بناء الدولة الحديثة وأجهزتها، شكل غالب الدرس التاريخى والأكاديمي حول التحديث السلطوى للقيم، وبناء المؤسسات، وخاصة الجيش، والتعليم المدنى، واستمرارية ازدواجية النظام التعليمى بين المدنى والدينى، وهى الثنائية التى تركت العديد من آثارها على تكوين العقل المصرى شبه الحداثى، والنقلى معاً، وأيضا شكلت المناورات، والتناصات بين التقليدي والمحدث عقبة لاسيما بين القيم الدينية النقلية الوضعية، وبين تكييف بعض منظومات الأفكار شبه الحداثية مع الموروث الدينى، على نحو أثر على مسارات الثقافة الوطنية فى مصر. لا شك أن الدولة الحديثة، وحركة البعثات والجيش، وتشكل مثقف الدولة ابن البعثات إلى فرنسا، ساهما فى بناء أجهزة الدولة وإدارتها.
مسار نشأة المثقف فى التقاليد الدولتية، والسياسية والبيروقراطية المصرية، اختلف عن نشأته الأوروبية منذ قضية داريفوس زائعة الصيت، وميلاد المثقف النقدى الأوروبي الحداثى، ودوره ووظائفه فى النقد، وتفكيك وهدم أبنية الأفكار الشائعة فى المجتمع أيا كانت مصادرها، ومجالاتها والتأسيس لما بعد من أبنية وعوالم وأفكار ومسارات مختلفة. المثقف المصرى شبه الحداثي كان غالبهم من بناة الدولة الحديثة، وفى ذات الوقت كان بعضهم ناقدا لها، وللمجتمع معًا، ومن ثم واجهت بعضهم قوة جهاز الدولة وسلطاتها، وأيضا الاتجاهات السائدة وبنيات الثقافة الدينية النقلية، والثقافة الشعبية ومحمولاتها من التدين الشعبى الوضعى، وبعض من عوالمه الميتاوضعية، والميتافيزيقا الشعبية، التى تنطوى على معتقلات للعقل العام فى إطار النزعات القدرة والجبرية، على نحو يشلُ ويعيق إمكانيات ميلاد الفرد الحر، والتدين الفردي فى مواجهة تدين الجموع الغفيرة، ومحمولاته الجبرية!
من هنا لجأ بعضُ المفكرين شبه الحداثيين إلى المناورة بين الثنائيات الضدية -التقليد والتحديث، التقدم والتخلف، والإصالة والمعاصرة…الخ- على نحو أدى إلى الدوران، فى دوائر شبه مغلقة، وهو ما أثر على عمليات بناء الجسور، بين الثقافة الشعبية، وبين الثقافة الحداثية الوافدة. ركزت غالبُ النخب السياسية، وأسرة محمد على، وأجهزة الدولة فى المرحلة شبه الليبرالية، على التحديث السلطوى للدولة، والقيم لا سيما السياسية فى حدود توازنات القوى فى الدولة، والنخبة الحاكمة، وبعض المثقفين من أبناء جهاز الدولة.
التحديث السلطوى لجهاز الدولة، والتعليم المدنى، وتوظيف المثقفين أدى إلى عدم حسم الثنائيات الضدية إلا قليلاً من بعضهم، خشية من رفض الجموع الشعبية الغفيرة! من هنا نشأت الثقافة الحديثة حول الدولة، مع بعض التمرد للعقل النقدى شبه الحداثى لها، وللثقافة النقلية الدينية الوضعية، والثقافة الشعبية.
لا شك أن الحركة القومية المصرية الدستورية الساعية للاستقلال، ودولة القانون والحريات العامة والشخصية وتشكل الطبقة الوسطى – فى المدن الكوزموبولتيانية -، ودور المحامين فى إطار الحركة الوطنية الكبرى عام 1919، أدي إلى تبلور بعض النظام شبه الليبرالى، وثقافة الحريات العامة، ودولة القانون فى ظل الكولونيالية البريطانية، والقصر!
ساهم النظام شبه الليبرالى، والثقافة الكوزموبوليتانية فى انفتاح السوق الثقافى على الفكر الأوروبي والتعددية، والجدل العام، والسجالات، وطرح بعض هالأفكار المستعارة من بعض المتون الفلسفية، والسوسيولوجية، والسياسية الغربية. لا شك أن البيئة الثقافية والسياسية وانفتاحها على التعدد، وقبول الآخر، والوحدة الوطنية، أدت إلى تحولات ثقافية وقيمية كرست لمفهوم الاندماج القومى، خاصة مع الصحافة، والسينما، والمسرح، والفنون التشكيلية، والحركية الثقافية التى تمركزت على الحياة المصرية، وعلى تكريس مفهوم القومية المصرية، تجاه بقايا الموروث الثقافي المملوكي والعثمانى، ومن التناقضات بين مفهوم الجامعة الإسلامية والقومية المصرية، والجدل مع بعض أفكار الفكرة العربية الجامعة.
لا شك أن الصحافة، والسينما، والمسرح ساهما بدور فعال -من خلال بعض المصريين والشوام والمتمصرين- فى التأثير على الأدب المصرى، وخاصة الشعر والنقد وظهور الرواية كتمرينات أولية، ثم شرعنة نجيب محفوظ لها فى الأدب العربى، وهو ما حفز على تطوير النقد من الانطباعات المرسلة، إلى بعض من الدرس النقدى في الجامعة، والتعليم في فرنسا.
الدور الثقافى والسياسى المصرى وثقلها الثقافي التاريخي فى المنطقة مرجعه البيئة السياسية والاجتماعية والثقافية الحاضنة للشوام، والسودانيين، والمتمصرين من الأجانب، وتفاعلهم مع المصريين وثقافتهم، وأيضا تمثل الحياة الثقافية والصحفية والفنية للأشقاء العرب، ومبادراتهم فى إنشاء الصحف والمجلات – الأهرام ودار الهلال على سبيل التمثيل- وتبنى الحركة الأدبية المصرية للآدب فى المشرق العربى نشراً، ونقداً وحضوراً فاعلاً.
التفاعل الثقافى والاجتماعى بين المركزية المصرية، وبين منطقة الشام، والسودان، والعراق، وأوروبا شكل أحد روافد التجديد فى الثقافة المصرية المدينية، وأدى ذلك إلى حركية نسبية للعقل المصرى شبه الحداثى، ومن ثم العقل العربى.
ثمة دور بارز وغير مدروس على نحو كافٍ للدور المركزي الذي لعبته الثقافة القانونية الحداثية المصرية فى الاندماج القومي المصرى، من خلال الدور الذي لعبته مدرسة الحقوق الفرنسية، وكلية الحقوق فى استمداد الُبنى النظرية، والتطبيقية للقوانين الفرنسية، والبلجيكية والايطالية، وفق الثقافة القانونية اللاتينية، فى بناء دولة القانون، والحق، ومبادئ المساواة بين المواطنين دون تمييز، والحريات. الدور الذي لعبته الجماعات القانونية المصرية- الفقه، والجماعة القضائية، وجماعة المحامين- قام بتطبيع وتكييف الأنساق القانونية المستعارة من المتون القانونية اللاتينية مع الواقع الاجتماعى المصرى، وخصوصياته.
استطاعت الجماعات القانونية، أن تقيم جسراً بين القانون الأوروبى، وبين الفقه الإسلامى، واستنباط وتوظيف وتطوير بعض قواعده، ودمجها لاعتبارات تتصل بعموميته، ومثال ذلك نظرية التعسف فى استعمال الحق، على نحو ما قام به السنهورى فى التقنين المدنى المصرى الجديد، والمعدلات نهاية عقد الأربعينيات من القرن الماضي.
لعبت الجماعة القضائية المصرية أدواراً هامة فى تأصيل وتكييف القواعد القانونية المختلفة -أيا كانت فى القانون الخاص والعام- مع القيم المصرية، والأهم الدافع عن الحقوق والحريات العامة والفردية، وصونها فى المرحلة شبه الليبرالية. كانت جماعة المحامين ذات دور بارز فى الحياة القانونية، من خلال دورها فى الدفاع عن الحقوق، وتحقيق متطلبات العدالة الإجرائية والموضوعية أمام أجهزة الدولة وسلطاتها المختلفة، وأمام القضاء المصرى. ثمة دور سياسى بارز وتاريخي للمحامين فى الحركة السياسية، والحزبية والقومية، وكانوا المحرك الأساس لما تم فى الانتفاضة الوطنية الكبرى عام 1919 ضد الاستعمار البريطانى، وما بعدها، وداخل الأحزاب السياسية، وذلك ضمن الطبقة الوسطى البازغة آنذاك.
لا شك أن ثقافة دولة القانون الحديث، والحركة الحقوقية شكلا مع المصادر الثقافية الأخرى -الأدب، والصحافة، والفنون التشكيلية، والسينما والمسرح -دعائم الاندماج القومى المصرى، بل وتشكيل الشخصية القومية المصرية -آنذاك- وفق المصطلح الذي كان سائدا فى العلوم الاجتماعية، ثم افل مع تطور النظريات والمصطلحات فى هذه المجالات نظريا، وتطبيقيا، واصطلاحيا.
كانت الثقافة القانونية الحديثة، تعبيرا عن التفاعل بين العقل القانونى المصرى، والغربى، والتحديث السلطوى فى المجال القانونى -العام والخاص-، ومن ثم التفاعل بين الجماعات القانونية، وسلطات الدولة الثلاث، خاصة التشريعية، والتنفيذية لدور القانونيين كأعضاء فى البرلمان، أو بعض السياسيين منهم فى الأحزاب السياسية، ومن ثم فى بعض التشكيلات الحكومية.
الثقافة والتجربة القانونية المصرية، شكلت أحد أبرز المعامل القانونية، والرأسمال القانونى والخبراتي لعديد من الدول العربية بعد الاستقلال، ومثلت واحدة من أبرز التجارب القانونية اللاتينية فى جنوب العالم -مع الهند الأنجلوساكوسونية – ودور الثقافة القانونية البارز، فى بناء الدول، والتكامل الوطنى، وعصرنة سلطات الدولة وأجهزتها المختلفة، على نحو اتسم بالتفرد، والتأثير في مجالها الإقليمي.
المصدر: الأهرام