هوامش على دفتر الثورة

محمد علي الحايك

في ظلمة ليل عربي حالك الاستبداد، وبعد عهود طويلة مثقلة بالخيبات والمرارات، بانتظار نقطة الضوء في آخر النفق، يعيش شعب بكامله حياة قلقة، يختزن في نهاره إحساسًا عارما بالقنوط، وفي مسائه حزنًا يأكل ما تبقى من ومضات الضوء ، ينتصف ليله على لسع الإشاعات داخل أسوار الفقر ، وينام على وسادة التخلف محاصرة بالخوف والمؤامرات ، يلتحف القهر والظلم بحقوق منتهكة وثروۃ منهوبة ، يستيقظ على ضباب كثيف وقد تداخلت آلائه وتحشرجت أحلامه بالتحالف غير المقدس بين الاحتلال وقواته ومندوبه السامي وبين القصر السادر في عبثية الحكم ، يلهب بسياط القمع ظهر النضال الشعبي واندفاعاته ورموزه الوطنية وحركته الدائبة من أجل الحرية … وعلى وقع صفعات النكبة المؤلمة باغتصاب واسطة العقد العربي ودرة بلاد الشام (فلسطين ۱۹۶۸ ) ، استيقظت الجراح في مصر ، وخضت الأحلام تفتش في دفاتر الانتصار عن يوم وبطل لهما كبرياء السنديان ووفاء التراب ، تستحضر بهما مثال الماضي عبوره إلى أهداف المستقبل ، فلبست القناعات النبيلة عباءة الغضب الثوري ، واستشاط الدم في القلوب المؤمنة يحسم المواقف بعد اعتکاف طويل في محراب الصبر الذي بلغ مداه .
وبدأت رحلة الإبحار إلى عودة الروح ، فوقفت إرادة الطليعة الثورية تقدم أوراق اعتمادها بين يدي الطموح الوطني والقومي ، ليستفيق الحلم العربي على حلم آخر يجدد ذلك الميراث العريق من الرجولة والبطولة والريادة … وهكذا استقبلت صباحات الحرية في الثالث والعشرين من يوليو ۱۹۵۲ قلائد الضوء تزين المبادئ الستة ، وباقات الشمس من فلسفة الثورة ووابل من حفنات النصر تروي الأرض في مصر والوطن العربي بالنجاحات والإنجازات ، وقلوية من أجيال مختلفة تلتقي على قلب رجل واحد ، تشتر السواعد وتشح الهمم وهي تكتب بعرق العمل وصبر القلوب لحظات الانتصار ، وتتبادل نوبات الحراسة حول أشجار الحلم المروية بدماء الحب الفلسطيني والمعمدة تيماء الطهر العروبي الآتي من رباط الاستشهاد الذي راح جول جمال وبورسعيد يقدمانه وفاء لعطش البحر والأرض إلى الحرية … يومها أشرق الفرح في عيون أطفالنا ، وتفتحت الدنيا زهوره في أحلام شبابنا ، واخضوضرت الآمال في صدور أمهاتنا ، واغرورقت دموع النصر في زغردات جداتنا ، وهي تحتضن الفروسية القادمة من أحياء بني عبس ، والشهامة الطالعة من مضارب بني مر ، والبطولة | من يوميات القادسية واليرموك ، والريادة الوحدوية الحاضرة للتو من صفحات الشجاعة التي خطها صلاح الدين في حطين … ولأن مد الفرح كاد يلغي جزر الحزن ، فقد أطلق الخيال الشعبي لنفسه العنان انتصار السويس قائد للوحدة العربية … من وكانت الوحدة لحظة انتصار ، اكتشفت الأمة فيها ذاتها وحقيقة وجودها مع قائد له نخوه المعتصم وشمائل سيف الدولة واعتزاز المتنبي ومروءة السيف اليماني ممزوجة بخصوبة النيل وعذوبة الفرات وسمرة رغيف الخبز البلدي ، الرؤيا وتعطلت البوصلة بين يدي صغار النفوس فراحوا يحتفلون بانطفاء دخلت الأم به عصر القومية العربية بلا منازع ، مستجيبة لنداء التاريخ والجغرافيا بدعم ثورة الجزائر وإسقاط حلف بغداد وتحرير اليمن ، رامية وراء ظهرها ليالي الأرق وسنوات الفرقة وأيام التجزئة إلى شعلة أمل تتوهج في رحاب العصر فاتحة الطريق إلى فضاءات الحرية وعوالم العلم والتقدم والتطور والعدل الاجتماعي … ومن شرفات الأمل المطلة على حقول الأماني التي يعتريها الحنيث المشبع بالكرامة إلى حقائب الروح المسافرة على جناحي الحرية والحياد الإيجابي إلى باندونغ حيث يقرأ العربي على مسامع الدنيا عشق الأهل للأرض وهواء فلسطين بعد أن خطف الاغتصاب الصهيوني أرضهم وعالمهم وأحلامهم … ومع انطلاقة شمس النهار تطارد بقايا العتمة ، كان الناس ينصتون إلى رجل بحجم أحلام الوطن يتحدث لأول مرة بالعربية في ندوات ومؤتمرات عدم الانحياز في بريوني وبلغراد ونيودلهي والقاهرة ودورة الأمم المتحدة والقمة الأفريقية ، مؤكدا بأن على الاستعمار أن يحمل عصاه ويرحل في « حرية الشعوب لا تتجزأ » و « تصادق من يصادقنا وتعادي من شموع الوعي وقناديل الفرح وذبح الحلم الوحدوي إيذانا ببدء زمن القبح يعادينا » … … وبينما الوطن الوحدوي يروي سنابل الإبداع بالعرق والفكر غامت . الرؤيا وتعطلت البوصلة بين يدي صغار النفوس فراحوا يحتفلون بانطفاء شموع الوعي وقناديل الفرح وذبح الحلم الوحدوي إيذانا ببدء زمن القبح الانفصالي الذي ترك بصماته السوداء ندوبة بالغة القسوة على وجداننا وشغاف قلوبنا .. !! في هذا الأوان … وسط عالم كامل من الدهشة ، دقت ساعة العمل الثوري ، إنها ساعة للعمل وليست ساعة للحزن ، تخطت الثورة فيها جدار الخوف إلى ربيع الحلم ، تبني وطنا للعدل يغيب فيه استغلال الإنسان للإنسان ، تنشر ضياء الحرية السياسية والحرية الاجتماعية ، تعمل على تحقيق العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص في الاتجاهات الأربعة ، تقيم مجتمع الكفاية والعدل وسيطرة الشعب على وسائل الإنتاج ، تنفرج أسارير العامل بضحكة أحلى من قطرة شهد تلامس شغاف قلبه ، ويبتسم الفلاح لاخضرار الأرض بأحلام يانعة حان قطافها ، يتألق الإبداع في مخيلة المثقف وقلمه ، ويقاتل الجندي في كل أرض عربية معارك الحرية والحق والعروبة ، وفي موسم الحصاد تقترب المسافات بين الناس وتذوب الفوارق بين الطبقات لينعم الجميع ببناء السد العالي المقدمة الأولى لحتمية الحل الاشتراكي الذي أخذ على عاتقه وصول الأمة إلى مكانة حضارية لائقة ما فوق الأرض وتحت الشمس … وإذا كان الأخوة الأعداء قد ذبحوا الحلم الوحدوي قبل أن يشتد عوده ، فإن الإمبريالية العالمية قد اغتالت وطن الأحلام الجميلة دفعة واحدة عندما أطلق النار في حزيران / يونيه ۱۹۹۷ على حضارة القرون وروايات التاريخ وفرح الفراشات وخلايا النحل ومواسم القمح وبيادر الحنطة وأشجار الزيتون وبيارات البرتقال ، وأحلام الشعر ، ونسمات الحرية … ولأن الشعب لا يخون نفسه فقد أدهم الشعور الرافض للهزيمة من النجوع والبوادي والحقول والمصانع وارتفع لهيب الكلمات ورسائل الوفاء وقد اجتاحها شوق عارم إلى الصوت الدافئ الذي عاش العمر يبحث عن الحرية والكرامة لأمة ضارية الجذور في أعماق التاريخ مزقها أعداؤها ضد إرادتها وضد مصالحها ، يحمل على ظهره وجع العصور وهموم الناس وآلام الفقراء ، زاهدا في حطام الدنيا ، متعففة عن زخارفها ، وعندما رأوا في عينيه ازدحام شديدة بالتساؤلات ، وقلبه يقطر أسى ومرارة ولوعة ، لما آلت إليه الأمور في ميدان القتال رغم تحذيراته ، ضجت الشوارع بمكنون الحنين تخرج من نبضات الجراح ، وأردية الوقت ، ورائحة الدقائق المتوترة ، وطعم الحزن الذي لا يموت ، تدافع عن شرف الحياة وسيلة وغاية ، وعن بقايا الحلم وخيوط الأمل بدموع القلب ودماء المعاني … وعلى ضفاف الدعوات الموصولة بأسباب التحرر من العجز واليأس والأسر إلى الأمل والفعل والانطلاق ، ومع تراتيل حقول السنابل تحت أضواء الفجر وصبوات سهول القطن مع إشراقة الشمس ، تعود الرو العربية التي بعثرتها الهزيمة تلم نفسها استأنفت الدماء دورها في الأفئدة ، في « لا صوت يعلو على صوت المعركة » و « ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة » وعند كتف القناة راحت أسراب الحمام تعانق بشوق الوطن إلى الانعتاق الروح العالية لقائد وسط جنوده راسم بدمه نقطة الذروة في الخط البياني لحرب الاستنزاف الجيدة التي مهرت صفحة الشرف الأولى في كتاب النهار الجديد بدم عبد المنعم رياض … لقد تعلق الناس بيوميات حرب الاستنزاف تعلق الأرض العطشى بالمطر والبراعم بالندي والصدى بالصوت والضحك بالفرح ، ودارت الأيام ، ورحل القائد دون أن يدرك النصر الذي وهبه سنواته الأخيرة ، رحل وفي حلقه غصة الهزيمة و نزيف الدم العربي المهدور في الدروب الفرعية ، واليوم … وبعد هذه السنوات العجاف التي اشتدت فيها الهجمة على الأمة وجودة ومقدرات وتغيرت فيها مفاهيم الثورة والسياسة ومنظومة القيم ، فهل هناك حقا من يحمل الرسالة ويكمل المشوار بعدما سقط من سقط في مطبات الطريق ؟! وخرج من خرج إلى الرصيف يتفرج على المارة.. ؟ ! وأما الفئة القليلة القابضة على جمر المبادئ والثوابت فهي بحاجة إلى عرق وجه ودماء تروي بها حقول الكرامة والمقاومة والوفاء .. !! يقول حکیم صيني : « إن أردت ألا تموت اترك للحياة کتاب وولدة وشجرة » فهل ترك عبد الناصر في أمته شيئا من هذا ؟! سؤال برسم الجواب في قادمات الأيام.. !!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى