بعد مرور 68 عاماً على ثورة الثالث والعشرين من تموز

د- عاصم قبطان 

هل حان الوقت لتجديد فكر الثورة الخلاق الذي يحتاج إلى إجابة مفصلة بقدر الإمكان دون أن تؤدي إلى التوقف عن القراءة حيث أننا نعيش في عصر السرعة و كتابة ما قلَ و دل ، وحساسية القضية و جسامتها تؤكد على ضرورة التفصيل في الأمور المصيرية التي تحكم الأمة من المحيط إلى الخليج ، لقد ثبت أن المرحلة الحاضرة التي نمر بها جميعاً تتطلب منا أن نعمل على ترسيخ و تحقيق مبدأ الإيمان  بالمواطنة أولاً و ثانياً و دائماً و نؤمن و بقوة بضرورة استعادة دولتنا لقوتها و تغلبها على العقبات و الكوارث التي ألمت بها ، و ليس من تنميق الكلام الدعوة لاستعادة عزة و كرامة هذه الأمة لأنها حقيقة عملية في جميع الأزمان و العصور ، منذ قدم التاريخ كان هناك و سيبقى قوى عالمية تتحكم بمصائر الشعوب على الكرة الأرضية و كان الروم و الفرس هم من يقودون أو فلنقل يتسلطون على مقدرات العالم ، حيث بقيت حوافر الغزاة تتبادل السيطرة على الشرق الأوسط إلى أن جاء فجر الدولة العربية ليكسر القاعدة و لتقوم الدولة القوية التي امتد سلطانها لقرون متوالية حطمت من خلالها أسطورة الفرس والروم، و توالت السلطة على تلك الدولة من الخلافة الراشدة إلى دولة الأمويين التي تميزت بنقاء جذورها العربية مما عرضها لمحاولات عديدة استعملت فيها النعرات الطائفية  والمذهبية والشعوبية لتنتقل الخلافة إلى العصر العباسي الذي تميز بتعدد الانتماءات و الجذور التي ساهمت في حكم البلاد الواسعة و تلا ذلك انتقال السلطة من يد العرب إلى العثمانيين ، و في جميع الأحوال لم تتوقف حلقات التآمر ضد هذه الدولة القوية التي امتد سلطانها من أوروبا إلى أقاصي الصين ، و بالنتيحة و على مر القرون و العصور استطاع أعداء هذه الأمة بذر بذور الشقاق و الخلاف المذهبي و العشائري و الشعوبي ما بين مكونات الأمة وصولاً إلى تمزيقها و تدميرها ، هذه المحاولات التي لم تتوقف حتى يومنا هذا و أتت أُكُلها أخيراً لتنسف كل التاريخ الذي تكلل بالانتصارات و العزة و الكرامة ، و بكلِ الأسى يمكننا القول بأن ما تعرضت له هذه الأمةُ من نكباتٍ جسام لم يؤد إلى إدراكٍ متميز  لأسباب هذه المصائب و من يقف وراءها و من هو المستفيد .
من هنا وباختصار شديد باتَ مطلوباً من الفئات المثقفة سبر أغوار الحقيقة والعمل على الوصول إلى حلولٍ أملاً في استعادةِ ما فُقد وترميمِ ما تَهدم، واستعادة التاريخ بقراءةٍ منطقية وغيرِ منحازة ولا تحكمها النعرات والسلبيات التي كان لا بد من معاناتها على مرِ العصور. عندما نقول أمة و في كل صقع من أصقاع العالم الذي ننتمي إليه و خصوصاً في دائرة الشرق الأوسط و التي تمتد من السواحل الشرقية للمحيط الأطلسي إلى الخليج العربي في أقصى الشرق و من السواحل الجنوبية و الشرقية للبحر الأبيض المتوسط و جنوب الصحراء الكبرى الإفريقية إلى الحدود الشرقية للعراق و عرب ستان ، و الحدود الشمالية لسورية و الحدود الجنوبية لشبه الجزيرة العربية أعني اليمن بكل مكوناته الجغرافية و ما اصطلح سابقاً على تسميته بالمحميات البريطانية التي تمخضت عن دويلات و إمارات زادت في عداد دول  الجامعة العربية و زادت في التخريب و التآمر على الكتل الكبيرة انطلاقا من الشعور بالنقص و الشعور بأن المال يشكل عصب الحياة و بالتالي فمن الممكن شراء الذمم و الولاءات ، كل هذه الجغرافيا تشغلها أمةٌ واحدة متعددة اللغات و اللهجات و الانتماءات و حتى  الألوان ، إلا أنها تحتوي على قواسم مشتركة لا تتوفر لباقي الأمم أو فلنقل القوى العظمى التي تسيطر على كوكب الأرض في عصرنا الحالي ، هنا نؤكد على الأمة الواحدة كما هي الأمة الهندية و الأمة الصينية و الأمة الأمريكية و الأمة الأوربية و الأمة البريطانية و غيرها و غيرها ، في نفس الوقت الذي لا نسمع فيه عن قومية هندية أو قومية صينية أو قومية أمريكية أو قومية أوروبية أو حتى قومية بريطانية ، و على سبيل المثال و ليس الحصر فالأمة البريطانية تتكون من أربعة شعوب لكلِ شعب لغته الخاصة و لكن تجمعهم جميعا جغرافيا واحدة هي الجزيرة البريطانية التي تحيط بها البحار من كلِ جانب و المصالح المشتركة و تأتي أخيراً اللغة الانكليزية و بهذا يحافظون على بقاء دولتهم في عداد القوى العظمى ، و لتأمين الحياة الكريمة لمواطني الدولة التي تجمع هذه المكونات ، من هنا ننطلق للتأكيد على تبني الموقع و الامتداد الجغرافي لمكونات الدولة ، فماذا تمثل دولة لبنان بجغرافيتها المحدودة مقابل أن تكون جزءاً من الدولة الكبيرة المترامية الأطراف من المحيط إلى الخليج ، و نفس الكلام ينطبق على المصالح المشتركة لجميع مكونات الأمة من المحيط إلى الخليج ، و لا بد من الاعتراف بأن الانتماء القومي العربي الذي كان لهُ دوره الكبير في مقارعة الاستعمار الاحتلالي في القرن العشرين هو نفسه الذي تراجع تأثيره الإيجابي بمفهومه الاستعلائي  بعد أن تمكنت قوى الردة من تمزيق شمل الأمة على مستوى اللغة الواحدة و التاريخ و الحضارة مع الضياع الذي عشناه و نعيشه منذ عقود و بعد ظهور النعرات الشعوبية و الطائفية التي بددت القوى الكامنة لهذه الأمة و التي تعمل على ترسيخها جميع القوى العظمى لمنع قيام أي كيان قوي في هذه المنطقة من العالم ، و من هنا ظهرت الدعوات الانفصالية المختلفة التي جسدتها المكونات على سبيل المثال الكردية و و الأمازيغية و البربرية و النوبية والانتماءات المذهبية إلى ما تحوية القائمة من تكوينات و تجمعات حيث تعتقد كل جماعة بأنها الأهم و الأقرب إلى الله و الوطن و التاريخ ، و هكذا تكاتف الجميع في نهش لحم الدولة الواحدة التي أسست و بنت و حققت كرامة كل مكونات هذه الأمة . من هذه العجالة فإن الطريق للحصول على المواطنة الحقيقية لا يمكن أن يتم إلا من  خلال تطوير المفهوم القومي الشوفيني إلى المفهوم الأوسع الإنساني المواطني وصولاً إلى بناء الدولة الشرق أوسطية القوية و الحديث بكل المقومات و القواسم المشتركة التي تجمع ما بين كل مكوناتها البشرية ، إلا أن هذه الدعوة قد يفسرها البعض على أنها دعوة للتطبيع مع التلموديين الصهاينة و على الفور نجيب إن ما نؤمن به كمكونات لهذه الأمة هم أصحاب الأرض الحقيقيون و ليست القوى الاستعمارية المختلفة و التي تشكل الصهيونية العالمية المهد المغذي لها ، فإسرائيل أوجدت لتدق إسفيناً ما بين شرق البلاد و غربها ، و الحقيقة تؤكد في تاريخنا المعاصر أن المؤامرة الكبرى بدأت منذ انقلاب الثامن و العشرين من أيلول لعام 1961 على بنيان الجمهورية العربية المتحدة الشامخ و الذي فصم عرى الوحدة ما بين قطر مصر و قطر سورية هذه الوحدة  التي لم تعد لتذكر بما تستحق في كتب التعليم في وزارات التربية في غالبية دول المنطقة و دويلاتها و إماراتها و التي تجعلنا نبكي على مصداقية التعليم في أي بلد في منطقتنا والذي جعلها تُنسى بالنسبة للأجيال الحاضرة ، إذاً وحدة مكونات الأمة و وحدة الامتداد الجغرافي و مركزية الدولة الكبيرة من حيث القوة و السياسة الخارجية والثقافة المشتركة و التاريخ المشترك و الثروات الباطنة و القوى البشرية الهائلة التي ينبغي أن ترتفع فوق الانتماءات الشعوبية و القومية و العشائرية و الطائفية و المصلحية كل هذه الأمور هي التي ستجعل من هذه المنطقة كتلة صلدة يصعب اختراقها و القضاء عليها ، إن الكيانات التي أفرزتها معاهدة سايكس بيكو التي قسمت العالم العربي في هذه المنطقة إلى كيانات عديدة ، كما أن اقتسام هذه المنطقة ما بين الاستعمار الفرنسي و الاستعمار البريطاني هو الذي أدى إلى قيام هذه الكيانات المختلفة التي لم ترتق إلى المرحلة التي من خلالها تستطيع استعادة عزتها و بنيتها ، و هنا لا بد من التأكيد على أن ثورة الثالث و العشرين من تموز لعام 1952 كانت الرد الفعلي لانتهاك حرمة ومقدسات الأمة في دولتها المنشودة و التي تآمرت بها القوى الصهيونية و القوى الكبرى و أعداء التحرر لتسليم فلسطين إلى سلطة الصهاينة لتكون قاعدةً متقدمة لتدمير الدولة الكبيرة ، لقد تجاوزت النظرية الثورية لثورة الثالث و العشرين من تموز 1952 الحدود ما بين الدول المنكوبة بارتباطاتها بالقوى العالمية العدوة ، و تبنت هذه الثورة عبء النضال العربي من المحيط إلى الخليج و عملت على بذر  بذور الوحدة التي كانت تقتضي التمسك بالمفهوم القومي العربي ، وكانت  النظرة الثاقبة لقيادة الثورة التي تجاوزت الحدود إلى آفاق الدولة الكبيرة الشرق أوسطية لتتفاعل عملياً مع ثورة الجزائر في أقصى الغرب و ثورة جنوب الجزيرة العربية في عدن و ظِفار إلى اليمن و لتنتهي إلى الوحدة العربية التي أنتجت الجمهورية العربية المتحدة بقطريها  سورية و مصر و التي وَضَعت إسرائيل ما بين فكي كسارة البندق كما صرحت بذلك غولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل في تلك الحقبة ، لقد تأجج النضال العربي في كل أصقاع العروبة فكانت ثورة 14 تموز لعام 1958 في العراق و كانت ثورة اليمن والثورة اللبنانية .
نعم لقد تميزت الرؤية الثورية لثورة الثالث و العشرين من تموز باعتماد الدوائر الثلاث ، الدائرة العربية ، و الدائرة الاسلامية و الدائرة الإفريقية و تممت بذلك بقيام دول الحياد الإيجابي ، و إذا جاز لنا اليوم أن نتحدث فإن  شعور الجميع و بعد جميع محاولات الدس و الوقيعة ما بين جميع مكونات الأمة فقد بات الشعور بالمواطنة والانتماء إلى الدولة الكبيرة المترامية الأطراف و التي تحقق آمال و طموحات شعبها هو الطريق  الوحيدة لتحقيق أهداف الأجيال القادمة و رص صفوفها ، و يمكن الاكتفاء  الآن بهذه العجالة ، مع التأكيد على الأجيال الحاضرة بناة المستقبل من ضرورة قراءة التاريخ الماضي و المعاصر ، و تبين أهمية الموقع الجغرافي لدولة الشرق الأوسط القوية للقضاء على الصهيونية و من يقف خلفها من القوى العالمية و القوى الإقليمية بما فيها خونة الأمة من العرب ، و ربما تكون دافعاً  لاستمرار التفاعل المثمر و الخلاق ، فالأمور كثيرة التي تجمعنا جميعاً و التي يمكن بحثها في قادم الأيام ، كيما نصل إلى قواسم مشتركة نلتقي على مصداقيتها جميعاً و نعمل من أجلِ تحقيقها و التي يؤمل أن تحقق العدالة و الرضى للجميع و للحديث بقية .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى