرات والحملة الانتخابية وقدم له عرضا للسياسات الداخلية في السعودية وايران وتطورات الحرب الايرانية العراقية. وفي اجتماع لاحق مع الرئيس نبهت مسؤولة في الجهاز الى احتمال خسارة الرئيس السادات الذي وقع اتقاثية الصلح مع اسرائيل ص 268. ومع تسلم وايم كيسي قائد حملة انتخابات ريغن رئاسة المخبرات صارت مكانة أيمز أوثق، وفي مطلع سبتمبر تلقى معلومات موثقة عن خطة لاغتيال رئيس وزراء إسرائيل مناحيم بيغن خلال زيارته إلى الولايات المتحدة لإلقاء خطاب في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وقد اتصل على الفور بزين للاستفسار عن ذلك من عرفات، وقدم زين الذي رافق عرفات في حضور اجتماع الجمعية العامة التي ألقى فيها عرفات خطابه المشهور عرضا بسيطا يثبت أن اغتيال بيغن لم يكن أمرا صعبا.
عقب تغييرات داخل جهاز الاستخبارات تولى أيمز منصب مدير الشرق الأوسط وجنوب آسيا. وبذلك أصبح على اتصال دائم مع المسؤولين الكبار في البيت الأبيض ومجلس الأمن القومي، وبات يقدم المساعدة لوضع سياسات حقيقية على المستوى العالي ص280، وأصبح رجل الشرق الأوسط في الوكالة لدى إدارة ريغن، لكنه رغم هذا التطور المهني كان دائم الصلة بمصادره وعملائه، ويقول زين الذي قرر نتيجة ظروف لبنان الهجرة إلى الولايات المتحدة أن أيمز ساعده في الحصول على بطاقة الإقامة الخضراء من حصة الوكالة منها.
وفي إطار اهتماماته الشرق أوسطية عقد أيمز في إبريل 1982 اجتماعا في فندق هيلتون بواشنطن حضره ثلاثة من كبار محللي الوكالة وكذلك مصطفى زين لتقدير الوضع في المنطقة، وفيما استبعد الخبراء أي حرب جديدة شاملة ذهب زين إلى أن شارون ينتظر الفرصة لاجتياح لبنان، وقد صدق توقع زين حيث اجتاحت القوات الاسرائيلية لبنان عقب هجوم استهدف السفير الاسرائيلي في لندن، وتخطى شارون مسافة الأربعين كليو متر التي سمح بها مجلس الوزراء الاسرائيلي في هذه العملية، واستمر في تقدمه حتى حاصر بيروت.
وظهر لاحقا أن شارون أخذ ضوءا أخضر لتطوير هجومه من وزير الخارجية الأمريكي الكسندر هيج حين التقاه في واشنطن يومي 19 و 20 مايو.
وفي وقت لاحق تقلد جورج شولتز منصب وزير الخارجية بدل هيج، وفي لقاء بتاريخ 16 يوليو استمع شولتز لتقييم أيمز وآخرين للوضع .
كان الضغط العسكري الإسرائيلي على الفلسطينيين شديدا، وأعلن عرفات استعداد المنظمة لإجلاء مقاتليها من بيروت، وكان أيمز يتواصل مع الوضع اللبناني عبر عرفات ومدير مكتبه ابو جهاد، وكذلك عبر رئيس المخابرات اللبنانية جوني عبدو الذي كان ينقل بعض هذه الرسائل. وأرسلت الادارة الأمريكية فيليب حبيب لقيادة عملية تفاوض غير مباشرة مع الفلسطينيين بشأن الانسحاب، وقد طلب عرفات لضمان الانسحاب الآمن وجود قوات دولية، وفي منتصف اغسطس وضع شولتز مبادئ خطة تستند على ماورد في الاتفاقية الإسرائيلية المصرية بشأن حكم ذاتي للفلسطينيين، وحضر أيمز عرض هذه المبادرة على الرئيس ريغن في 14 اغسطس، وتذكر الوثائق أن أيمز عرض بتصرف ذاتي ملخص مشروع هذه المباردة على عرفات قبل طرحها رسميا، وقام زين بنقلها من واشنطن إلى بيروت لإطلاع عرفات عليها، وجاء في نص المبادرة التي تولى الرئيس طرحها رسميا:
1ـ قيام حكومة استقلال ذاتي في الضفة والقطاع .
2ـ إلغاء الحكم العسكري الإسرائيلي لتحل محلة حكومة منتخبة من الضفة والقطاع.
3ـ الولايات المتحدة تعتبر القدس وضواحيها مناطق محتلة، ومثلها المناطق المحتلة في حرب 1967 .
4ـ لا تعترف واشنطن بمنظمة التحرير لأن المنظمة لا تعترف بالقرار 242.
وغادر عرفات وقوات المنظمة بيروت دون تأمين وضع المخيمات رغم المخاطر التي كانت تحيط بها ، ورغم تنبيه جهات عدة لهذا الخطر، وكان شاب من حرس عرفات يدعى “عماد مغنية” حاضرا هذه اللحظات المفجعة في مقر عرفات وهو يستمع الى التحذيرات من المخاطر التي تحيط بالمخيمات، وفي هذا المشهد تحديدا يظهر اسم هذا الشاب الذي سيكون نجما في المرحلة اللاحقة، وحين غادر عرفات بيروت بحرا متجها الى تونس كان مصطفى زين بوداعه على رصيف الميناء.
عقب انسحاب عرافات من بيروت، طرح ريغن في خطابه في الأول من سبتمبر مبادرته ، لكن تطورات الوضع لاحقا وضعت هذه الخطة وراء الظهر، إذ اغتيل في 14 سبتمبربتفجير دام لمركز الكتائب بشير الجميل بعد أن تم انتخابه رئيسا بطلب من إسرائيل ودعم من واشنطن، وأعقب ذلك اجتياح القوات الإسرائيلية لبيروت، وسماحها لقوات الكتاب بقيادة إيلي حبيقة بدخول المخيمات وارتكاب مذبحة على مدى 48 ساعة، راح ضحيتها ما بين 1000 و 2500 طفل وامرأة ورجل كبير، وكانت بشاعة هذه المجزرة وما رافقها من تمثيل بالجثث تفوق كل تصور، وأعلن عرفات لاحقا أنه حين انسحب والمقاتلين من بيروت أخذ ضمانة من فيليب حبيب ومن بشير الجميل بأمن المخيمات. وعلى وقع هذه المذبحة التي لطخت وجه الأمريكيين كذلك، وافق الرئيس الأمريكي على إرسال قوات مارينز إلى بيروت في إطار قوات متعددة الجنسيات، وكذلك فعلت فرنسا.
في مطلع العام 1983 حصل أيمز على أعلى وسام في الوكالة “شهادة الخدمة المتميزة”، وفي 17 مارس قدم أمام الرئيس تصورا لكيفية التعامل مع الإسرائيليين لدفعهم للانسحاب من لبنان ووقف بناء المستوطنات. ويعترف زعيم حزب الله حسن نصر الله بأنه لولا الغزو الاسرائيلي للبنان لما ظهر حزب الله ص 306.
سابعا: الطريق إلى النهاية… طريق بيروت ـ طهران
بعد غياب استمر لخمس سنوات وعقب اجتماعه مع الرئيس ريغن في 17 مارس 1983 قرر أيمز القيام برحلة الى الشرق الأوسط، يزور فيها بشكل رئيسي إسرائيل، ويلتقي نظرائه الإسرائيليين، ثم اضاف الى رحلته بيروت لتكون محطته الأولى في زيارته، وكان اللبنانيون انتخبوا أمين الجميل رئيسا بتدخل من واشنطن وبطلب من اسرائيل، ولم يكن له عمل محدد في بيروت لكنه سيجتمع مع موظفي المحطة في العاصمة اللبنانية.
في التقييم الأمني كان الوضع في لبنان خطر، وقبل رحلته بأشهر نفذ مقاوم بسيارة مفخخة هجوما استهدف سجن ومركز تحقيق إسرائيلي في صور ما أدى إلى مقتل 75 إسرائيليا وعدد من السجناء، وهي المرة الثانية التي يستخدم فيها مثل هذا الهجوم في لبنان، وكانت المرة الأولى في استهداف السفارة العراقية عام 1981.
وصل بوب الى بيروت يوم 17 ابريل، ونزل في فندق ميفلاور في رأس بيروت قرب الحمرا، والتقى مساء يوم وصوله بعدد من ضباط ال CIA في العاملين في محطة بيروت،وحضر حفلا على شرفه، وتناول في اليوم التالي في فندق كومودور إفطاره مع مصطفى الزين، وسلم مصطفى موجزا أوليا لمبادرة سلام امريكية تقتضي بانسحاب الإسرائيليين من لبنان، لكن مصطفى رآها ضعيفة لأنها لا تتعامل مع الوجود السوري في لبنان، واتفقا على أي معاهدة سلام بين الجانبين لن تقوم لها قائمة إن لم يكن السوريون طرفا فيها. وافترقا على تواعد للقاء على الغذاء ثم انتقل الموعد إلى العشاء لانشغال أيمز باجتماعاته في مبنى السفارة.
في الساعة الواحدة وأربع دقائق اقتحمت سيارة GMC مدخل السفارة الأمريكية ثم انفجرت بحمولتها الهائلة من شحنة شديدة الانفجار ما أسفر عن تدمير كامل لأجزاء من المبنى، وحين انجلى الغبار كان هناك 63 قتيلا منهم 17 أمريكيا و34 لبنانيا من موظفي السفارة و 14 زائرا ممن كانوا يقدمون طلب تاشيرة، إضاف الى 120 مصابا، ومن بين القتلى ثمانية من ضباط المخابرات منهم بوب أيمز الذي وجد في اليوم الثاني للانفجار صريعا داخل مصعد المبنى، ونجا السفير، وثلاثة من ضباط المخابرات، وكانت هذه أقسى ضربة بهجوم واحد تتلقاها الوكالة في تاريخها، وأدعى متصل باسم منظمة الجهاد الإسلامي المسؤولية عن التفجير .
ويقدم بيرد وصفا تفصيليا للمشهد في المبنى المنهدم، وفي مستشفى الجامعة الأمريكية ولاحقا في واشنطن على المستويين الرسمي والعائلي. وبعد خمسة ايام شارك الرئيس ريغن في التشييه الرسمي لجثامين القتلى التي نقلت نعوشها التي لم تفتح الى قاعدة اندروز الجوية قبل القيام بدفنها وكان أيمز هو الوحيد من بين القتلى الذي يعرفه الرئيس شخصيا. وقد طارمصطفى زين إلى واشنطن حيث شارك في مراسم التشييع وقدم تعازيه لأسرة أيمز.
تذكر وثائق CIA التي أفرج عنها أن الثورة الايرانية والغزو الإسرائيلي للبنان هما الحدثان اللذان أعدا المسرح لظهور حزب الله والجماعات ” المتطرفة ” في لبنان.
في التحقيق الذي أجرته الوكالة بشأن هذا الهجوم تم اكتشاف مراسلات واتصالات هاتفية بين طهران وسفارتها في دمشق وضباط الحرس الثوري في بعلبك التي صارت ثكنتها تحت تصرفهم، وتحويلات مالية، يمكن لها جميعا أن تعطي مؤشرا عمن يقف وراء الهجوم، وفي السياق نفسه انفجرت يوم 23 اكتوبر سيارة مفخخة في المبنى الذي اتخذه المارينز مركزا قرب مطار بيروت، كان الانفجار أكبر من انفجار السفارة وأسفر عن مقتل 241 جنديا من المارينز، وفجرت كذلك سيارة مفخخة ثكنة القوات الفرنسية موقعة 58 قتيلا بين جنودها.
واستمر الشك بأن إيران وراء هذه الهجمات وأن المنفذ قد يكون من حركة أمل الاسلامية لكن لم يتوفر الدليل القاطع. وتم القبض على مصري عمل على تفخيخ السيارة التي فجرت السفارة، وجرت تحقيقات كثيرة واعتقل من اعتقد بأنه ممول رئيسي وهو لبناني كان يعمل جاسوسا مزدوجا مع الإسرائيليين وغيرهم، وقد قتل أثناء التحقيق معه، ولم تكن نتيجة التحقيقات على اتساعها توصل إلى نتيجة قاطعة، وفي تحقيق لاحق للوكالة عام 2002 ظهرت فرضية أن تكون إيران هي التي خططت، وأن شبكة كانت على علاقة بفتح هي التي نفذت، وأشير هنا وللمرة الأولى إلى عماد مغنية، لكن شيئا رسميا لم يتأكد. ويقدم بيرد سردا عن عماد مغنية وتدريبه في فتح، ثم على يد أنيس نقاش، ولا يستبعد أن يكون استفاد من التدريب الذي قدمته الولايات المتحدة لجهاز أمن 17 الفلسطيني، ويشير إلى أن مغنية انحاز في العام 1980 إلى المرجع الشيعي اللبناني محمد حسين فضل الله، الذي ينظر له باعتباره الأب الروحي لحزب الله، وفي استعراض مسيرة مغنية يظهر أن واشنطن حملته المسؤولية في ثماني هجمات دامية ضد الأمريكيين والاسرائيليين، بدايتها الهجوم على ثكنة المارينز في بيروت اكتوبر 1983، وآخرها الهجوم على أبراج الخبر حيث القوات ألأمريكية في السعودية عام 1996، ومنها الهجوم على السفارة الاسرائيلية في بوينس ايرس بالارجنتين عام 1992 وعلى المركز الثقافي الاسرائيلي في الارجنتين عام 1994، لكنه لم يدان أمريكيا إلا باختطاف طائرة TWA عام 1985 والتي قتل فيها أمريكي.
يوصف مغنية بالمبدع والحريص والمحترف، وقد كان بعيدا عن الحياة العامة، وعن المقابلات، وكان تحركه سريا للغاية، على عكس ما كان عليه سلامة.
تعرف زين على مغنية وتدخل بناء على طلب الوكالة لإطلاق سراح مدير الوكالة وليم بكلي الذي خطف في بيروت في العام 1984، والتقاه زين في 16 مارس من ذلك العام، وكان مطلوبا مقابل الافراج عن بكلي أن تفرج الكويت عن 22 شيعيا حكموا لانتسابهم لحركة الدعوة. لكن محاولة اغتيال فضل الله في تفجير قتل فيه 80 مدنيا وكاد أن يقتل فيها زين ومغنية أفشل هذا الجهد ، ولم يلبث بيكلي أن توفي في سجنه في ذات العام، وفيما يؤكد بيرد أن لمغنية علاقة بتفجير السفارة الأمريكية ينفي مغنية في حديث مع مصطفى أي علاقة له بذلك الهجوم.
وفي العام 2002 أقامت عائلة أيمز وعدد آخر من ذوي قتلى تفجير السفارة دعوى ضد الحكومة الإيرانية بسبب دورها المزعوم في التفجير، وقررت المحكمة الاتحادية في سبتمبر 2003 أن إيران مسؤولة عن التفجير، وكانت وكالة الأمن القومي الأمريكية اعترضت ـ في 26 سبتمبر أي قبل الهجوم على المارينز بنحو شهرـ رسالة من الاستخبارات الإيرانية إلى السفير الإيراني في دمشق علي أكبر محتشمي بور تطلب منه توجيه حسن موسوي زعيم أمل الإسلامية لترتيب هجوم على القوات الامريكية، ص 354، وبعد سنوات أدلى شاهد ايراني منشق أمام المحكمة الفيدرالية بشهادة تؤكد أن ضابطا في الحرس الثوري اجتمع بحضور محتشمي مع حسن نصر الله وصبحي الطفيلي وحسين موسوي وقرروا تنفيذ الهجوم على الثكنتين الأمريكية والفرنسية ص 354 ، وأمام محكمة فدرالية أدلى السفير روبرت دلن عام 2003 بشهادة تؤكد تورط ضابط مخابرات إيراني بتفجير السفارة.
يؤكد بيرد أن واشنطن حاولت اغتيال مغنية عدة مرات، واغتيال الموساد شقيقه فؤاد في العام 1994، ورصدت الوكالة سفر مغنية إلى الخرطوم للقاء أسامة بن لادن، وأكدت هذا اللقاء اعترافات مصري يحمل الجنسية الأمريكية ساهم في الهجوم على السفارة الأمريكية في كينيا وتنزانيا السابع من اغسطس 1998، وترحج مصادر أمريكية أن مغنية بحث هجمات سبتمبر 2001 مع بن لادن في لقائهما في الخرطوم وشجعه على مثل هذه الهجمات، وأنه وفر للقاعدة تدريبات على صنع المتفجرات.
في 12 فبراير 2008 قتلت إسرائيل مغنية بشحنة ناسفة زرعتها في سيارته بدمشق، مستغلة حضوره احتفالا بمناسبة ذكرى انتصار الثورة الايرانية، واعترف مسؤول فيCIA أن الوكالة وفرت للإسرائيليين المعلومات التي ساعدتهم على تنفيذ عملية الاغتيال. وزعم مصدر آخر في الوكالة أن عملاءها هم الذين نفذوا العملية.
ويعتقد زين أن الضابط في الحرس الثوري علي رضا أصغري كان مسؤولا عن تدريب الشيعة في البقاع بلبنان، وكان يرأس فيلق القدس، وهو الذي كان مسؤولا عن عمليات الاختطاف للأجانب في لبنان، وأنه هو الذي جند مغنية، وبالتالي فهو الصندوق الأسود للتحرك الإيراني في لبنان، وكان أصغري وصل إلى رتبة عقيد وإلى منصب نائب لوزير الدفاع في العام 1997، وبقي في الجيش حتى 2002 حيث تحول إلى إدراة شركة ذات علاقة بالبرنامج النووي الايراني، ثم اعتقل وبقي في السجن 18 شهرا وكان معارضا للرئيس أحمدي نجاد، ولم يعرف شيء عن دوره حتى انشقاقه في فبراير 2007 ولجوئه إلى الولايات المتحدة، ونقل عن ضابط العمليات فيCIA أن أصغري كان عميلا للوكالة منذ فترة طويلة، وقد تلقى مساعدة مكنته من الانتقال من سوريا إلى تركيا ومن ثم إلى قاعدة رامشتاين الجوية الأمريكية بالمانيا فالولايات المتحدة، وكان يصطحب معه جهاز الكومبيوتر المحمول الخاص به. ومن المفترض أن يكون زود الأمريكيين بكل المعلومات التي يملكها عن العمليات السابقة في لبنان وعن حزب الله وعن البرنامج النووي الايراني.
وبهذا المشهد يسدل كاي بيرد روايته عن روبرت أيمز، ورجالات حياته، ويترك للقارئ حرية التمعن فيما عرضه من مشاهد وما بسطه من معلومات.