من الأمثال العربيةِ القديمة المشهورة قولُهم:(أوسعتُهُم سبًّا وسارُوا بالإبل ): وأصلُه أنَّ رجلًا هجم عليه لصوص فأخذُوا إبله، ولم يستطعْ مقاومتَهم، فلما ابتعدُوا عنه، اعتَلى أكمةً، وأخذ يَسبّهم أقبحَ السباب، ثم رجع إلى قومه فسألوهُ عن الإبل وعمّا صنع؟ فقال: ” أوسعتهم سبًا، وساروا بالإبل ” فصارت مثلًا لمن يقصر فعلهُ، ويُطلقُ لسانه.
كثيرٌ ما يسألني المهتمون الصادقون في الشأن العام عن الفارق بين النظري والعملي؟ أو ما بين السطور وكراسات الكتب وما يجري على أرض الواقع؟ أو ما بين التنظير والفعل؟ ويطلبون رأي عمّا إذا كان التأطيرُ النظريُّ أهمَّ أم العملُ على أرض الواقع؟!
قد تصادف كلامًا كثيرًا حول هذا الموضوع، لكنَّ جوهرَ الأمر أنَّ التأطيرَ النظري والتنظير كليهما عملٌ فرديٌّ، أمَّا العمل على أرض الواقع، فهو إرادةٌ جماعيةٌ، تتجاوز جهد الأفراد، وإنْ عظُمَ أداؤهم وكثُر اجتهادُهم!
لنعدْ إلى قصة هذا الأعرابي، فمن المنطق أنَّه وحدَه لا يمكنُه مواجهةُ عصابةِ قطّاع الطرق، لكن لو علم اللصوصُ أنَّ وراءه من يساندُه، وأنَّه سيكون خلف فعلتِهم تلك عواقبُ وخيمةٌ، لربما أحجم اللصوص عن فعلتهم، و لما اكتفى الأعرابيُّ بالشتم، ولا قومُه بالسؤال عما فعل! فماذا يتوقعون منه أن يفعل!
لذلك إيمانُ أيِّ جماعةٍ بالتأطير النظري وتبنيه كمنهج حياة هو أولُ خطوة عملية للتغيير، وهنا كراسات الكتب لا تنفع وحدَها، وكذلك يصبح العملُ الجماعيُّ الذي لا يستند لأدبيات أقربَ لصناعة الفوضى منه لصناعة التغيير !
من النادر أنْ يحظى رأيُ الأفراد – وإن عظم- بتبنٍ جماعيّ إلا باستثنائين: أولهما: أنْ يملكَ صاحبُه القوة والزمن لفرضه ، وثانيهما: أنْ يأتيَ هذا الفكرُ مرافقًا لكارثة كبيرة لا تسعف الأدبيات الدارجة فى حلها، ويكتب القدرُ الإلهيُّ الظروف لظهوره . لكن تصوّرْ أن يكون لكتاب هنا أو فيديو وتعليق هناك مفعول السحر في قلب الواقع، أمرٌ يخالف السببية التي هي سلاح بني البشر الوحيد ؛ لأنَّ ما سواه موكلٌ لرب البشر.
هذا بالطبع جزءٌ من فلسفة الصراع والإحباط التي يعيشها المثقفُ الواعي المخلص، وكذلك ابنُ البيئة الثائر، فكلٌّ منهما يتوقع من الآخر ما لا يملكه، ولو أنهم أعادوا حساباتهم، لخرجوا جميعًا من دائرة اليأس والإحباط التي تشبه حلقة الألم المفرغ، وعندها لن يُحدِثَ أعداؤهم ما نجحوا فيه لسنوات، وهو جعل كلِّ طرف منهما يلقي بالمسؤولية على الآخر، فيصبح بهذا السكونُ القاتل هو الصوتَ الوحيد في المجتمع كما هو حالنا اليوم.
منذ أيام اطّلعت على لقاء مع مسؤول الملف السوري في فترة الرئيس ترامب السيد جويل رايبورن Joel Rayburn وكان اللقاء يجسد تلك الفكرة، فما يتوقعه السائلون والحضور من هذا المسؤول شيءٌ لا يملكه ولو أراد، وما يحاول أن يشرحَه لهم ببراعة، هو تسويقٌ سخيفٌ لأمر يدرك مدى كذبه ونفاقه، وهو “صداقة الولايات المتحدة المخلصة لشعوب المنطقة ومعاداتها لجلاديها”! لكن ما تستغربه حقًا هو أنَّ مثل هذه اللقاءات تسير بسلاسة، ويتقمصُ كلُّ طرف دوره ببراعة يعجز هو نفسه عن تصديقها!
فيما مضى كان لا يُقبل شهادة الفنانين بالمحكمة، وقد يرجع سببُ ذلك أنّهم يتعودون على تقمص الدور الكاذب ببراعة تكاد تختفي معها الحقيقة، وهذا ما نعيشه اليوم بالضبط !
لقد حَلُمَ كثير من الكُتاب باختراع حبةِ الصدق، وبرعوا بتصوير مجتمع تناول بمجمله ذاك الدواء، ليصبح الواقع سيناريو يدعو للتندر إذا ما قورن بعالم ما قبل حبة الدواء تلك !
إعادةُ صياغةِ توقُّعِ كلِّ طرف من الطرف الآخر (المثقف الواعي، والثائر الصادق) هو الخطوةُ العملية الأولى للصادقين في التماس التغيير. أمّا السحرةُ فسيبقون المروجين الأوائل للواقع الراهن؛ لأنَّه الوحيدُ الذي يُبقي أدوارَهم صالحة للمشاهدة، ويُقلدُهم الجوائزَ والأوسمة، ويجعلهم يتصدرون المجالس !