حقائق من وحي “الهروب” المغربي الكبير

محمد طيفوري

شهِدت مناطق في أقصى شمال المغرب، ثلاثة أيام، توترا شديدا نتيجة تدفق آلاف من الشبان والقاصرين من مختلف مناطق البلاد، الراغبين في اجتياز الحدود البرّية نحو مدينة سبتة المحتلة، تفاعلا مع دعواتٍ مبثوثة على مواقع التواصل الاجتماعي، تحدّد 15 سبتمبر/ أيلول الجاري موعدا للهجرة الجماعية والزحف العلني، في سابقةٍ هي الأولى من نوعها، نحو السياج الحدودي الفاصل بين مدينتي الفنيدق وسبتة الخاضعة للسلطات الإسبانية.

حلقة جديدة ضمن سلسلة محاولات لا تنتهي، فخلال أسبوع واحد (10-16 سبتمبر/ أيلول) جرى تسجيل ست محاولات لاقتحام الجيب الإسباني، أسفرت، بحسب السلطات المحلية، عن توقيف 4455 مرشحا للهجرة، من بينهم 141 قاصرا و519 مهاجرا أجنبيا. تُضاف إلى الأرقام المسجلة في الشهر الماضي (أغسطس/ آب)، حيث منعت السلطات المغربية 14648 مهاجرا من دخول مدينتي سبتة ومليلية على الساحل الشمالي للمغرب؛ اللتين تشكلان الحدود البرية الوحيدة للاتحاد الأوروبي في القارّة الأفريقية، ما يؤشّر إلى المنحى التصاعدي لظاهرة “الحريكة” (الهجرة السرّية) في صفوف الشباب المغاربة هروبا من “جحيم” الوطن نحو “الفردوس” الأوروبي.

أثارت المقاطع المصورة لأفواج من الشباب واليافعين؛ ذكوراً وإناثاً، مندفعين نحو الحدود الإسبانية، وكأنهم فارّون من الحرب، الدهشة والحيرة لدى أجانب عديدين، لا سميا من زار منهم مغرب الرباط والدار البيضاء ومراكش وفاس وطنجة. فقد راسلني صديق من دولة عربية مزقتها الحرب، يستقر في الغرب، متسائلا عن مدى صحة مشاهد الحشود المتدفقة هربا من مملكةٍ (المغرب) نحو مملكةٍ أخرى (إسبانيا)، تشتركان معا في تنظيم نهائيات بطولة كأس العالم 2030.

الدولة الاجتماعية التي تتحدّث عنها الحكومة لا تزال حبراً على ورق

يبقى هذا الاستغراب مفهوما مع إفراط الدولة؛ ساسة وإعلاميين ونخباً، في ترويج النهضة التنموية والمشاريع الاستراتيجية والأوراش الاجتماعية في البلاد، فتزامنا مع هذه التوتر في الشمال المغربي، كان رئيس الحكومة عزيز أخنوش يدافع في تجمع شبابي لحزبه عن حصيلة حكومته مؤكّداً أنها “نجحت في تحقيق ثورة اجتماعية غير مسبوقة، وجعلت المغرب أول دولة اجتماعية في القارّة الأفريقية” (راجع مقال الكاتب: “هذه الحصيلة الحكومية في المغرب”، “العربي الجديد”، 2024/04/28).

لا ينكر أحد أن المغرب حقّق تقدّما ملموسا في عدة أصعدة ومجالات، وتحوّل إلى قطب قاري للاستثمار… وهلم جرا من منجزاتٍ تصنع بريق البلد في الخارج من دون أن يكون لها وقع وتأثير على الأوضاع في الداخل، وحتى إن حدث ذلك، فغالباً ما يقتصر نطاقه على أقلية من المواطنين فقط.

عوداً إلى واقعة “الهروب الجماعي”؛ الوسم المتداول للنشطاء على وسائل التواصل الاجتماعي، التي تثبت من جديد حقائق مؤلمة في المملكة، طالما عمِل المسؤولون، بمختلف درجاتهم من الوزراء إلى المنتخبين المحليين، على نفيها بالإنكار والجحود تارّة والتجاهل والتغاضي تارّة أخرى، دون أن يغير ذلك في الواقع الأليم شيئا.

كلام من قبيل اختراق مخابراتي أجنبي يضع الأجهزة الأمنية المغربية، المشهود لها عالميا بالكفاءة، في مهبّ الريح

أولا؛ أكذوبة الدولة الاجتماعية التي ما فتئت حكومة رجال الأعمال بقيادة الملياردير عزيز أخنوش، منذ توليه رئاسة الحكومة في سبتمبر/ أيلول 2021، تؤكّد حرصها على إقامتها في البلد، فما حدث في الفنيدق، إلى جانب وقائع أخرى سابقة، يظهر أن الدولة الاجتماعية التي تتحدّث عنها الحكومة لا تزال على حبراً على ورق، لأن معطيات الواقع، وفق أرقام المؤسّسات الرسمية للدولة، تثبت خلاف ذلك؛ من زيادة في الفوارق الاجتماعية، وارتفاع في نسب الفقر والبطالة، وتدهور في الأوضاع المعيشية للمواطنين، بسبب سياسة رفع الدعم عن المواد الأساسية.

ثانيا؛ مغرب السرعتين بات حقيقة لا تخطئها عين المتابع الحذق، فبعد عقود من سياسة استعمارية، يرنو الجميع إلى القطيعة معها، قسّمت البلد جغرافيا إلى مغربٍ نافع وآخر غير نافع، حظي الأول بوافر العناية والاهتمام على حساب الثاني. تطور التقسيم ليصبح فئويا، حيث تستأثر أقلية متنفذة بالعوائد والمكاسب على حساب الأغلبية الساحقة في المدن والأرياف لا فرق، فمثلا قرابة الثلثين من إجمالي الثروة المنتجة في المملكة كانت من نصيب 10% من المغاربة فقط.

ثالثا؛ الموارد البشرية المهدورة بشكل غير مسبوق في تاريخ البلد، فقبل بضعة أشهر، دقّ المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي؛ مؤسسة دستورية، ناقوس الخطر بشأن وضعية شباب خارج التعليم والعمل والتكوين، في دراسة بعنوان “شباب لا يشتغلون، ليسوا بالمدرسة، ولا يتابعون أي تكوين “Neet”: أي آفاق للإدماج الاقتصادي والاجتماعي؟” تفيد بأن إجمالي العاطلين عن العمل بلغ 4,3 ملايين شاب وشابة ما بين 15 و34 سنة، معتبرة أن هذا الإقصاء الاقتصادي والاستبعاد الاجتماعي يشكل تهديداً مباشرا للسلم والاستقرار في البلد. تقرير لم ترُق جرأته في تعرية الوضع لرئيس الحكومة كثيراً، فالتشخيص ليس بالأمر الجديد، في نظره، الجديد هو الحلول والإجراءات التي اتخذتها الحكومة لمواجهة الأمر، وطبعا كانت ثمار ذلك التدخل الحكومي الفعال ما شهدنا الأسبوع الماضي!

فشل أسلوب الإلهاء الذي تعتمده الدولة المغربية لتوجيه الرأي العام، في وسائل الإعلام التقليدية وعلى منصات التواصل، نحو معارك تافهة

رابعا؛ فشل سياسة المسكنات “الدوباج”؛ أي أسلوب الإلهاء الذي تعتمده الدولة لتوجيه الرأي العام، في وسائل الإعلام التقليدية وعلى منصات التواصل، نحو معارك تافهة ونقاشات هامشية بعيدا عن مشكلات الواقع وأسئلته الحارقة. ما جعل أصابع الاتهام موجهةً دوما نحو الغير (الأجانب) عند كل كارثة، بدل الاعتراف بالخطأ ومحاسبة الذات. وما هذه الواقعة سوى مثال عن ذلك، فأصواتٌ كثيرة، بمن في ذلك أكاديميون وخبراء، لم تتردّد في اتهام الجزائر بالضلوع في هذه الأحداث لضرب استقرار البلاد، والإضرار بعلاقاته الجيدة مع إسبانيا. بذلك، يسيء هؤلاء إلى بلدهم من حيث لا يشعرون، فكلام من قبيل اختراق مخابراتي أجنبي يضع الأجهزة الأمنية المغربية، المشهود لها عالميا بالكفاءة، في مهبّ الريح.

خامسا؛ موت السياسة مع الحكومة الحالية، فهي تدبِر الشأن السياسي بأدوات قطاع الأعمال (راجع مقال الكاتب: “حكومة أخنوش… منطق الأعمال يفشل في السياسة”، “العربي الجديد”، 2022/10/16)، والصمت المطبق حيال المأساة الإنسانية التي عاشتها البلاد مثال على ذلك. يبقى الأمر طبيعيا في عالم الأعمال، فرَبّ العمل عادة ما لا يعير بالاً لإضراب العمّال، لذلك فضلت الحكومة التواري إلى الخلف، فلا تحرّك فوري ولا اجتماع طارئ، ولا حتى خروج للناطق باسمها ببلاغ (بيان)، وذلك أضعف الإيمان لسد باب التكهنات والروايات المضاربة. طبعا، لا يعدّ هذا جديدا في سيرة الحكومة، فقد حدث مع كارثة زلزال الحوز، وقبل أيام مع فيضانات الجنوب الشرقي، فلسان الحكومة على ما يبدو لا يتكلم سوى لغة الفعل والإنجازات.

ما حدث منتصف الشهر الجاري محاكمة شبابية علنية أمام الأشهاد للسياسات الحكومية المتعاقبة طيلة ربع قرن من حكم الملك محمد السادس، وموقف صريح من السردية الوطنية الحالية، من جيلٍ لا يرى له مستقبلا في هذا الوطن، وقبل ذلك كله رسالة قوية إلى الدولة العميقة التي أخلت بوعود وتعاقداتٍ كثيرة في عام 2011.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. الهجرة من المملكة المغربية الى الجيب الإسباني المحتل “سبتة” بطريقهم لأوروبا أصبحت ظاهرة متصاعدة بسبب الوضع الإجتماعي والإقتصادي السيئ وخاصة بعد تشكيل حكومة رجال الأعمال بقيادة الملياردير عزيز أخنوش،بأيلول 2021، لتظهر أكذوبة الدولة الاجتماعية ، وهو ما أظهره جيلٍ الشباب بأنه لا يرى له مستقبلا في هذا الوطن، لأن وعود 2011 ذهبت مع الرياح.

زر الذهاب إلى الأعلى