ينعم العراقيون حالياً بدرجة من حرية الصحافة لا نظير لها في العالم العربي. ومع ذلك، بينما تجهد معظم الدول المجاورة تحت وطأة الحملات الدعائية الحكومية، يخوض العراق معركته الخاصة بوجه خصمٍ إعلامي مختلف هو: دعاية الميليشيات ضد الدولة. وعند مشاهدة القنوات التلفزيونية العراقية، من المرجح أن يخرج المشاهد بسوء فهم عن هوس الجمهور بـ”مقاومة أمريكا” وإخراج 5000 جندي أمريكي متمركزين في البلاد للمساعدة في محاربة تنظيم «الدولة الإسلامية». ومع ذلك، فإن حفنة فقط من هذه الشبكات التي يفوق عددها المائة، تعكس ما تكشفه استطلاعات الرأي والمحادثات الشخصية مع العراقيين عن أولويات الشعب الحقيقية، وهي: التخفيف من حدة تأثير وباء “كوفيد-19″، والنجاة من الأزمة المالية، والتمتع ببضعة ساعات إضافية من الكهرباء وسط حرارة الصيف الحارقة. وفي خضم هذا “النشاز” الإعلامي للميليشيات، لا يُسمع صوت الدولة العراقية على الإطلاق.
وبالفعل، تم تسهيل الدور الهائل الذي تؤديه الميليشيات حالياً في العراق بواقع الوجود المطلق لوسائل الإعلام التلفزيونية والإذاعية ووسائل التواصل الاجتماعي التي تُشيد بفضائل هذه الجماعات المسلحة، وتتجاهل سلوكها المزعزع للاستقرار، وتزاحم الأصوات القومية العراقية وتُحبط أي أصوات معارضة. على سبيل المثال، قبل اغتيال المحلل العراقي هشام الهاشمي في 6 تموز/يوليو، تم القيام بحملة مكثفة لتدمير سمعته، ووصفه من قبل منافذ إعلامية مختلفة بأنه عميل أمريكي، وتوزيع قوائم سوداء تضمنت اسمه. وبالمثل، أدانت أجهزة الإعلام التي تديرها الميليشيات وبعض الأحزاب السياسية بشكل منهجي المتظاهرين الذين بدأوا في الاحتجاج على الفساد والانتهاكات الحكومية الأخرى في تشرين الأول/أكتوبر الماضي. ومن خلال تسميتهم “أبناء السفارة [الأمريكية]” وأسماء مهينة أخرى، سعت هذه المنافذ الإعلامية إلى تبرير حملة القمع التي أسفرت عن قتل أكثر من 600 متظاهر وتشويه آلاف آخرين. وإذا تُركت هذه البيئة الإعلامية دون مراقبة، فستجعل من شبه المستحيل على الحكومة الجديدة لرئيس الوزراء مصطفى الكاظمي كبح جماح الميليشيات أو معالجة المشاكل الملحة الأخرى في البلاد بشكل ملائم.
المشهد الإعلامي الذي تهيمن عليه الميليشيات
خلقت السياسات التنافسية الشديدة في العراق مشكلة إعلامية: فالجمهور الذي ازداد تهكّماً إزاء الصحافة أصبح ينظر إلى الكثير من الصحف والمجلات في البلاد على أنها ليست أكثر من أداة تشهير حزبية. وقد أدى هذا الشعور إلى تفاقم عدم الثقة الشعبية بالفصائل السياسية إلى درجة أدت إلى تعرض العديد من مكاتب الأحزاب في جميع أنحاء البلاد للنهب خلال احتجاجات العام الماضي.
ومع ذلك، تستمر وسائل الإعلام الحزبية في [أعمالها الدعائية] لأن الفصائل السياسية تعتبرها أساسية لتغذية شبكات المحسوبية التابعة لها والتمهيد للدورات الانتخابية. ولم تعد الأخبار ذات الأهمية عتبة التغطية الإعلامية على هذه الشبكات، ناهيك عن أي شعور بالمسؤولية عن الإبلاغ عن جهود الدولة لتنفيذ المهام الأساسية مثل ضمان السيادة الإقليمية واحتكار السيطرة على الأسلحة العسكرية. ففي الشهر الماضي، على سبيل المثال، قام “جهاز مكافحة الإرهاب” العراقي بخطوة غير مسبوقة في مواجهة ميليشيا قوية مدعومة من إيران مباشرة، بمداهمته قاعدة تديرها المنظمة الإرهابية «كتائب حزب الله» واستيلائه على أسلحة تستهدف المركز الحكومي. ومع ذلك، كان رد وسائل الإعلام المحلية صمتاً افتراضياً، سواء كان ذلك بسبب الخوف أو مؤامرة رهيبة بين النخب الحزبية التي تفضل بيئة خارجة عن القانون يمكن أن [تسهّل] استمرار فسادها.
وفي الوقت نفسه، تُعتبر وسائل الإعلام الحكومية في حالةٍ يُرثى لها. فعندما ألغت السلطات الأمريكية وزارة الإعلام التي كانت قائمة في عهد صدام في أعقاب الغزو الأمريكي عام 2003، تم استبدالها بـ “هيئة الاتصالات والإعلام” التي استولت عليها الأحزاب السياسية نفسها التي أتقنت فنّ تقسيم الغنائم الحكومية الأخرى. وتوظف الهيئة حالياً أكثر من 5000 موظف وتشرف على عدد من المنافذ الإعلامية مثل جريدة “الصباح” وتلفزيون “العراقية”. ومع ذلك، يبدو أنها بعيدة تماماً عن مستوى وسائل إعلام الميليشيات الأكثر عدداً، ويبدو أحياناً أنها تنسى مَن يُفترض أن تخدمه. وفي نيسان/أبريل، على سبيل المثال، قطعت قناة “العراقية” برامجها العادية لكي تبث نقل مباشر لخطاب استمر خمس وعشرون دقيقة ألقاه زعيم ميليشيا «عصائب أهل الحق»، قيس الخزعلي، هاجم فيه الولايات المتحدة والحكومة العراقية على السواء.
وينحدر رئيس الوزراء الكاظمي من خلفية صحفية وقد أحضر معه فريقاً إعلامياً قوياً عندما تولّى منصبه في أيار/مايو. ولكن من الضروري أن تبذل حكومته المزيد من الجهد لتذكير وسائل الإعلام الحكومية بالجهة التي تمثّلها وتوسيع السمات الرئيسية لأنشطة وسائل الإعلام الحكومية. وبالنسبة للعديد من العراقيين، عمل البرنامج الأسبوعي الساخر لـ أحمد البشير على تعزيز القومية العراقية أكثر مما فعلته وسائل الإعلام الحكومية.
تمويل دعاية الميليشيات وتنسيقها
على الرغم من أن وسائل الإعلام التابعة للميليشيات متنوعة وتنافسية أحياناً، إلا أنها تتشابه في طريقة عملها وتعمل عموماً بدأب لتحقيق الأهداف العامة نفسها، وهي: التصدي لمساعي الدولة الرامية إلى الحد من الطائفية، وتطبيع الولاء لإيران، وشيطنة أي اتصالات مع الغرب. وقد دفع هذا التنمر بالعديد من المسؤولين العراقيين إلى تقليل اتصالاتهم مع المسؤولين الأمريكيين.
وخلال الحملة الانتخابية التي جرت عام 2018، شدّدت هذه الآلة الإعلامية على دور الميليشيات في الانتصار العسكري ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» بينما قلّلت من أهمية الدور الحيوي الذي تلعبه قوات الأمن العراقية وشركاؤها الدوليون. وفي المقابل، لم تفعل وسائل الإعلام الحكومية شيئاً يُذكر لتعزيز الدور البطولي الذي اضطلع به “جهاز مكافحة الإرهاب” والهيئات الأخرى. ولم تساهم الاحتجاجات الجماهيرية وجائحة “كوفيد-19” سوى في تسريع هذا الاتجاه، حيث أغلقت الميليشيات مكاتبها ولكنها ضاعفت حضورها الإعلامي.
ومن ناحية التمويل، منح قانون «هيئة الحشد الشعبي» لعام 2016 غطاءً قانونياً للميليشيات الجامحة وأتاح لها الوصول إلى إيرادات الدولة. وبحلول عام 2019، وصلت الميزانية التشغيلية لـ «قوات الحشد الشعبي» إلى 2,16 مليار دولار، بالإضافة إلى الموارد الإضافية التي كانت الميليشيات تستغلها عبر اتصالاتها الحكومية الجديدة والتهريب عبر الحدود.
وتلعب إيران أيضاً دوراً جوهرياً في أنشطة الميليشيات الإعلامية. فبالإضافة إلى توفير الأموال الأولية للعديد من المنافذ الإعلامية المعنية، فإنها تساعد على تنسيق رسائلها من خلال عقد اجتماعات منتظمة مع مدراء الشبكات العراقية في مقر “اتحاد الإذاعات والتلفزيونات الإسلامية” في طهران. وفي أيار/مايو، على سبيل المثال، تفاخرت “وكالة أنباء الجمهورية الإسلامية” (“إيرنا”) بأن عشرين قناة عراقية بثت خطاب المرشد الأعلى علي خامنئي بمناسبة “يوم القدس”. وفي كل مرة تبث فيها قنوات الميليشيات مثل هذا المحتوى، تقوم مجموعة من “جيوش التواصل الاجتماعي” بنشرها عبر منصات متعددة، بدفعها مبالغ كبيرة لترويجها على الإنترنت.
ومن الآثار الضارة الأخرى لهذه الممارسات تحدي السلطة الدينية والقومية لآية الله علي السيستاني والترويج لروايات خامنئي. ويشمل ذلك التقليل من فتوى السيستاني من عام 2014 التي دعا فيها العراقيين إلى “عدم تشكيل ميليشيات مسلحة” وحثهم بدلاً من ذلك على الانضمام إلى قوات الأمن الرسمية. وعلى حد تعبيره، “يجب أن تكون كل الأسلحة تحت سيطرة الحكومة العراقية”.
قائمة مهام العراق
لدى حكومة الكاظمي رسالة قومية قوية تلقى صدىً لدى الشعب، إلا أنها لن تكون ذات فائدة كبيرة إذا لم يتم إيصالها بشكل جيد أو إذا أغرقتها آلة الدعاية للميليشيات. وسبق أن أظهرت وسائل الإعلام المعادية للكاظمي أنها قادرة حتى على إخراج جهود الإصلاح المتواضعة عن مسارها – على سبيل المثال، أثارت مؤخراً احتجاجاتٍ شعبية ضد تدابير تقشفية حسنة النية. ولا يؤدي شبح الاحتجاجات التي لا تنتهي والاحتجاجات المضادة سوى إلى تفاقم حالة عدم الاستقرار في العراق وتفضيل أحزاب الميليشيات المسلحة.
ولذلك فإن تحديد التوقعات الصحيحة أمر بالغ الأهمية. فلا يمكن للحكومة أن تستمر في الإفراط في تقديم الوعود، والفشل في الوفاء بها، وإرسال إشارات متضاربة، كما حدث عندما اعتقلت مقاتلين من «كتائب حزب الله» ثم أفرجت عنهم بشكل مخزٍ ووضعتهم في عهدة الميليشيات.
وفيما يتعلق بمكافحة الحملات الدعائية، يملك الكاظمي صلاحية تنفيذية واسعة لتطبيق القوانين، وأنظمة الترخيص، والتدقيقات المالية التي يمكن أن تحد من التحريض الذي تمارسه العديد من وسائل الإعلام التابعة للميليشيات والأحزاب السياسية. ويشمل ذلك مقاضاة خطابات الكراهية وفقاً لقوانين مكافحة الإرهاب العراقية وغيرها من أحكام قانون العقوبات. وتشمل الإصلاحات الجوهرية الأخرى تحسين آلية تنظيم الشؤون المالية للأحزاب السياسية والميليشيات وتكتّلاتها الإعلامية.
بالإضافة إلى ذلك، يجب على الكاظمي أن يقضي على الفساد في وكالات الإعلام الحكومية، من خلال استبدال المسؤولين الموالين للفصائل التي وظّفتهم وليس للعراق (على سبيل المثال، المسؤولون الذين يديرون “هيئة الاتصالات والإعلام” هم أشخاص من حقبة المالكي من “حزب الدعوة الإسلامية”). ومن الضروري أيضاً أن تتوقف وسائل الإعلام الحكومية عن التهرّب من وصف الهجمات الصاروخية والاغتيالات التي تقوم بها الميليشيات بالأعمال الإرهابية. وأخيراً، يجب السماح بإعادة فتح المكاتب الإعلامية التي صدر أمر بإغلاقها خلال احتجاجات العام الماضي، بما فيها شبكة “الحرة” التي تموّلها الولايات المتحدة والشبكة الكردية العراقية “راديو وتلفزيون ناليا”.
قائمة مهام واشنطن
على الرغم من أنه بجب على الحكومة الأمريكية أن تبقى داعمة بشكل قاطع وصريح لحرية التعبير والصحافة في العراق، إلا أنها لا تزال قادرة على مساعدة بغداد على مواجهة دعاية الميليشيات، ودعم سيادة العراق، وحماية العلاقات الأمريكية -العراقية. إن القيام بذلك مهم بشكل خاص حالياً حيث يتم إعادة ضبط الحوار الاستراتيجي الثنائي.
ويمكن أن تكون المساعدة الأمريكية فعالة بشكل خاص على وسائل التواصل الاجتماعي. وفي هذا الإطار، ينبغي على السلطات الأمريكية والعراقية تنسيق جهودهما بسرعة وبشكل قاطع من أجل نفي الروايات الزائفة التي تنشرها الميليشيات، وفضحها على الإنترنت، والإبلاغ عن الحسابات المرتبطة بها بهدف إغلاقها. على سبيل المثال، يحتفظ الخزعلي بحساب نشط على موقع “تويتر” على الرغم من إدراجه على قائمة الإرهاب الأمريكية، مثله مثل العديد من قادة الميليشيات الآخرين الذين استخدموا هذه المنصة [الإعلامية] للدعوة لشن هجمات على أهداف أمريكية وعراقية.
ويقيناً، أنفقت الولايات المتحدة فعلاً الكثير من رأس المال والجهد لتنمية القدرات والمهارات الإعلامية في العراق، لكن معظم هذه الجهود تحوّلت إلى وسائل الإعلام التابعة للأحزاب والميليشيات التي تدفع رواتب أعلى وتوفّر الحماية. وفي ظل البيئة الراهنة، قد تتمثل المقاربة الأفضل في زيادة عدد الوقائع والأخبار الموثوقة التي تبثّها وسائل الإعلام التي تموّلها الولايات المتحدة للجماهير العراقية. وفي هذا الصدد، كانت قناة “الحرة” فعالة بشكل متزايد، تماماً كفعالية شبكة “ارفع صوتك” في مواجهة خطابات الكراهية الصادرة عن تنظيم «الدولة الإسلامية»، وستكون ملائمة بشكل جيد لتحدي خطابات الميليشيات. يجب أن يكون المسؤولون الأمريكيون أكثر استباقية وفعالية أيضاً في الظهور على وسائل الإعلام العراقية والتحدث مع الجمهور مباشرة. وأخيراً، يجب على واشنطن تقديم المشورة الفنية لفريق الكاظمي بشأن إعادة تنظيم وسائل الإعلام الحكومية، مثل تجديد صورة قناة “العراقية” على مثال شبكة “سي – سبان”.
بلال وهاب هو “زميل واغنر” في معهد واشنطن.
المصدر: معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى