إذا زرتَ عمّان هذه الأيام ستُفاجأ بأمرين: طقسها المُتقلّب الأكثر ميلاً إلى الاعتدال بعد صيف حارٍّ جداً، وكثافة اليافطات الدعائية لمرشّحيّ الانتخابات النيابية المُقرّرة بعد أقلّ من أسبوع (10 سبتمبر/ أيلول الجاري)، وهي انتخابات تنعقد عليها الآمال لتحديث الحياة السياسية في البلاد، وصولاً إلى حكومات تُشكلّها الأغلبية البرلمانية، لكنّها (الانتخابات) تجري أيضاً في ظلّ مخاوفَ حقيقيةٍ من تدنّي نسبة الاقتراع، على خلاف ما تسعى إليه السلطة التنفيذية التي ترغب في إقبال أكبر على الاقتراع لإنفاذ رؤيتها في “التحديث”، الذي يرى كثيرون أنّه لن يقتصر على المستوى السياسي، بل المجتمعي أيضاً، أي دفع “العشائرية السياسية”، إذا جاز الوصف، إلى الوراء قليلاً لصالح العمل السياسي العابر للمكوّنات الاجتماعية، وهذا أمر عسير، ولكنه ليس مستحيلاً في بلاد تُشكّل العشيرة نُواتَها الصلبة تاريخياً.
من المفترض أن تتراجع حصّة المكوّن العشائري في المجالس النيابية الأردنية المُقبلة بسبب مفاعيل قانون الانتخابات الجديد، الذي يخصّص 41 مقعداً من أصل 138 للقوائم الحزبية، ويُفترَض أن تزيد هذه المقاعد تدريجياً، وفق القانون، حتّى تصل إلى نحو 65% من إجمالي مقاعد البرلمان، ما يعني، في نهاية المطاف، إعادةَ العشيرة إلى مقاعدها الأصلية، مكوّناً اجتماعياً لا سياسياً، وهذا مرهونٌ بعاملين: زيادة نسبة الاقتراع، وتفعيل مشاركة المكوّن الأردني من أصل فلسطيني في الحياة السياسية، ومنها البرلمان.
وتكتنف العامل الثاني، مشاركة ذوي الأصول الفلسطينية، تعقيدات كثيرة، أبرزها ما يسمَّى احتكار جماعة الإخوان المسلمين أصوات هؤلاء، إضافة إلى مخاوفَ مضخّمةٍ لدى قطاع متنفّذ في دوائر صنع القرار من هؤلاء على الهُويَّة الأردنية. وسواء صحّ هذا أم لا، فإنّ من شأن ديناميات التحديث السياسي، الذي يقوم على مفهوم المواطنة تجاوز هاتَين العقبتَين، ما يجعل الصورة هنا على النحو التالي: تراجع العشيرة لصالح الأحزاب، بالتوازي مع تراجع مفهوم المكوّنات لصالح مفهوم المواطنة، ويبدو أنّ هذا ما تسعى إليه قيادة البلاد، وبما يُفكّك المخاوفَ المضخّمةَ على مفهوم الهُويَّة تلقائياً، أو إنتاج هُويَّة مُحدَّثة تنسجم مع طبيعة المجتمع الأردني الحديث، القائم على تعدّد مكوّناته، والمُتقدِّم على فِكَرِ بعض نُخَبِه المحكومة في عمومها بهواجس ما قبل الدولة.
يمنح هذا الانتخاباتِ المُقبلةَ أهمّيةً استثنائيةً، كما يجعل الصراع فيها (وخلال مُجرياتها) يدور بين قوى ما قبل الدولة، إذا صحّ الوصف، وأدواتها ووسائل التعبير عن نفسها، والنزعات التحديثية للدولة نفسها التي ترغب بنقل البلاد من مرحلةٍ إلى أخرى، تنسجم معها دولةً حديثةً ومعاصرةً تمثّل مواطنيها كلّهم، وتنتقل بهم ومعهم إلى “منطقةٍ” جديدةٍ تقطع مع سابقتها من دون أن تلغي عناصرها الأولى.
لكن أمراً كهذا لا يمكن أن يحدُث باليُسر الذي قد يتوقّّعه بعضهم نظرياً، فالانتقالات العسيرة في المجتمعات تكون جرّاء صراعات بين عناصرها القديمة والجديدة، فلا القديم يريد التراجع بمحض اختياره، ولا الجديد يتقدّم من دون مُقاومة، وهو ما يُفسّر العودة إلى العشائرية في حملات المُرشّحين للانتخابات البرلمانية هذا العام، بل والحرص على التودّد لها باللغة التي يرى بعض المُرشّحين أنّها تفهمها وتريدها، رغم أنّ غالبية مُرشّحي القوائم الحزبية هم أبناء عشائر كريمة، ومن ذلك المآدب العامة التي يقيمها مُرشّحون على ملاءة مالية عالية لناخبيهم المُفترَضين، وقد تسبّبت المبالغة في ذلك، كما في اليافطات التي تملأ الشوارع، في استياءٍ كبيرٍ لدى السلطات نفسها، كما لدى شارع لا يثق كثيراً بالبرلمانات من الأساس.
قبل أيّام، أقدم القائمون على حملة أحد المُرشّحين بنحر نحو 38 جَمَلاً بالقرب من مقرّه الانتخابي، وفعلوا ذلك في الشارع العام وعلى الأرصفة، في منظر بشع اضطرّت معه السلطات إلى استدعاء المرشح، واضطرّ جرّاءه المسؤول عن الهيئة المستقلة لإدارة الانتخابات إلى التعهّد بمنع المآدب في المقارّ الانتخابية مستقبلاً.
تكثفت في “موقعة الإبل” الحالة الانتقالية، التي تمرّ بها البلاد على صعيد المفاهيم والممارسات، فالانتخابات شكلٌ مُتقدّمٌ من العمل السياسي، ولا يستقيم أن يحدُث بأدوات تنتمي إلى عادات ما قبل الدولة، وبما أنّ موقعة الإبل قد حدثت فإنّما لتؤشّر إلى تداخل عناصر التقدّم والتراجع وصراعها في الانتخابات الحالية، التي يُعتقَد أنّها ستكون حاسمةً ونقلةً حداثيةً حقيقيةً في تاريخ الأردن.
المصدر: العربي الجديد
هل يمكن أن تقوم الإنتخابات البرلمانية بالأردن بتحديث الحياة السياسية في البلاد؟، هل يمكن بنظام ملكي بيده حل البرلمان والحكومة حينما تقرر خارج إرادته؟ الحكومة تُشكلّها الأغلبية البرلمانية وبموافقة والديوان الملكي، هل ستعود الوجوه الوطنية للصدارة؟ أم سيكون برلمان للعشائر والإخوان؟ الشعب يتهنى بالعزائم والمناسف من المرشحين.