في الاجابة على سؤال مصيري كهذا , يحاول محمد عابد الجابري العودة لتكوين العقل العربي , ذلك يستبطن أن الخلل يكمن في العقل العربي , بالتالي لابد من تشريح العقل العربي ونقده من داخله , أول خطوة في هذا الطريق هي معرفة مكونات العقل العربي , تلك خطوة جبارة بلاشك , عابد الجابري قام بمغامرة لم يسبقه إليها أحد , آخذين بالاعتبار ضخامة مشروعه , اتساع أفقه , عمق التحليل المطلوب .
في سياق ماسبق قدم الجابري مقاربته المعرفية في تحديد ثلاث مكونات للعقل العربي البيان والعرفان والبرهان , وحاول الغوص في ماهية كل مكون على حدة , ثم حاول التطرق لعلاقة تلك المكونات ببعضها البعض , تاريخيا , سياسيا , معرفيا . أيضا علاقتها بالثقافات الأخرى .
في البدء تم تحديد تكون العقل العربي في عصر التدوين والترجمة بين القرن الثاني والثالث للهجرة , وأول مكوناته هو البيان الذي يتعين معرفيا بعلوم اللغة والفقه وما يتصل بهما من أدوات كالقياس ” الاعتماد على الشاهد في معرفة الغائب ” هذه الثقافة أنتجت آلية للتفكير , المادة هنا تنتج المصنع , والمصنع بآليته يعيد انتاج المادة .
بالنسبة للعرفان فهو ليس ابنا أصيلا للثقافة العربية كعلوم اللغة والفقه بالأحرى هو ابن ثقافات شرقية تزاوجت مع الثقافة اليونانية التي تخلت عن فلسفة أرسطو تلك التي تعتمد معرفة تبدأ بالأشياء المحسوسة لترتقي بها عبر المنطق نحو المعرفة اليقينية , هكذا فعندما تخلت الثقافة اليونانية عن أرسطو , في المرحلة التي سميت بالهلنستية بعد موت الاسكندر المقدوني واستقلال بطليموس بمصر , وفي الاسكندرية خصوصا نشأت الافلاطونية المحدثة لتختلط بفلسفات شرقية غنوصية ولتتشكل الفلسفة الهرمسية التي وصفت لدى الجابري بكونها فلسفة ” العقل المستقيل ” أي ترك البرهان العقلي كطريق للمعرفة والذهاب نحو الزهد والتخلي عن الشهوات , وتصعيد الجانب الأخلاقي , والتجرد عن الدنيا , والتأمل الذاتي الذي يمكن أن يوصل للتقرب من الالهة ومنها للمعرفة الحقيقية عن طريق التوحد أو الذوبان في النهاية . ( حيث الكل في واحد).
هذه الفلسفة شكلت مع تعديلات وإضافات المكون الثاني للعقل العربي أي ” العرفان ” وهو الذي وجد مكانته في التشيع الاسلامي حين استند ذلك التشيع لفكرة الامام كخليفة للنبي لايقل عنه في علاقته بالذات الالهية وفي حلول تلك الذات فيه كما ذهب إليه غلاة الشيعة ومنهم الاسماعيلية والقرامطة . كما شاركت المتصوفة الشيعة في التأثر بالهرمسية حتى وصل بعض أعلامها كالحلاج لنظرية الحلول التام ووحدة الوجود ” أنا من أهوى ومن أهوى أنا نحن روحان حللنا بدنا ” .
وفي النهاية لدينا ” البرهان ” كمكون ثالث للعقل العربي وهو الذي تأثر بأرسطو أساسا , لكن ” البرهان ” بقي مشوشا بامتزاجه مع البيان كما في الفيلسوف والعالم ابن الهيثم , أو مع العرفان كما عند الغزالي ولم يظهر مستقلا سوى عند ابن رشد في القرن السادس للهجرة في الأندلس .
لقد اضطررت لعرض مكونات العقل العربي باختصار كما أوردها الجابري من أجل التوقف بعد ذلك قليلا عند صورة الجابري الكلية للعقل العربي في مكوناته .
فالجابري يرى الخلل في تركيبة العقل العربي هذه , الذي تغلب فيها البيان أولا ثم العرفان أما البرهان فلم يحتل مكانه سوى في الأندلس على يد ابن رشد .
يعزو الجابري سكونية العقل العربي وفقدانه الحافز للتقدم كما عند العقل الغربي لاستغراقه في البيان والعرفان , وبسبب ذلك فقد توقفت مفاعيله بعد أن تكون في عصر التدوين والترجمة في القرن الثاني للهجرة وحتى القرن الثالث .
لكن هذا التحليل البنيوي للعقل العربي يصطدم بصخرتين تفقده شيئا من تماسكه .
الأولى : أن ” البرهان ” كمكون للعقل العربي لم يكتمل سوى على يد ابن رشد في القرن السادس للهجرة .
الثانية : أن مكون ” البرهان ” مر بمراحل تاريخية وسيطة بمعنى أنه كان ينشأ شيئا فشيئا مما يناقض فكرة تمامية تشكل البرهان في ما أطلق الجابري عليه عصر تشكل العقل العربي وهو عصر التدوين والترجمة .
ومادام أن أحد مكونات العقل العربي ظل قيد التشكل حتى القرن السادس للهجرة فلم يعد ممكنا القول إن العقل العربي اتصف بالسكونية طالما كنا ننظر للعقل العربي في النهاية ككل واحد .
فإذا حاولنا وضع سردية مختلفة قليلا أمكننا القول إن العقل العربي في تشكله التاريخي لم يتوقف خلال الفترة حتى القرن السادس للهجرة , فالعقل البرهاني الرشدي تكون ليس دفعة واحدة ولكن سبقه – كما يذكر الجابري نفسه في كتابه تكوين العقل العربي – مراحل جنينية تعود حتى ابن حزم الأندلسي وابن باجه وابن الطفيل .
بل إن الجابري يذكر كيف أن ابن الهيثم العالم الموسوعي الذي قدم اسهامات هامة للغاية في حقول البصريات والرياضيات والفيزياء كان يمثل العقل البرهاني التجريبي في أعلى مراحله التي استندت أوربة إليه ليس في اكتشافاته فقط ولكن في عقله البرهاني – التجريبي.
وهو الذي عاش بين القرنين الرابع والخامس للهجرة .
هكذا تصطدم سردية تمامية تشكل العقل العربي في عصر واحد هو عصر الترجمة والتدوين ” بين 132 – 232 للهجرة وانغلاقه بعد ذلك وسكونيته وتكراريته بعقبة كأداء في عدم مطابقتها الحقائق التاريخية.
صحيح أن ” البيان ” و”العرفان” استغرقا جانبا هاما من العقل العربي لكنه ليس العقل العربي في تشكله التاريخي .
لقد اضطر الجابري من أجل تجاوز ذلك المطب إلى استبعاد المدرسة الرشدية إلى حد ما ووضعها جانبا في معظم سرديته التاريخية لكنه اضطر في النهاية لاظهارها ليس في معترك مقاربته للمكون المسمى بالبرهان ولكن على هامش تاريخية ذلك المكون وكاستثناء يؤكد القاعدة . خاصة أن ذلك العقل البرهاني لم يكتب له البقاء , مما يسر للجابري اعتباره مجرد ذروة منقطعة عن السياق بينما هو في الحقيقة في قلب ذلك السياق .
يحيلنا النقاش السابق لمسألتين : الأولى تكمن في السؤال : إذا كانت المشكلة في العقل العربي فكيف سمح ذلك العقل بالوصول لفلسفة ابن رشد المتفوقة تاريخيا , وكيف سمح بالاكتشافات العلمية ونشوء العقل التجريبي كما عند ابن الهيثم وكثيرين أمثاله ؟
الثانية : مالذي يكمن خلف انتكاسة العقل العربي نحو مكوناته التي تعاكس مفاعيل ومولدات التقدم , هذه الانتكاسة التي تشبه إلى حد كبير مصير الغزالي الذي قيل فيه إنه ابتلع الفلسفة ولم يتمكن من تقيئها والذي انحدر من ” البيان وشيء من ” البرهان ” نحو “البيان والعرفان” ثم ترك البيان نحو العرفان.
وبينما التقطت أوربة فلسفة ابن رشد لتبدأ بفضلها الاصلاح الكنسي والذي مهد للنهضة الأوربية في مواجهة الهرمسية التي سيطرت على الفكر المسيحي في العصور الوسطى .كنا نغادر تلك الفلسفة تماما لمئات السسنين , ولابد من التوقف عند تعليل الجابري لذلك ثم العودة منه للعقل العربي في تكوينه وفي تاريخانيته المنبسطة حتى عصر النهضة أو مايسمى بذلك.
الزمن الثقافي العربي ومشكلة التقدم عند الجابري
انطلاقا من إحدى تعريفات الثقافة باعتبارها ” مايبقى عندما يتم نسيان كل شيء ” وهو تعريف يقترب كثيرا من مفهوم العقل العربي , فثمة ترابط وثيق بين الثقافة كما عرفت سابقا وبين الزمن الثقافي .
مشكلة الزمن الثقافي العربي أنه لايخضع لمعايير الوقت , فهو زمن واحد تعيش فيه أزمان متعددة متجاورة .
وحدانية الزمن العربي تجعله زمنا سكونيا غير قابل للتقدم , في هذا الزمن الواحد يتعايش العصر الجاهلي مع العصر الاسلامي الأول ” عصر الرسول عليه السلام والصحابة والخلفاء الراشدين ” مع العصر الأموي والعباسي والفاطمي والمملوكي والعثماني حتى عصر النهضة “
المثقف العربي يحمل في عقله كل تلك العصور في زمن ثقافي . هو يعيشها كما يعيش عصره الواقعي لكن في عقله الذي يمكن توصيفه ب ” اللاشعور المعرفي “
هذا المثقف وصفه الجابري بالمثقف الرحال , فهو بإمكانه الانتقال من الماركسية إلى التشيع أو التصوف بدون أن يشعر بتناقض يعصف بفكره ويدخله بأزمة معرفية , لماذا؟ لأنه مازال يعيش الماضي في زمنه الثقافي .
حين يحاول نبش الماضي لايستطيع البقاء خارجه , يبتلعه التاريخ ويعيده إلى الزمن موضوع اهتمامه .
لذا ليس غريبا أن ينخرط مع علي ضد معاوية , وبدلا من دراسة ذلك الزمن دراسة معرفية ” ابستميولوجية ” تستولي عليه الايديولوجيا , بعبارة أخرى يعود ليفكر كما لو كان جزءا من الزمن الأموي أو أن الزمن الأموي مازال حيا في عقله كما هو العصر الراهن .
يخلص الجابري إلى ضرورة إعادة النظر في التاريخ الثقافي العربي ليس بالقطع مع ذلك التاريخ ولكن بتعريضه للنقد من أجل إعادة كتابته بصورة أكثر اتساقا , بحيث يستعيد البعد التعاقبي التاريخاني , ليست هذه مسألة تخص الماضي , هي بالأحرى تخص الحاضر والمستقبل , فهي التي ستفتح الطريق لتجديد العقل العربي وتخليصه من سكونيته . السكونية هنا ليست مسألة معزولة , هي ليست صفة لازمة أبدية للعقل العربي , بالأحرى هي تعكس كيف أن الماضي والحاضر يعيشان في عقله متجاورين , ليس الماضي ماض فعلا في الذهن العربي , هو يزاحم الحاضر في حضوره وكثيرا ما يختلط معه أو يطغى عليه .
ماذا يعني مثلا أن يستحضر حسن نصر الله في أي مناسبة حادثة استشهاد الحسين حتى يكاد يبكي على منصة الخطابة بينما يغرق لبنان في أزماته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي أوصلته إلى حافة الانهيار كدولة ومجتمع سوى أن الماضي يطغى على عقله بحيث يغيب الحاضر حتى يصبح الحاضر مجرد ظل باهت .
الزمن الثقافي العربي الواحد يجعل من الأزمنة الثقافية جزرا ثقافية, تتراكب بدلا من أن تنتظم في تعاقب أي أنها تعيش في فوضى تمتد عبر التاريخ حتى الآن .
مالم يصبح المثقف العربي قادرا على نقد العقل العربي من داخله ومن خارجه في الوقت ذاته , نقدا معرفيا موضوعيا بعيدا عن الأهواء فلن يكون بالامكان الخروج من أسر الماضي وفتح طريق نحو المستقبل .
في الجزء الثاني والثالث من قراءته النقدية لكتاب د.محمد عابد الجابري ” تكوين العقل العربي ” قدم مقاربة معرفية بتحديد ثلاث مكونات للعقل العربي “البيان والعرفان والبرهان” , وحاول الغوص في ماهية كل مكون على حدة، ومن ثم “الزمن الثقافي العربي ومشكلة التقدم” جعل الأزمنة الثقافية العربية جزرا ثقافية, تتراكب بدلا من أن تنتظم في تعاقب.