تتلاحق الذكريات، وتتلاطم الآهات في عيدك أيتها الأم السورية العظيمة، حيث تلاحقني تلك المُتكآت التي لم تبرح المخيال يومًا، وكل الذكريات ذكراك يا أمي، وكل الأحلام والآمال أحلامك يا أمي. لم يغب عن فسحة أحلام اليقظة ذاك اليوم من آذار / مارس 1980، عندما كنت يا أمي تنتظرين عودتي بفارغ الصبر، وتترقبين القادمين جبل الأربعين، حيث كنت، وحيث كان الرصاص يُسمع إلى بيتك في وسط أريحا، بينما كان المغول التتري الأسدي يعيث فسادًا في أريحا وجبل الأربعين، ويطوق كل المدينة، في محاولة للبحث عن المطلوبين، وفي محاولة أخرى لإطفاء الجذوة المتقدة في النفوس، جراء ممارسات القمع الهمجي الأسدي في كل من حلب وحماة وجسر الشغور ومعرة النعمان.
يومها انتظرتني طويلًا والدمع ينهمر غزيرًا، على ابن قد لا يعود إلا محمولًا على الأكتاف، وأنت تسمعين عما يفعله هذا المجرم بشباب أريحا، خاصة ممن كانوا يتحضرون للامتحانات في ربى جبل الأربعين وإطلالته الرائعة، وأنا منهم، أذكرك يا أمي وأذكر كل الأمهات السوريات اللواتي انتظرن أبناءهن طويلًا لكنهم لم يعودوا أبدًا، ومنهم جارتك من عائلة جمعة المحمود التي قتلوا ابنها وهو في مسكنه بالقرب مما كنت أسكن في سفوح الأربعين، وهو الشاب الوديع الذي كان يدرس في كلية الطب ولا ينتمي إلى أي تنظيم سياسي، لكنهم لم يغفروا له ذلك، بل أطلقوا عليه كل قذائفهم وعياراتهم الحاقدة. ولن أنسى تلك الأم التي فقدت عقلها حزنا وألمًا على ابنها، وكانت كل مرة تراني تسألني عنه، وكأنها على موعد أبدي معه.
في عيد الأم أذكر أمي كما أذكر كل الأمهات السوريات اللواتي فقدن أبناءهن في أقبية العهر الأسدي، أو جراء القصف البراميلي أو الصاروخي المنهمر على شعبنا، في كل الجغرافيا السورية، وأذكر منهن أختي رحمها الله التي فقدت ابنها بشار عبر آلة الحقد والإجرام، وأذكر أختي الأخرى رحمها الله أيضًا، التي فقدت ابنها فضل، من خلال الطيران الأسدي الحاقد الذي كان يُفترض أن يكون مهيأً لتحرير الجولان وفلسطين، وإذ به يقتل أبناءنا، ويعوق آخرين، ويدمر مدننا وقرانا، بعيدًا بعيدًا عن فلسطين والجولان، لن أنسى أمهات الشهداء أبدًا : أحمد بهاء، صفوان، سعد الله، رشيد، صبحي، نعمان، محمد، وعدنان، وكل الشهداء بلا استثناء، الذين لهم أمهات قلوبها تحترق عليهم، في حيواتهم أو آخرتهم.
عيد الأم في سورية لا يشبهه عيد، والأم السورية لا توازيها أم، وما تعانيه الأم السورية، يعجز عن حمله الجبال، وقلوب كل الأمهات تلهج بالدعاء على القاتل، حتى ينال ما نالته الأمهات على يد الإجرام الأسدي، بينما ما يزال شبيحته يحملون شعارهم البائس (الأسد أو نحرق البلد)، وقد أحرقوه ودمروه، وحرقوا قلوب الأمهات كل الأمهات.
كيف نبارك للأمهات السوريات، وكيف نعايدهن، في وقت نراهن جميعًا ما زلن يعشن الموت المتواصل على يد جلاد العصر، وعصابته، وداعميه من دولة الملالي الفارسية الحاقدة، أو من الروس الأنجاس المحتلين، الذين جاؤوا من أجل مصالحهم البراغماتية، على حساب الشعب السوري والأمهات السوريات.
لكن هذه الأم السورية العظيمة، التي ما انفكت تكافح من أجل سورية حرة كريمة، ضحت وما برحت تضحي، من أجل الوطن السوري العزيز، لن تألوَ جهدًا ولن تتوقف، عن الوقوف إلى جانب أبنائها وأخوتها، عملًا دؤوبًا، سيفضي بالنتيجة عاجلاً أو آجلًا، إلى إعادة قيامة وطن حر كريم، بلا آل الأسد، وبدون قوى الاستبداد والقهر، وبلا محتلين لسورية العظيمة، التي كانت وستبقى عظيمة، حتى إقامة الدولة المدنية الديمقراطية، بعقد اجتماعي يضم الجميع وهوية وطنية جامعة لكل السوريين، يرون ذلك بعيدًا، ونراه قريبًا إن شاء الله.