هل هناك مؤسسات في إدلب؟

حسام جزماتي

عشية عيد الأضحى فجّر الشيخ أبو شعيب المصري، الذي كان خارجاً للتو من سجون «هيئة تحرير الشام»، قنبلة في وجهها حين كتب، على قناته في تلغرام، تهنئة استهلها بالأمة الإسلامية، ثم خصّصها ببلاد الشام، ليصل إلى تحية أطفال قال إنه جاورهم أشهراً «في خلواتهم بجوار خلوتي»، ويذكر منهم الصغيرة بيان ذات السنوات الخمس، وأقراناً لها وإخوة.

سرى المنشور بشدة في مناطق سيطرة «الهيئة» وخارجها. وسبّب صدمة دفعت شهوداً آخرين إلى الإفصاح عن رواياتهم التي أكدت على وجود نساء مع أطفالهن في السجون الأمنية كرهائن عن الرجال غالباً. مما رفع من شدة الغضب المتقد أصلاً ضد «جهاز الأمن العام» الذي سارع إلى اعتقال المصري مجدداً.

أبو شعيب (طلحة محمد المسيَّر) هو الآن من أشهر «المهاجرين» نتيجة عوامل متضافرة؛ أولها تحدّره من سلالة مشايخ أزهريين تابع مسيرتهم حتى صار مؤاتياً للمهام الشرعية والقضائية، وثانيها أنه من أقدم الواصلين العرب إلى سوريا في أواخر عام 2012، ملتحقاً بحركة «أحرار الشام» التي عمل في مكتبها الشرعي بحلب، ثم «هيئة تحرير الشام» التي سرعان ما أخذ يعترض على سياسات قائدها أبو محمد الجولاني، فجرى فصله منها في عام 2019 وأحيل إلى قضائها المختص، ما دفعه إلى مغادرة مناطق سيطرتها والإقامة في مدينة اعزاز حيث نشط في معارضتها إعلامياً من موقع متشدد حتى خُطف من هناك في تموز 2023. وأنكرت «الهيئة» وجوده لديها حتى اندلع الحراك الحالي وكان من أبرز مطالبه الكشف عن مصير المغيّبين والإفراج عن المعتقلين السياسيين وسجناء الرأي. فتبين وجود أبي شعيب في سجون «الهيئة»، وسُمح لأسرته بزيارته، ثم جرى الإفراج عنه أخيراً بكفالة الشيخ إبراهيم شاشو.

والأخير وزير سابق للعدل في «حكومة الإنقاذ السورية» عند قيامها، ثم وزير للأوقاف فيها. كما عمل في القضاء وصار عميداً لكلية الشريعة والحقوق بجامعة إدلب. وهو عضو في العديد من المجالس واللجان الموثوقة لدى «هيئة تحرير الشام» المهيمنة على إدلب. غير أن ذلك لم يمنعه من إبداء موقف يتفهّم فيه مطالب الحراك الشعبي حتى جرى تعيينه رئيساً لجهاز التفتيش القضائي في وزارة العدل، في محاولة لاسترضاء للمحتجين، في اليوم الذي سبق فض اعتصامهم من أمام المحكمة العسكرية بعنف مفرط.

ويشكّل هذا التعيين، وتجربة شاشو غير المرئية في المنصب، مثالاً على أسوأ حالات عمل المؤسسات الشكلية في مناطق سيطرة «الهيئة». فقد كان من المنتظر إثر هذا القرار، وبعد دسّ «جهاز الأمن العام» في جسم «حكومة الإنقاذ» بصفة إدارة تابعة لوزارة الداخلية؛ أن تُكشف أمام شاشو الأوراق وتُفتح السجلات السوداء لعمل هذا الجهاز طوال سنوات من الاعتقالات والتعذيب والإخفاء القسري والسجون السرية والمحاكم الخاصة والإعدامات والمقابر الجماعية. مما كان سيجيب عن تساؤلات العائلات التي غاب أبناؤها في غياهب هذا الجهاز.

لكن ما الذي فعله شاشو؟ لم يصدر الرجل، الذي يعرف جيداً حدود صلاحياته منذ أن كان «وزيراً»، أيّ قرار بوصفه رئيساً للتفتيش القضائي، هذا المنصب المهيب في أي حكومة محترمة. بل بادر إلى التوسط، وكأنه شيخ حارة حسن النية والصلات، لدى الجولاني للإفراج عن بعض المعتقلين بكفالته الشخصية، بعد أن وقّعوا على تعهدات سرّبت «الهيئة» منها صورة ذلك الخاص بأبي شعيب، والذي نصّ على: «أتعهد أمام الله أولاً، ثم أمام قيادة المحرر والضامن لي الدكتور إبراهيم شاشو بعدم التحريض أو التنسيق ضد قيادة المحرر وهيئة تحرير الشام، أو أحد رموزهم وقادتهم، أو المؤسسات العامة الواقعة تحت سلطان القيادة، سواء بيدي أو بتنسيق مع غيري عبر الإعلام أو عبر أي وسيلة أخرى، وحال مخالفتي التعهد تُتخذ بحقي الإجراءات اللازمة عبر الضامن لي». كتب شاشو الخبر بعنوان «عفا الله عما سلف»، وبشّر المتابعين بخروج المصري «بمساعي العبد الضعيف واستجابة قيادة الهيئة مشكورة لطلب العفو والإفراج عنه والشفاعة له». دون أن ينتبه هذا العبد الضعيف إلى أنه، ويا للصدفة، «رئيس جهاز التفتيش القضائي»، ويتوسط لإخراج مخطوف من خارج منطقة الولاية المفترضة للسلطة التي سجنته في منفردة وعذّبته ثم تكرّمت بالعفو عنه وعما سلف. بل إن «الأمن العام»، الذي أعاد اعتقال المصري بعد نحو أسبوعين من الإفراج عنه، لم يكلّف نفسه عناء إبلاغ «الضامن» بالأمر قبل حدوثه، كما صرّح شاشو الذي سمع بالخبر كالآخرين.

تبذل «هيئة تحرير الشام» جهداً بالغ الضآلة لإخفاء استخفافها بالأشخاص الذين تستخدمهم واستهانتها بما تدّعيه من مؤسسات تتهم الحراك الثوري بتهديد وجودها وتخريب عملها. فدون أن نعلم ماذا حل بجهاز التفتيش القضائي المزعوم ظهرت قبل أيام صورة ورقة تداولتها معرّفات «حكومة الإنقاذ» الرسمية ومشتقاتها، تتضمن قراراً بتشكيل «اللجنة العليا لديوان المظالم» برئاسة علي كدة، وهو رئيس سابق لهذه «الحكومة»، وعضوية إبراهيم شاشو ورجل ثالث. ولا تحمل الورقة/ القرار أي توقيع أو ختم، لكن مستطيلاً في أعلاها يشير إلى أنها صادرة عن «القيادة العامة»، دون أن نعرف قيادة ماذا ومن؟ «الهيئة» أم المناطق المحررة أم الأمة؟!

في إدلب وفرة في المؤسسات العامة، بل تخمة منها توحي، في كثير من الأحيان، بأن تأسيس الإدارات والهيئات هدف في حد ذاته لإعطاء صورة «الكيان» أو «المشروع» أو خديج الدولة. غير أن مزيج الاستبداد والاستهتار والفساد والاحتكار وتولية المحاسيب والموالين أفرغ هذه المؤسسات من مضمونها سريعاً وقبل أن يقتنع بها الناس جدياً. يرتفع هذا في حالات الأجهزة والهيئات الحساسة المعنية بالأمن والاقتصاد والإعلام، ويخف في الدوائر الصغرى ذات الطابع الخدمي كإدارة المناطق ورئاسة المخيمات، دون أن يعني هذا تحررها من الرقابة الدورية للأمنيين والحكوميين.

يدرك الذين يقطنون في مناطق هذا الحكم المعقد والمخاتل مدى عدم قابليته للإصلاح بتركيبته وقيادته الحاليتين. ولذلك يؤكد الثائرون منهم على مطالب أربعة؛ إقالة الجولاني، وحل جهاز الأمن العام، والإفراج عن المعتقلين المظلومين، وتسليم حكم المنطقة لمجلس شورى موسع في مرحلة انتقالية.

المصدر: موقع تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى