لم يمر في تاريخ البشرية – على قدر علمنا بالتاريخ – زعيم حوصر وحورب ، ومنع عنه حتى حق استغلال ارضه ومرافقه – كما حصل مع بطلنا العربي من مصر ، ودائما” لأنه زعيم مصر ، ورمزها ، ولعله أقدر حاكم فهم بلده ، ومسؤولياتها ، وحق العرب الذين ينتمي اليهم في الارتكاز الى مصر ، قائدة وضمانة .
هذا الفهم لأهمية مصر ، شعباً ، وموقعاً ، وتجانساً اجتماعياً ، وثقافة ، وعلماً ، ولأهمية مكانتها بين اشقائها العرب ، وجغرافيتها بين قارتين ، واطلالتها على بحرين ، بوابة لأفريقيا ، وجسرا الى آسيا ، وقربا من أوروبا .
هذا التقدير لمكانة كل هذا مجتمعا في بلد واحد ، وعند زعيم واحد ، في إحدى تحولات التاريخ العالمي ، بعد الحرب العالمية الثانية ، نحو التحرر الذي ساهم فيه بطلنا ، قائدا لمصر ، بدور ريادي ، دانت له فيه شعوب مختلفة ، في اسيا وافريقيا ، عربا وغيرهم ، بالحرية والسيادة والاستقلال .
هذه المكانة ، على حدودها فلسطين التي احتلتها العصابات الصهيونية ، تحت رعاية الاستعمار البريطاني ، قبل قيام ثورته في 23/7/1952 بقيادته .
هذا الترابط بين ثورة 23 يوليو 1952 وبين فلسطين ، بدأ خلال تواجد القائد على أرضها كجندي مقاتل ، عام 1948 ، يدرك الهزيمة وأسبابها ، يعي أهمية تصحيح الداخل المصري ، ليبدأ الحراك العربي ، مقدما الوطنية لخدمة العروبة ، مقدما الاجتماع ليخدم الاقتصاد ، وعندما تكتمل هذه العوامل سوية ، يعطيها بعدها القومي ، مستبقا وحدة مصر وسورية عام 1958 ، بدور عربي فعال في ثورة الجزائر 1954 ، وعندما تهزمه قوى التخلف والرجعية والاستعمار في جريمة فصل سورية عن الجمهورية العربية المتحدة في 28/9/1961 ، ينتصر لثورة اليمن بعد سنة كاملة في 26/9/1962 ليؤكد انتماءه العروبي قولا ، بعد فعل ، وممارسة من دون تنظير ، وبالدم لا بالحبر فقط .
إنه جمال عبد الناصر
هو الذي قرر التصدي للرجعية المصرية ، والاستعمار البريطاني ، بادئا بهذا التصدي مرحلة بناء مصر ، وهو هدف قيامه بثورة يوليو 1952 ، ومن دون التصدي كان يستحيل البناء . فلا استقلال اقتصاديا بخضوع المال المصري في المصارف للسيادة الأجنبية ، فكان لا بد من “التمصير” .
كان ذلك عام 1957 ، وقبل التحضير ، كان مشروع بناء السد العالي الذي رفضت بنوك مصر الأجنبية المساهمة ولو بفلس واحد في تمويله ، فراح للبنك الدولي فجوبه بشروط تعجيزية ، وكان هذا لمنع مصر من البناء ، فأمم قناة السويس ، فوقع العدوان الثلاثي عام 1956
تعالوا لنقف عند هاتين المسألتين المترابطتين :
هل قرأتم في تاريخ الأمم ان دولة أرادت بناء سد على أرضها ، فواجهت حصارا وسياسة منظمة لتجويع شعبها ، وسعيا لتركيعها ، كما حصل مع مصر؟!
هل قرأتم في تاريخ الأمم ، ان دولة استردت سيادتها على جزء من ارضها ، فشنت عليها ثلاث دول أجنبية حربا ، هي الأولى بعد الحرب العالمية الثانية ، ضد دولة واحدة ؟!
لم يهدأ بال جمال منذ لحظة انتصار ثورة 23 يوليو 1952
- اصلاح زراعي بعد أقل من 52 يوما على قيام الثورة في 9/9/1952
- مساندة ثورة الشعب الجزائر التي انتهت بالانتصار على المستعمر الفرنسي المحتل لمدة 132 عاما ، بعد سنتين من قيام ثورة يوليو ( ثورة الجزائر بدأت يوم 1/11/1954 )
- محاولة الاخوان المسلمين قتل جمال عبد الناصر .
- عقد صفقة سلاح مع الكتلة الشرقية عام 1955 كسرت احتكار السلاح الممنوع على مصر ، الا بشروط غربية ، أولها منع محاربة إسرائيل .
- عدوان ثلاثي على مصر ، بعد تأميمه قناة السويس 1956
- عام 1957 معركة استرداد المال المصري المنهوب ، ولم يمنع إشغال وانشغال جمال بحروب داخلية مصيرية في كل القطاعات (زراعة –صناعة – مصارف، مواجهة مع عدوان شامل ، ونجاة من محاولة قتل ، دبرها الاخوان . لم يمنع هذا ان يستجيب جمال لنداء الوحدة العاجلة مع سورية ليقيم معها الجمهورية العربية المتحدة .
- أعطى الوحدة بعدها القومي ، والأهم بعدها الاجتماعي ، من خلال قرارات يوليو الاشتراكية ، داخل دولة الجمهورية العربية المتحدة .
هاتوا لنا اسم زعيم واحد ، في العالم ، انشغل أو أُشغل ، كما حصل مع جمال !
وفق هذا لعلكم تعلمون حجم التحديات الأخرى التي لم يواجهها زعيم على مر الزمان كما واجه جمال عبد الناصر.
لم تتوقف القوى الرجعية في الداخل من بقايا نظام ما قبل ثورة يوليو، وراكبو السياسة الدينية ، والمتجذرون في المؤسسة الدينية ، والشيوعيون في محاربة جمال منذ بداية ثورة 52 .
كل أنظمة العرب من دون استثناء حاربته ، وقد خشيت دعوته للحرية والاستقلال والكرامة والعروبة . اجتمع بعثا العراق وسورية والاخوان المسلمون في كل دار ، مؤيدين من ملكيات عربية رجعية من المحيط الى الخليج ، ووقف معهم أيضا والشيوعيون !
لم يتوقف العدوان الصهيوني على مصر عام 1955 (على قطاع غزة) وعام 1956 على سيناء ، وعام 1967 على كل مصر كلها ، وطيلة حرب الاستنزاف ( 1968- 1969 – 1970) .
مارست الولايات المتحدة كل الطرق لارهاق جمال ، أو لاسقاط نظامه ، أو لتأليب الناس ضده ، وحاصرته عام 1965 ، وحاولت أن تطوعه بعدها ، فلما فشلت أمرت إسرائيل بالعدوان المباشر ، وكان معها دائما عاهل السعودية فيصل بن عبد العزيز .
قال جمال خلال العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 ( حنحارب حنحارب مش حنسلم ) . ..
وقال بعد عدوان 5 يونيو 1967 : (ان السلام من دون إمكانية الدفاع عنه استسلام ) .
وقال خلال حرب الاستنزاف : لم يعد أمامنا ، للخروج مما نحن فيه غير أن نشق طريقنا عنوة ، فوق بحر من الدم ، وتحت افق مشتعل بالنار ) .
كل هذا جاء تعزيزا لشعاره الذي أطلقه يوم 5/11/1967 بعد 151 يوم من هزيمة يونيو العسكرية : ( إن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة ) وكان قاب قوسين أو أدنى من تحقيقه ، لولا قدر رحيله في 28/9/1970 . والمفارقة العجيبة أن جمال كان حدد تاريخين لحرب عبور القنال هما :
– شهر نوفمبر 1970 ، وفي هذا التاريخ كان أربعين رحيله .
– وشهر مايو 1971 ، وفي هذا التاريخ انقلب أنور السادات على مصر ودورها والعروبة ، وهو ينقلب على جمال ، وخطه .
وليس هناك من تعبير أدق وأوضح عن المواجهة بين جمال وأميركا ، من أن رئيسها ريتشارد نيكسون الذي كان أقر مناورات بحرية أميركية هي الاضخم في البحر الأبيض المتوسط ، كرسالة تهديد الى جمال ، أمر بإلغائها بعد رحيل قائدها في 28/9/1970 قائلا : لم يعد هناك من حاجة لها ، بعد ان رحل الرجل الذي نظمناها ضده .
غير أن هذه المعارك والتحديات والمواجهات التي كسرتنا فيها اميركا وإسرائيل ، ورجعيات عربية كانت تصهر الحديد لتحيله فولاذا ، وكان القدر أقوى وأقسى .
ولقد ظل الحقد السياسي والشخصي والطبقي على جمال عبد الناصر ، يطغى على عقول أعداء الثورة والشعب المصري في الداخل ، حتى باتوا أسرى الهزل الفكري ، وهم يتطالون على كل انجاز حققه جمال خلال عصره . وسنكتفي بضرب بعض الأمثلة الواضحة جدا :
الأول : السد العالي
تطاولوا على بناء السد العالي ، تحت ذريعة انه خفض نسبة الطمي في الماء ، وهي المادة المخصبة للأرض ، وتناسوا أن بناء السد وفر لمصر ري اكثر من مليون فدان ريا دائما ، وأتاح استصلاح مليون فدان آخر ، ووفر الكهرباء لاكثر من 4 آلآف قرية ، في طول مصر وعرضها ، كما أن السد العالي انقذ مصر في حالتين :
الأولى : حالة الجفاف التي أصابت كل دول شرق افريقيا ، بانخفاض معدل المياه في نهر النيل ، لأن مصر خزنت في بحيرة ناصر كميات كافية ، لتعويض هذا النقص .
والثانية : حالة فيضان نهر النيل الذي كان قد هدد القاهرة نفسها ، عام 1959 قبل بناء السد .
والذين تكالبوا تطاولا على السد العالي خلال عقود أصابهم الخرس ، وهم يتساءلون ، كيف سيكون حال مصر ، من دون بناء السد العالي ، وفي حالة ملء سد النهضة الاثيوبي .
المثال الثاني : قناة السويس
اعتاش بعض الندابين المصريين ، خصوصا ، ومنهم اعلاميون ، ووفديون ، واخوان مسلمون ، على مزاعم مضحكة ، بأن مصر كان يمكنها أن تتجنب العدوان الثلاثي 1956 لو انها لم تؤمم قناة السويس ، لأن عقد امتياز شركة القنال ، سينتهي عام 1969 ، وانه كان الافضل لها أن تنتظر 13 عاما ، فتسترد القناة سلما ، ” بدلا” من لجوء جمال عبد الناصر للتأميم .
وجاء الرد على هذه المزاعم المضحكة من خلال وثائق نشرتها صحف بريطانية كشفت أن أصحاب شركة القناة البريطانيين والفرنسيين ( ومساهمين أوروبيين آخرين) كلفوا مكاتب هندسية بحرية ، لتقديم دراسات عن إمكان تعميق القناة وتعميق مجراها ، فكيف لمن يخطط ذلك أن يسلمها بعد 13 سنة ..؟؟!
هذا فضلا عن أن العدوان الثلاثي على مصر ، أكد بما لا يدع مجالا للشك فيه اصرار البريطانيين والفرنسيين على الاحتفاظ بها ، مما يجعل تسليمها مستحيلا عندما ينتهي عقد تأجيرها ( 4 ملايين جنيه إسترليني سنويا ) عام 1969 ، لكن أعداء عبد الناصر أثبتوا أنهم أعداء للعقل والأخلاق ، أعداء للضمير وللوطن
الثالث : التعليم المجاني
سمح التعليم المجاني الذي وفرته ثورة 23 يوليو للفقراء المصريين ، من أبناء الفلاحين والعمال والموظفين الصغار والأجراء أن يدخلوا أولادهم لكل مستويات التعليم ، ليتخرج عشرات الآلاف منهم ، مهندسين وأطباء ومحامين وصيادلة ، وأن يصبحوا أساتذة جامعات وباحثين وعلماء في مختلف الاختصاصات . وكان هذا كله قبل الثورة حكرا ” على فئات معينة ” تملك المال (بالعمل أو بالسمسرة أو بالكسب غير المشروع ) كي تتولى هذه المهن والوظائف الرفيعة .
ولعل هذا المكسب الاجتماعي ، الوطني ، الأخلاقي الذي جعل الناس سواسية في هذه المهن، والتفوق الذهني ، للوصول الى المواقع ، والتقدم الوظيفي، والحضور الاجتماعي ، والانتقال من طبقة الفقراء ، والتقدم الى الطبقة الوسطى ، والتي أصبحت عماد استقرار المجتمع المصري ، واستواء الهرم على قاعدته ، من خلال شمولها الوطن كله ، وهي أساس ازدهار الثقافة ، والبحث العلمي . وهذه الحالة الجديدة التي صنعتها الثورة عبر التحول العظيم ، في مجال الاستقرار الاجتماعي ، مواكبة مع التحول الصناعي الضخم ، والتحديث الزراعي ، ومجالات البحث العلمي ، واعتماد مقياس العمل وحده (العمل شرف، العمل حق، العمل واجب، العمل حياة) خلقت استنارة عقلية ، وانتماء عميقا لمبادىء العدل الاجتماعي، وأساسا راسخا للتقدم العلمي ، تحت راية الانتماء لمصر (والعروبة) انتاجا” وعلما” وعملا” وتقدما” في الفن ، عبر فنون السينما والمسرح والفنون المختلفة .
ومع هذا
وبعد غياب جمال عبد الناصر في 28/9/1970 ، وانقلاب أنور السادات على هذا النهج اعتبارا من يوم 3/5/1971 خرجت كل القوى المعادية للتقدم والعدل الاجتماعي تحت رايات طبقية وظلامية ، وولاءات ثقافية وسياسية للغرب ، وكل أعداء الثورة والمجتمع الاشتراكي تسخر من مجانية التعليم ، لأنها حققت الطفرات الاجتماعية والثقافية والسياسية ، كقاعدة ثابتة للثورة ، مغطية هجومها بانخفاض مستوى التعليم عموما ، في كل مراحله ، وتراجع جامعة القاهرة من المرتبة الأولى في افريقيا في عصر جمال ، الى المرتبة 28، وعدم تواجد أي جامعة مصرية على مستوى 500 جامعة في العالم ، وتخريج شبه أميين منها ، او من ثانوياتها ، وحشو الجامعات بالطلاب دون قدرة على توفير عدد كاف من الأساتذة ، والمقاعد ، أو الحضور في مختبرات قديمة ، مما وفر الفرصة لظاهرة الجامعات الخاصة لظهور بالظهور مرة ثانية ، والتي لا قدرة على دخولها لفئات المجتمع المصري المتوسطة ، وما دون .
وما زالت الحملة ضد جمال وثورته مستمرة لا تتوقف في حالة استثنائية .
وختاماً :
ليس أبسط من هذا القول لشرح قوة ومكانة وخلود دور جمال عبد الناصر ، فالناس لا تقذف بالطوب الا الشجرة المثمرة . ولولا أن جمال مازال يؤرق كل القوى التي حاربته حيا ( وهو حي في رحاب الله ) لما استمرت حتى الآن موجة التعليقات والكتب والمقالات ضد جمال بعد 50 سنة على رحيله ، تلتقي فيها أقلام اليمين وأقلام اليسار ، وما بينهما من جماعات متمسلمة ، وكلها كانت وعاشت مرتاحة في عصر جمال في عتمة الفكر والعقل والظلام ، ولعنة الله على من أخرجها من جحورها ، ثم قتل على يديها !!
نحن الناصريون المعتزون بمرحلة عشناها في عصره ، نفتخر بأننا نملك دليلا للعمل الثوري ، عنوانه الكرامة والاستقلال والعزة. وهذه من سمات رجل واحد اسمه جمال عبد الناصر .
حسن صبرا
رئيس تحرير مجلة الشراع
بيروت 16/7/2020