قراءة في رواية: العبور من الجحيم سيرة ذاتية لمعتقل

أحمد العربي

حسين جلبي كاتب كردي سوري متميز، منتمي للثورة السورية. كنت قد قرأت له كتابه المرجعي المهم : روجآفا – خديعة الاسد الكبرى… وكتبت عنه…

العبور من الجحيم – سيرة ذاتية لمعتقل . هو عبارة رواية – سيرة ، حيث يعيد الكاتب حسين جلبي سرد السيرة الذاتية ل “شبال إبراهيم” الكردي السوري أحد مسؤولي تنسيقيات التظاهر في مدينة القامشلي من بداية الثورة السورية في ربيع ٢٠١١م. حيث تم خطفه من قبل الأمن باعتقاله ونقله من فرع أمني الى آخر واستمرار اعتقاله لسنتين تقريبا ، مدونا ما مر معه. ومن ثم الافراج عنه ومغادرته وعائلته سورية إلى ألمانيا..

يعتمد سرد شبال ابراهيم على لغة المتكلم في سيرته الذاتية. حيث يبدأ من كونه أحد المسؤولين عن تنسيقيات التظاهر في مدينة القامشلي. حيث تحركت المدينة مع المدن والبلدات السورية. مطالبين بإسقاط الاستبداد والمظالم السياسية والاجتماعية والثقافية والمجتمعية. خاصة في القامشلي وجوارها، حيث يعيش اهلنا الاكراد هناك مظلومية مركبة، فهم ككل السوريين مظلومين بالاستبداد والفساد والقمع والسجون والمحسوبية … الخ. وزيادة مظلومين كأكراد سوريون في حقوقهم بالهوية السورية حيث الكثيرين المحرومين منها. هذا غير الظلم الثقافي كمكون وطني في سورية اسوة بكل مكونات الشعب السوري الاثني والديني والطائفي والمذهبي…

بعد مضي أشهر على الثورة السورية ومنذ البداية كان قرار النظام مواجهة حراك الشعب السوري بالاعتقال والقتل والعنف المسلح الذي تصاعد مع الزمن…

لذلك قرر النظام اعتقال قادة الناشطين في التظاهر في القامشلي وكان شبال واحدا منهم. حيث كان قريبا من مشعل تمو الوجه الأبرز في حراك الأكراد السوريين في القامشلي وجوارها…

تم استدعاء شبال إلى أكثر من فرع أمن في  القامشلي. هددوه وطالبوا بالتوقف عن التظاهر. واخبروه انه احد قادة التنسيقيات وأنه يقوم بالتواصل مع الفضائيات التي تنقل واقع الحراك في سورية عموما…

انكر شبال كونه أحد مسؤولي التنسيقيات واعترف انه يتظاهر سلميا. وأنه لا يتواصل مع أي فضائية …

ومع ذلك قرر فرع الأمن الجوي في القامشلي استدعاءه للتحقيق. ومن ثم اختطفه عن طريق أحد ضباطه بطريقة بوليسية. واحضره الى فرع الامن الجوي في القامشلي. وهناك تم التحقيق معه حول قيادته للتظاهر ونقله مقاطع مصورة والتواصل مع فضائيات لأجل ذلك. وطالبوه بالتعاون معهم.كمخبر على رفاقه ، وهو انكر ذلك، ورفض التعاون معهم.

 تعرض للتعذيب والتنكيل و استمر منكرا لكل التهم ولم يعترف إلا بأنه تظاهر مثله مثل غيره. كان يدرك منذ البداية أن ضعفه في التحقيق وبتأثير التعذيب. واعترافه على دوره في التنسيقيات سيجعلهم يطالبونه بما هو أكثر. حول أسماء من معه وتكتيكاتهم وخططهم. مما يجعل تهمته خطيرة. ومما يورط الكثيرين الذين يعتقلون ايضا. لذلك قرر الصبر وتحمل التعذيب كل الوقت…

عندما لم يقدم شبال المعلومات المطلوبة منه. قررت قيادة الامن الجوي نقله الى المركز في دمشق للتحقيق معه هناك. وتم نقله إلى فرع مخابرات دير الزور للأمن الجوي. حيث أعادوا التحقيق معه بمزيد من التعذيب والتنكيل. لم يتركوا طريقة لم يمارسوها معه. الضرب بالسوط. بوضعه بالدولاب والاذلال والاهانة، وبالكهرباء بالتجويع بحشرهم بأعداد كبيرة في زنزانات صغيرة. تجعلهم يتناوبون في النوم والوقوف. ومن ثم تم نقله إلى فرع الأمن الجوي في مطار المزة العسكري. وهناك تلقى تعذيبا أسوأ. تنوع ومزيد من الضغط والإكراه والإذلال…

التقى شبال في تنقلاته من فرع أمن إلى آخر الناشط حسين عيسو وهو من قادة المتظاهرين بالقامشلي ايضا. في العقد السادس من عمره. تبادل مع شبال التحدث بأحوال الاعتقال وظروف الثورة السورية. وقدم لشبال النموذج الأصيل المضحي للمتظاهرين. صبرا و نضجا وفهما واستعداده للتضحية…

في الامن الجوي في مطار المزة تم تعذيب شبال إلى درجة كادت تودي بحياته. لعله يقدم معلومات يستفيد منها الأمن. لكنه بقي على موقفه الاولي ووصلوا إلى قرارات بحقه لم يدركها هو. فما كان منهم إلا أن حولوه الى فرع أمني في باب توما. وكأن التحقيق قد انتهى معه ومع آخرين كانوا معه. وانتظروا أن يعرفوا ما هو مصيرهم…

لقد كان مهمة التعذيب وتنوعه ودرجة الإذلال فيه. في مرحلة التحقيق هي دفع المعتقل أن يقول ما عنده من معلومات. وقد ينهار البعض  ويقدم عن نفسه اعترافات لما لم يقم به…

عايش شبال وآخرين معه أشكال من التعذيب التي لم تكن تخطر في باله من شدتها وسوئها وتنوعها. فهناك الضرب بالعصا او الكبال على تنوعها. والكهرباء والدولاب. فقد كان يتم الاستدعاء للتحقيق في أي وقت وكان يتم تطميش المعتقل وتكبيل يديه. وكان التحقيق يستمر لساعات أكثرها تعذيب وكان يأتي أغلب المعتقلين محملين في بطانيات وكان البعض يموت من شدة التعذيب بعد ذلك. وكان البعض يصاب بالانهيار النفسي وقد يصل الى الجنون.

 وفوق ذلك كانت ظروف الاعتقال اسوأ من التعذيب والتجويع سمة عامة وكذلك وضع المعتقلين في زنزانات بأعداد كبيرة لا يستطيعون فيها التحرك والنوم إلا بالتسييف وبالتناوب. كذلك اخراجهم الى التواليتات. تحت الضرب والإذلال وبوقت لا يكفي لشيء. أما الحمام فقد كان تعذيب بشكل آخر دقائق قليلة غير كافية لأي اغتسال. على المعتقل أن لا ينظر لسجانه مطلقا. منخفض الرأس دوما وان يعطوا ظهرهم للباب واقفين عندما يفتح السجانين لهم الباب لأي سبب كان. كما كانت الاساءة اللفظية حاضرة كل الوقت. تطال الأهل والعرض وكل مقدس عند المعتقل…

التقى شبال بالكثير من الناشطين من بلدات ومدن سورية وخاصة من شباب داريا الذين تفاعل معهم كثيرا و شكلوا شبكة أمان نفسي لبعضهم والتعاضد والتآزر فيما بينهم…

بعد انتقال شبال الى باب توما تم نقله مع آخرين الى معتقل آخر لم يعرف ما اسمه إلا بعد مضي وقت طويل. انه معتقل صيدنايا .

لقد كان الاستقبال في صيدنايا مختلف جدا. هنا تحول الهدف من الاعتقال ليس الحصول على معلومات، بل  التعذيب والإذلال والاماتة البطيئة بكل الطرق المدروسة. ضرب بشكل جماعي ومسعور وبكل الأدوات. وكذلك الفلقة والدولاب. والتي ساعد على زيادة سوئها خلفية السجان النفسية المرضية أو الطائفية “الساحل” على حد تعبير السيرة. وخاصة أن الصلاحيات المطلقة لهؤلاء السجانين في تعاملهم مع معتقليهم جعلهم كلاب مسعورة…

لقد وضعوا النعتقلين كمجموعات في عنابر لها مطلات من الأعلى يتواجد بها أحد السجانين. هنا كل وقت انت مهدد ان تدعى لتنال التعذيب. لمجرد أن يريد السجان ذلك. هناك تفنن مرضي في ذلك. وهناك تقليد يومي ان يخرج كل يوم اثنين من العنبر “المهجع” لينالوا التعذيب. ومع الزمن توافق المعتقلين في كل عنبر على اندفاع من يفدي بنفسه المهجع كله. بحيث يتم الاتفاق على اثنين يتبرعوا كل يوم ليدخلوا في التعذيب. كان التعذيب قاسيا الى درجة قد يعود المعذب معطوبا في احد اعضائه…

التجويع تعذيب آخر. وفوق ذلك يأتون بالطعام على قلته وسوئه. ويسفحوه في أرض المهجع وقد يبولون عليه. ثم يطالبون المعتقلين أن يجمعوه لعلهم يسدون جوعهم الذين نال منهم ببعض لقيمات. قد يحرمونهم من الطعام. ولا احد يعترض. وقد يحضرون لهم أدوات التنظيف وصابون الحمام بأموالهم الموضوعة بالأمانات. ومن ثم يرمونها بالأرض ويدوسوها ويحولوها الاوساخ تحتاج من ينظفها…

نمط العيش هنا هو التعذيب والإذلال والإماتة البطيئة ولا مشكلة ان مات أحدهم. لكنهم كانوا حريصين أن لا يموت المعتقل. وكأنه ان مات ارتاح مما يعانيه وهذا يزعج السجان ومسؤوليه. هذا غير احتمال أن يحتاج السجان لهذا المسجون لاحقا. وبالتالي يجب أن يعذب ويذل ويجوع. لكن أن لا يموت كما حصل مع شبال نفسه…

علم شبال في المعتقل بموت مشعل تمو وكان ذلك طعنة في قلب شبال حيث يعتبر مشعل تمو أباه الروحي. وزاد على معاناته عدم معرفة مصير حسين عيسو بعد وصوله إلى معتقل صيدنايا…

استمر الحال هذا على شبال في معتقل صيدنايا لأشهر طويلة. ولا جديد إلى أن بدأ يتم استدعاءات لأسماء بعينها يأخذهم السجانون ومن ثم يعيدونهم. لقد علموا انوهناك محاكمات ميدانية صورية  تستمر لدقائق بالكاد يتكلم المعتقل عدة كلمات ثم يطرد دون معرفة حكمه الذي سيناله. واستدعي شبال وتمت محاكمته. انكر اي نشاط غير التظاهر. وأنكر أنه مسؤول في التنسيقيات وأنكر أي ارتباط مع أي طرف خارجي … وتم اعادته الى المعتقل…

بعد استدعاء شبال الى المحكمة الحكم عليه خفت ظروف القهر والشدة عليه وعلى غيره في المعتقل. وبدأت تأتي الزيارات لكثير من المعتقلين. وكان يحضر الأهل المال لأولادهم والملابس. وكانوا بأمس الحاجة للملابس لمواجه الطقس البارد الذي أكل من أجساد المعتقلين. وهكذا حصل شبال على زيارة أخيه لأكثر من مرة كان يحضر له المال والملابس. وكان يعطي رفاقه بالمعتقل مما يأتيه. وكلهم كانوا كذلك…

لم تخفف ظروف الإذلال والتعذيب رغم الزيارة. من السجانين الموتورين الذين يتلذذون بالتفنن بتعذيب المعتقلين. حيث تم ضرب شبال بعد زيارة أخيه له على يده وتم كسرها…

حصل مع شبال ما جعله يستغرب فقد زاره أحدهم يريد أن يشكل معه حزب معارض تحت رعاية النظام. وقال انه مبعوث من رأس النظام شخصيا. وكان لذلك دور في التسريع في الإفراج عن شبال. فقد تم الإفراج عنه بعد زيارة ذلك الشخص بفترة قصيرة. لم يستوعب شبال ذلك ولم يصدق بداية. وكان يخاف أن يتم استدعاؤه مثل آخرين ومن ثم يتم إعدامهم كما حصل مع الكثيرين. ولم يصدق انه افرج عنه إلا بعدما خرج فعلا والتقى بأخيه وتوجه الى القامشلي بالطائرة. لأن الانتقال بالبر أصبح مستحيلا. لقد أصبحت سوريا موزعة بين أكثر من قوة على الأرض. الجيش الحر والنصرة وداعش والنظام يتقاسمون السيطرة في سورية كان ذلك اوائل سنة ٢٠١٣م…

علم شبال أنه كان محكوما ميدانيا بالسجن لخمسة عشر عاما . إذن لماذا أطلق سراحه؟!!. هذا ما سيطر على ذهنه…

وصل شبال إلى القامشلي والتقى بأهله. كان سعيدا بعودته من الموت تقريبا ليكون بين أهله وناسه. ولكن الواقع المعاش في القامشلي لم يكن كما يحب. رغم استقباله من أهلها استقبال الأبطال. لكن وكما قال له مبعوث رأس النظام. ان السلطة قد احضرت ال ب ك ك حزب العمال الكردستاني وممثلها في سوريا حزب الاتحاد الديمقراطي الـ ب ي د وسلمته السلطة الامنية والعسكرية في القامشلي وفي مناطق التواجد الكردي حتى تخمد الثورة هناك…

وسرعان ما تم استدعاء شبال إلى فرع الأمن الجوي في القامشلي ذاته الذي اعتقله قبل حوالي السنتين والتقى برئيس الفرع نفسه الذي اعتقله سابقا. وكان بصحبة ذلك الشخص الذي يريد تشكيل حزب معارض تحت سيطرة النظام لكي يدخل في التفاوض القادم بين النظام والمعارضة…

استقبل رئيس الفرع شبال بالاحضان وكلفه بالمطلوب منه بصحبة ذلك الرجل…

عندها أدرك شبال ان اطلاق سراحه له ثمن. وانه قد اعتقل في المرة الماضية وأنقذه الله من الموت والسجن المديد في الاعتقال السابق. لذلك قرر أن يهرب وعائلته الى المانيا وبالفعل وصل الى هناك سالما مع عائلته…

في ألمانيا وجد أمامه مفاجأة فقد التقى بذلك المخبر الذي سلمه لضابط الأمن الذي اعتقله في القامشلي قبل سنتين. قبض عليه بمساعدة أصدقائه وسلمه الى المسؤول الألماني. الذي أفرج عنه قائلا ليس هو الشخص الذي سلم شبال للأمن… انه عراقي لاجئ…؟!.

وهذا سؤال جديد داهم ذهن شبال. هل ما حصل في سورية محدود بدور السلطة السورية وحلفائها فقط؟. أم هي لعبة عالمية اكبر من معرفة شبال ومن سورية كلها..

هنا تنتهي الشهادة.

في التعقيب عليها اقول:

الشهادة تتحدث عن نفسها…

الثورة السورية قام بها كل مكونات الشعب السوري ومنهم أهلنا الاكراد في القامشلي والمحافظات المجاورة. وان هذه الثورة تم اجهاضها. باعتقال الناشطين وقادتهم مثل شبال ابراهيم وحسين العيسو. واغتيال البعض مثل مشعل تمو الشهيد … ومن ثم تم استدعاء ال ب ك ك وال ب ي د ل يستلموا السلطة والقوة في الشمال الشرقي السوري ليكونوا اسوأ من النظام في القمع والتنكيل بكل مكونات الشعب السوري هناك وعلى رأسهم الاكراد والعرب. الشعب وقواه السياسية والمجتمعية…

السيرة تدخلنا الى عمق آلة التعذيب والاعتقال والتنكيل في معتقلات وسجون النظام. بالتناغم مع قتل الشعب السوري وتشريده وتدمير البلاد. وإطلاق أدوات النظام القاعدة وداعش لتكمل تدمير سورية. بعدما استعان النظام بالإيرانيين والروس والمليشيات الطائفية حزب الله وغيره حتى تفتك بالشعب السوري. ثم تتحول الى قوى مستعمرة ومقسمة لسورية. هذا غير دخول الامريكيين والتحالف الدولي تحت حجة محاربة داعش معتمدة على ال ب ي د وقوات سورية الديمقراطية. لتصنع حالة استعمارية جديدة شمال شرق سورية وشرق الفرات . حيث يستنزف الامريكان النفط والغاز السوري. وتصنع ال ب ي د كيانا انفصاليا في جسم سورية المثخن بالمحتلين والاعداء…

ماذا بعد:

هذه السيرة مهمة. هي شهادة للتاريخ عن واقع يجب أن يبقى حاضرا في ذاتنا وفي ذاكرتنا. ليكون جزء من مرافعة محاكمة الحكام الظالمين ومن والاهم…

 ولو بعد حين…

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. رواية “العبور من الجحيم سيرة ذاتية لمعتقل” للكاتب والروائي السوري الكردي “حسين الجلبي” قراءة جميلة وتعقيب موضوعي من قبل الكاتب “احمد العربي” الرواية سيرة ذاتية للمعتقل لـ “شبال إبراهيم” الكردي السوري أحد مسؤولي تنسيقيات التظاهر في مدينة القامشلي من بداية الثورة السورية في ربيع ٢٠١١ وبعد الإفراج عنه من نظام طاغية الشام ومغادرته وعائلته سورية إلى ألمانيا .

زر الذهاب إلى الأعلى