اعترت مسيرة الكاتب الألباني إسماعيل كاداريه ومساره السياسي، شوائب عدة، تمثلت أولاً في ابتعاده عن العرب والإسلام، وثانياً في انتمائه الى النظام الشيوعي في عهدة أنور خوجة وانضوائه تحت جناحه، ثم تنكره له وادعاؤه الانشقاق السياسي.
عندما فاز الروائي الألباني إسماعيل كاداريه بجائزة إسرائيل للأدب العالمي في يناير (كانون الثاني) 2015 قامت ضده حملة عربية، أدبية وإعلامية، وكان الحافز الأول لهذه الحملة الحضور المشرق لصاحب “جنرال الجيش الميت” في أذهان القراء العرب على اختلاف مشاربهم، فرواياته المترجمة إلى العربية تتخطى العشر، وعرفت رواجاً كبيراً، وطبعت مرات عدة، وبعضها عرف أكثر من ترجمة.
كانت الفكرة السائدة عن كاداريه كونه صديق العرب، وكتبت عنه في الصحافة العربية مقالات لا تحصى، تمدح فنه الروائي وموقفه النقدي من الاحتلال العثماني وغوصه في السرد التاريخي الذي كان واحداً من رواده. وتطرقت الحملة إلى سقوط صدقيته التي رسخها أدبه بصفته روائي “الحرية الإنسانية” و”المقاومة الشعبية” والنضال الألباني ضد الاحتلال والاستعمار، ووصف بـ”المسلم الأول” الذي يقع في شرك الجائزة العبرية. لكن كادرايه لم يحز الجائزة الإسرائيلية إلا كروائي ألباني ينتمي إلى بقايا الذاكرة الأوروبية، ويتهم الإسلام بدفنها، عازلاً ألبانيا عن الحضارة الأوروبية طوال خمسة قرون. ولطالما ردد كاداري أن ألبانيا تنتمي إلى أوروبا وليس إلى العالم الإسلامي، وعندما وقعت مجزرة “شارلي إيبدو” في باريس، كتب في صحيفة “لوموند” الفرنسية أن من واجب أوروبا وليس من حقها فقط، أن تحمي نفسها من الأصولية الإسلامية، “من أجل نفسها ومن أجل العالم”. قرأ كاداريه هذه الجريمة أوروبياً وليس بصفته ينتمي إلى بلاد هي ملتقى للحضارتين الإسلامية والمسيحية.
وخلال زيارته إلى القدس الغربية بغية تسلم الجائزة التي تحمل اسم “أورشليم”، سعى إلى تجاهل القضية الفلسطينية، وعندما “حشره” صحافي إسرائيلي طارحاً عليه سؤالاً “مفخخاً” عن الحرية غير المقيدة التي ينعم بها الفلسطينيون ولا يمكنهم أن ينكروها، أجابه مورابة ليتحاشى الإحراج: “أنا كاتب. أكتب أدباً”، لكن كاداريه كان يعلم أن مثل هذا الجواب ضرب من ألاعيبه السياسية التي كان يجيدها، وتشهد سيرته كم أنه غارق في السياسة ومتضلع من شؤونها، وأنه كان متحايلاً في مساره السياسي الألباني. فهو عرف كيف يستفيد من نظام أنور خوجة الشيوعي كل الاستفادة وكيف ينتقده بعدما رحل، معلناً انشقاقه أمام الغرب. لم يتمكن كاداريه من طي صفحات ماضيه الشيوعي الذي تواطأ فيه مع السلطة الديكتاتورية حتى أصبح ابنها المدلل، فتنعم بهباتها وأفاد كثيراً من عطاياها، ثم انقلب عليها وعلى الديكتاتور عندما حان وقت الانقلاب، ولم يتوان عن الانتقال إلى “جنة” باريس بصفته منفياً.
أما الصدمة فتمثلت في كلام أدلى به كاداريه خلال زيارته القدس الغربية، قائلاً إن إسرائيل وألبانيا “تناضلان من أجل البقاء في محيط كريه”، وبدا مثل هذا الكلام فضيحة لم يكن ممكناً التغاضي أو السكوت عنها. من هم أهل هذا “المحيط الكريه” الذي يحيط بدولة الاحتلال؟ أصبح العرب، مسلمين ومسيحيين، يمثلون في فلسطين المحتلة “محيطاً كريهاً” بنظر كاداريه الروائي المحبوب عربياً. ليس هذا الكلام ناجماً عن زلة لسان، فلسان كاداريه مثل عقله لا يزل. وغايته جلية جداً ومعروفة، هو الذي يئس من انتظار الفوز بجائزة نوبل.
كان من حق كاداريه أن يمتدح إسرائيل والصهيونية، وأن يزور القدس المحتلة ويتناسى المأساة الفلسطينية، مثله مثل كبار الأدباء العالميين الذين تعمدوا بـ”ماء” جائزة “أورشليم” ليفوزوا لاحقاً بجائزة نوبل، ولكن لم يكن يحق له أن يجعل أهل فلسطين المضطهدين والمقهورين والمشردين، أبناء “محيط كريه” بينما هم أبناء الأرض وأهلها.
من المعروف أن كاداريه الذي زار اسرائيل مراراً، لم يزر بلداً عربياً بتاتاً. وكان يردد أمام من يسأله أنه لم يتلق دعوة إلى مثل هذه الزيارة. وأذكر أن معرض بيروت للكتاب اقترح عليه في التسعينيات أن يكون ضيف شرف في المعرض، مع دعوة مفتوحة واحتفال يوقع خلاله رواياته، فرفض بحجج غير مقنعة.
البعد عن العرب والإسلام
لماذا لا يحب كادرايه العرب؟ ولماذا يتنصل من انتمائه الإسلامي؟ قد نفهم أنه يكره الإسلام العثماني، نظراً إلى الاحتلال الذي أنهك الشعب الألباني طوال قرون. لكنه أيضاً يكره اسمه إسماعيل، كما كتب الباحث الكوسوفي السوري محمد الأرناؤوط، المتخصص في الحضارة والأدب الألبانيين، في إحدى مقالاته، راوياً فيه وقائع لقاء جرى بين كاداريه والكاتب الألباني بن بلوشي الذي ينتمي إلى جيل ما بعد كاداريه. يسأله بن بلوشي: “ألا يعجبك اسم إسماعيل؟”، فيجيب فوراً: “أبداً يبدو اسماً يوحي بالرطوبة”، ثم سأله بن بلوشي: “ما الاسم الذي ترغب به؟”، فرد كاداريه “لا أعرف”. لكن صديقة مشتركة كانت تشارك في اللقاء، قالت: “كاداريه يحب اسم روديان، وهو شخصية كاداريه في روايته “الظل”، أي أنه “الاسم الذي أعطاه كاداريه لنفسه في الأدب”.
ومن يعود إلى روايات كاداريه الصادرة بالألبانية يكتشف للفور إنها تحمل اسم كاداريه فقط، وكأن الروائي عمد قصداً إلى حذف اسمه الأول الإسلامي والعربي، لكن هذا الاسم لم يحذف من كل الترجمات العالمية.
رحيل النوبلية أليس مونرو “تشيخوف” الأدب الكندي
وفي كتابه “إسماعيل كادريه: بين الأدب والسياسة” يكشف محمد الأرناؤوط عن موقف كاداريه من النقاش الذي كان دائراً حول العلاقة بين أوروبا والإسلام، ويشير إلى كتاب كاداريه “من كانون إلى كانون” الذي ألفه في باريس بعد لجوئه إليها عام 1990، وأورد فيه نصاً لحديث دار بينه وبين الرئيس الألباني الأخير للنظام الشيوعي رامز عليا في العام نفسه قبل اللجوء. إقترح عليه كاداريه أن يُعاد فتح المساجد والكنائس التي أغلقت أبوابها خلال الحكم الشيوعي قائلاً: “مع مرور السنوات سيبهت الدين الإسلامي، الذي وصل في وقت متأخر مع العثمانيين، في ألبانيا أولاً ثم في كوسوفو، إلى أن يحل محله الدين المسيحي، وهكذا سيخلف الشر خيراً في الأقل”. وأثار هذا المقطع من الكتاب ردود فعل قوية على موقف كاداريه من الإسلام.
ويعزو أحد الصحافيين الفرنسيين، (معروف أن فرنسا هي أول دولة ترحب بكاداريه وتترجم وتنشر له، واستقبلته لاجئاً سياسياً بدءاً من 1990) موقف كادرايه الملتبس من الإسلام العثماني والعرب، إلى كونه ينتمي إلى الطائفة البكتاشية، وهي طريقة صوفية تُنسب إلى الحاج بكتاش ولي، جاءت من الأناضول إلى ألبانيا. وفي تقاليدها السماح بالخمر والاختلاط بين النساء والرجال وعدم فرض الحجاب على المرأة.
ابن الشيوعية المدلل
أما العلاقة بين كادرايه والنظام الشيوعي، وتحديداً نظام الديكتاتور أنور خوجة فكانت ممتازة، وسمي كادرايه الابن المدلل للحزب الحاكم. لكنه بعد وفاة خوجة عام 1985 وتصدع النظام نفسه عقب ولادة الربيع الأوروبي وانتقاله إلى باريس، راح ينتقد النظام الشمولي وديكتاتوريته، مؤدياً دور الكاتب المنشق. لكن هذا الدور الجديد الذي لعبه كاداريه لم يتمكن من محو ماضيه الشيوعي ومناصرته أنور خوجة، والنعم التي تمتع بها جراء موقفه هذا، وقد سماه الكتّاب الذين وقعوا ضحايا النظام الشمولي وسجنوا واضطهدوا، “كاتب البلاط”. ومعروف أن النظام طلب منه الترشح إلى مجلس الشعب، ففاز في دورات ثلاث (1970 – 1982)، وحل نائباً لزوجة خوجة، السيدة نجمية المعروفة بتسلطها، في رئاستها “الجبهة الديمقراطية” التابعة للنظام. وخلال الثورة الثقافية (1966 -1969) التي أطلقها النظام في هدف تصفية الحريات “الشاذة” وضبط الانحرافات الأيديولوجية، كان كادريه واحداً من مؤيديها والمشاركين في بسط مبادئها، وكتب لصالحها رواية “العرس” مستخدماً أسلوب الواقعية الاشتراكية، تماماً مثلما كتب رواية “القلعة” لصالح النظام الذي يمثل القلعة الشيوعية الألبانية الصامدة في وجه الشيوعية السوفياتية “المنحرفة”. وكان الصراع في أوجه بين النظامين الألباني والسوفياتي حول القيادة الشيوعية. ومعروف أن النظام كان خير سند لكاداريه، فدعمه في نشر أعماله وترويجها وترجمتها، وسخا عليه وموّل أسفاره ورحلاته إلى الخارج.
لا شك في أن قضية معاداة إسماعيل كادرايه للعرب والإسلام العثماني و”الشرقي” كما يوصف، وقضية انتمائه إلى الحزب الشيوعي الألباني وادعائه الانشقاق بعد سقوط النظام، من القضايا الشائكة والملتبسة والمبهمة، التي اعترت مسيرته الأدبية ومساره السياسي، وتحتاج إلى متابعة حثيثة ودراسة وتقييم. لكن هذه القضايا لم تكن لتنفي عنه صفة الروائي الكبير وصاحب الأعمال الفريدة والمتفردة بجوها وسردياتها وأفقها التاريخي والأسطوري.
المصدر : اندبندنت عربية/ السفينة
قراءة للمسيرة السياسية للكاتب الألباني إسماعيل كاداريه، تمثلت بابتعاده عن العرب والإسلام، وانتمائه للنظام الشيوعي بعهد أنور خوجة ثم تنكره له وادعاؤه الانشقاق السياسي، وفوزه بجائزة إسرائيل للأدب العالمي في يناير (كانون الثاني) 2015، قرءاة موضوعية لمسيرته، إن مواقفه ورؤيته السلبية لايمكن أن تمحيها أعماله الفريدة والمتفردة بجوها وسردياتها وأفقها التاريخي والأسطوري.