شكلت ثورة يوليو الناصرية عام 1952 محطة فاصلة في تاريخ الكفاح التحرري العربي المعاصر، وجاءت تحمل معها بارقة أمل كبيرة للجماهير العربية من المحيط إلى الخليج بعد نكبة الشعب العربي الفلسطيني عام 1948. لا سيما وأن رمزها الأول، القائد الخالد جمال عبد الناصر كان أحد قادة وابطال الجيش المصري، الذين شاركوا في الدفاع عن فلسطين، وحوصر في الفالوجا، وشاهد بأم عينه بؤس وتواطؤ الأنظمة العربية مع قوى الإستعمار بشكل مباشر وغير مباشر، ومخطط الغرب الرأسمالي عموما والإنكليزي خصوصا في فلسطين، ذلك المشروع، الذي مهد الطريق للمشروع الكولونيالي الإجلائي والإحلالي الصهيوني للسيطرة على الأرض الفلسطينية العربية، لإقامة الوطن للمستعمرين الصهاينة على حساب الشعب الفلسطيني، وعلى انقاض نكبته، التي شَردتْ وهَّجرتْ حوالي مليون فلسطيني من ديارهم إلى المنافي وبلاد الشتات.
أدرك ناصر العرب بتجربته الحية في الميدان فساد وإفلاس النظام الملكي المصري من خلال صفقة الأسلحة البريطانية الفاسدة، التي تم شراءها لتسليح الجيش المصري، وتبين انها كانت خنجرا مسموما موجها لصدر الضباط والجنود المصريين في معارك الدفاع عن فلسطين، وتلازم ذلك مع خواء ولعنة أهل النظام الرسمي العربي عموما آنذاك. وهو ما عزز لديه القناعة مع رفاقه وإخوانه الضباط الأحرار ضرورة الإسراع للشروع بالثورة على النظام الملكي في مصر، بالإضافة لكل مظاهر الفساد وتعاظم عوامل القهر والسحق للجماهير الشعبية المصرية والتبعية للنظام البريطاني.
كانت الثورة المصرية البطلة عنوانا لحقبة كفاحية تحررية نوعية في مصر المحروسة والوطن العربي الكبير على حد سواء. لأن نتائجها ومردوداتها لم تقتصر على الشعب العربي المصري الشقيق، حيث شهدت مصر تحولات إستراتيجية في السياستين الداخلية والخارجية، عادت بثمار وعوائد هامة على الشعب المصري عموما وعلى العمال والفلاحين خصوصا، وأحدثت قفزة كيفية في بناء مصر الحديثة: الإصلاح الزراعي، تأميم قناة السويس، بناء الصناعة الحديثة وخاصة مصنع الحديد والصلب، وبناء السد العالي، ومجانية التعليم والثورة الثقافية … إلخ، وبذات القدر كانت الثورة المصرية بمثابة ثورة العرب جميعا، ليس لإنها شكلت قاطرة للثورات العربية في مرحلة التحرر الوطني، ونبراسا وضاءً لكل الوطنيين والقوميين والديمقراطيين العرب فقط ، ولا لإنها شقت طريق الإنعتاق من ربقة الإستعمار القديم، انما لإنها حملت هموم ومعاناة قضايا العرب، كل العرب من المحيط إلى الخليج وفي مقدمتها قضية العرب المركزية، قضية فلسطين. لم يترك الراحل البطل عبد الناصرشاردة أو واردة من قضايا العرب إلآ وأولاها عنايته، واهتمامه من الجزائر إلى اليمن إلى لبنان وسوريا والعراق والأردن والسودان والصومال وليبيا والخليج العربي، ودافع بالدم والعرق والمال والتسليح والتعليم لبناء نهضة قومية عربية تحاكي المشروع القومي العربي النهضوي. لكن عوامل داخلية وخارجية حالت دون بلوغ الهدف الأسمى، بيد ان ذلك، لم يفقد الثورة المصرية شموخها وعنفوانها وعبقريتها.
ثورة الشعوب الأفرو – اسيوية:
فضلا عن ذلك، كانت الثورة المصرية العملاقة مصباح الأمل للقارة السوداء، القارة الأفريقية كلها، وساهمت بثقل واضح في تبني ثورات التحرر الوطني فيها، وقدم ناصر كل اشكال الدعم الممكن والمتاح للشعوب الأفريقية البطلة من تدريب، وتعليم، وتمويل للثورات والأنظمة الوطنية فيها، وقدم الدعم السياسي والديبلوماسي والإقتصادي والثقافي للأنظمة والثورات على حد سواء، ونسج علاقات وطيدة مع نكروما وغيره من القادة الأفارقة الوطنيين والقوميين.
كما ان الثورة المصرية قدمت المساعدات المتعددة الأوجه لقوى التحرر الوطني في قارة آسيا. وشكل مع نهرو وسكارنو وبالإضافة لنكروما في افريقيا، ومع تيتو في أوروبا الشرقية رافعة اساسية لتأسيس منظمة عدم الانحياز، المنظمة التي لعبت دورا هاما وتاريخيا في دعم كفاح الشعوب التحرري.
وتمكن مع اقرانه الزعماء المذكورين وغيرهم من بناء منظومة دولية جديدة خارج دائرة الاستقطاب بين القطبين السوفييتي الشرقي والراسمالي الغربي. وشكل نجاحهم رافعة في بناء هذا الصرح العالمي، رغم كل العثرات والصعوبات والتحديات التي واجهتهم. وكان عبد الناصر الزعيم الأممي الأكثر جدارة وكاريزماتيه لتبوأ مركزا متقدما بين اقرانه من زعماء الأمم، لما يتمتع به من سمات وخصال قيادية، وحضور وجدارة في إدارة الصراع مع الغرب الرأسمالي عموما وبريطانيا وفرنسا وقبلهم الولايات المتحدة الأميركية خصوصا، فضلا عن الصراع المحتدم والمتواصل مع دولة الإستعمار الإسرائيلية، المدعومة بشكل كامل من قبل تلك الدول الإستعمارية.
عظمة الثورة الناصرية:
من خلال التتبع الموضوعي والعلمي لسياق تطور الثورة، وتوسع وتعمق إهتماماتها بقضاياها، وخوضها الحروب والتحديات في الداخل المصري وفي الخارج العربي والإقليمي والأممي، التي انتصبت امامها على كل الصعد والمستويات الإجتماعية والإقتصادية والتربوية والثقافية والعسكرية الأمنية والسياسية والديبلوماسية، يمكن الجزم بالإستنتاج المقترن بالوقائع، ان الثورة الناصرية كانت ثورة عظيمة ورائدة، وملهمة لثورات الكون في القارات الثلاث افريقيا وآسيا اميركا اللاتينية، رغم ان ثورات الأميركيون اللاتينيون كانت سابقة على القارتين الشقيقتين بقرن من الزمن، إلآ انها عانت من كم هائل من المصاعب والهزائم على يد اليانكي الأميركي، الذين كانوا يتربصون بكل ثورة، وكل صوت وطني وقومي وديمقراطي لذا شكلت الثورة الناصرية ملهمة للثورة الكوبية وللعديد من الثورات اللاتينية اللاحقة في نيكاراغوا وفنزويلا والأرجنتين وتشيلي … إلخ
وعظمتها لا تسقط من القراءة الموضوعية جملة الأخطاء والنواقص والعيوب، التي لازمت الثورة على أكثر من مستوى وصعيد، والتي كانت أكثرها مرارةً وغصةً هزيمة حزيران/ يونيو 1967، التي مازالت تترك ندوبا قاتمة على مستقبل الأمة حتى اللحظة المعاشة. رغم ان الخالد عبد الناصر لم يستسلم للهزيمة وتداعياتها، واعاد بفضل التعاون الوثيق مع الإتحاد السوفييتي تسليح وتعزيز قدرات الجيش المصري، وخاض حرب الإستنزاف ضد الجيش الإسرائيلي ومن يقف خلفه من دول الغرب الرأسمالي، وكان يستعد لخوض حرب ال1973، لكن يد الموت كانت الأعلى، فخُطفْ ابو خالد في لحظة هامة من الدفاع عن الثورة الفلسطينية، التي قال عنها، “وجدت لتبقى وتنتصر” بعد معارك ايلول الأسود في المملكة الأردنية الهاشمية، بعد ان انهكه وإستنزفه التعب والمرض، فسلم الروح لبارئها في الثامن والعشرين من ايلول/ سبتمبر 1970، بعد ان تمكن من طي صفحة سوداء في تاريخ العلاقات الفلسطينية الأردنية.
في الذكرى الثامنة والخمسين للثورة الناصرية المجيدة لا يملك اي مراقب موضوعي ومسؤول إلا ان ينحني امام عظمة عبد الناصر وثورته البطلة، لأنها كانت لحظة تحول دراماتيكي في مسار وصيرورة الكفاح التحرري الوطني والقومي والأممي.