ما أكثر من نجا من الموت بكلمة، وللمؤلفين العرب مصنفات في الناجين بالكلمة؛ نظما أو نثرا، وهم كثير، خذ على سبيل المثال قصة الحجاج وقد أمر بضرب أعناق أسرى، فلما قدموا إليه رجلا لتضرب عنقه قال:
والله لئن كنا أسأنا في الذنب فما أحسنت في العفو!
فقال الحجاج: أفٍ لهذه الجيف، أما كان فيكم أحد يحسن مثل هذا الكلام! وأمسك عن القتل.
إنَّ عبور الحواجز الداخلية بين الأحياء والمدن والقرى، منذ انطلاق الثورة على النظام، صار أشبه بعبور الصراط الممدود على طرفي جهنم، أما أشهر حاجز في الحكايات والأساطير فهو حاجز الحيّة، نذكر قول الراوي الشهير “وكانت حية عظيمة تعترض الناس في الطريق”، وفي قصة أوديب أنَّ الساحر كان يطرح على العابرين لغزا، فحلّه أوديب ونال الجائزة، وهي الزواج من الملكة، ولم يكن يعرف أنها أمه.
تغيّر سؤال الحيّة العظيمة وأمسى سؤالا آخر في الثورة: قل لا إله إلا بشار الأسد؟ فليس ثمة سؤال إنما جواب قهري، أو لغز: من أين أنت، والجواب إحدى اثنتين: فإما الحياة وإما الردى.
يندر أن يجد مؤرخ الثورة السورية قصة عن حلم الخصم وتأثره بالكلمة فيطلق سراح أسيره عجبا بها، يندر أن تجد عسكريا أو ضابطا أو جلادا له ذمة ونجدة، ويقدر الكلمة ويزن الطرفة والنادرة والحكمة ميزانها.
يروي الصديق خير الدين هذه القصة في عبور صراط الحية الذي كان يفصل إدلب عن تركيا، وكانت تبعد ثلاثة فراسخ عن الدانا، وقد استحرَّ القتل وكثر القصف، وأصبحت الجثث على الطرقات مثل الأمتعة المعروضة للبيع، وكان ابنا عمه قد عادا بعد شفاعات، جثتين عليهما آثار تعذيب شديد؛ أسنان مخلوعة وأظافر مقلوعة وعيون مفقوءة وآذان مصلومة، فرأى أن ينجو بنفسه، وقد اشتدَّ عليه الطلب في الأمن العسكري الذي فتح عيادة للأسنان وقلع الأرواح من الأصابع من غير تخدير، فجمع أسرته وحزم أمتعته، وأخذ معه نسخة من كل كتاب من كتبه، إلا كتابا واحدا أخذ منه نسختين، في حقيبة صغيرة، وتوكل على الحي المعبود “ناعش كل عاثر، ورائش كل عائل”، فاستأجر سيارة سرعان ما بلغت به الحاجز، كانت رائحة الدم في المكان، وجثث معروضة على قارعة الطريق. تقدم ضابط شاب من السيارة من جهة الراكب لا جهة السائق وطلب الهويات فـ”عبس الخطب فاجتهم، وطغى الهول فاقتحم”، ربط خير الدين جأشه ربطا محكما، وشهق شهيقا ملأ صدره، سأله الضابط عن وجهة السفر، فأجاب بهدوء مصنوع: إلى حلب. ألم يقل الشاعر:
كلما رحبت بنا الروض قلنا .. حلب قصدنا وأنت السبيل
أقسم الضابط الشاب المتجهم أنه يكذب وأنّ وجهته هي أردوغان (كان علمه أن أردوغان اسم رئيس وليس اسم بلد!)، وغايته هي الهرب من الوطن المعطاء.
ثم سأل عن الهوية فهي القاضي وعندها الجواب؟
تصنّع خير الدين البحث عن الهوية. الاسم، ومكان الولادة يبينان جريرة المرء في سوريا الأسد غالبا، الاسم ومكان الولادة دمغتا حق أو باطل، قال خير الدين وهو يشير إلى الشاب بأصبعه أن يقترب منه، فتعجب الشاب الجهم من هذا العابر الفاجر، يومأ له بإصبعه، بل ويأمره أن يقترب منه، كانت بندقيته ما تزال حامية الخشم من إثر القتل، أيكون هذا ضابطا متنكرا “من جماعتنا”، قال: خير؟
سأله خير الدين وهو يغالب خوفه، إن كان عنده خطيبة؟
صعق الشاب وظهرت عليه الحيرة، هو الذي يطرح الألغاز والأسئلة على العابرين الهاربين المجرمين فما بال هذا الرجل يأخذ دوره (الصائد أصبح مصيودا) استمرأ اللعبة، ورأى أن يمضي في اللغز إلى نهايته، فقال مستدركا مستوضحا: خطيبة؟
سأله خير الدين إن كان عنده حبيبة، صبيّة يحبها؟
سكت الشاب مبهوتا، محتارا، فمضى في اللعبة خطوة أخرى، وأقسم بحظه (بالضاد) أنَّ عنده حبيبة، وأنها حلوة متل القمر. وأنه مشتاق لها كثيرا وعنده لوعة.
أخرج خير الدين نسخة من كتابه “حديقة الألحان” الذي كان قد أعدّه لمثل هذه القارعة، واستل قلم خط، وفتح الصفحة الأولى من الكتاب، والشاب المسلح ذي البندقية الحامية الخشم، يزداد من أمره عجبا، فهي المرة الأولى منذ أشهر وهو يرى حدثا مختلفا، سأله خير الدين بلطف أن يخبره متفضلا عن اسم الحبيبة، فازداد العسكري عجبا ومضى في اللعبة خطوة ثالثة، وقال: اسمها حسنا.
ونطق الاسم من غير همزة، الهمزة أكبر مشكلة إملائية ونحوية وهجائية عند النحاة وغير النحاة. ما يزال المتعلمون يخلطون بين همزة الوصل وهمزة القطع، وهي تخضع لمتغيرات عشرة يمكن تسميتها بتسميات المعتقلات السورية “الجنزير”؛ حركتها هي نفسها، حركة ما قبلها، حركة ما بعدها، أقرباء المعتقل من الدرجة الثالثة والرابعة والعاشرة، رأي فرع الأمن السياسي، موقعه من فرع الأمن أمن الدولة، وضعه عند فرع الأمن الجوي.
قال اللواء النحوي الأزهري: اعلم أن الهمزة لا هجاء لها، إنما تكتب مرة ألفا ومرة ياء ومرة واوا، والألف اللينة لا حرف لها، إنما هي جزء من مدة بعد فتحة. والحروف ثمانية وعشرون حرفا مع الواو والألف والياء، وتتم بالهمزة تسعة وعشرين حرفا.
قال خير الدين وهو يخفي “بلابله” وغربانه: اسم حلو.
أخبر الضابط أنه فنان وخطاط وكاتب قصص أطفال وعضو اتحاد كتاب العرب (ذكر الاتحاد لأن العساكر يقدرون مؤسسات الدولة المقدسة وإن رئيس الاتحاد هو أميرهم وأوعاهم) وإنَّ هذا الكتاب من تأليفه، وله كتب أخرى كثيرة، ثم خطَ اسم حسنا بخط الثلث الجليل: إلى حسنا حبيبتي..
ثم انتقل إلى خط النسخ فأكمل بقية جملة الإهداء، هدية من العاشق الولهان بعد أن سأله عن اسمه فذكره له، وكان اسمه ريبال، فأهداه الكتاب باسمه نيابة عن الرقيب ريبال، الهمزة أكبر مشكلة عند النحاة. ناوله الكتاب فتسلمه الضابط كأنه جائزة أوسكار أو نوبل أو وسام من السيد الرئيس.
أخذ العسكري العاشق الوسام مذهولا، وشق محراث الهدية ابتسامة صغيرة في أرض الوجه الوعرة، ما لبثت أن اتسعت حتى غمرته وفاضت على وجهه، كان قد أمر العائلة بالنزول من السيارة لتفتيشهم واحدا واحدا، واستدعى أحد العناصر للأمر.
نظر الضابط عاشق حسنا إلى خير الدين مذهولا، وعجب أنَّ هذا الرجل قد خطفه من أخبار القتل ورائحة الدماء وأصوات القذائف والثورة إلى الحبِّ والحبيبة، فطافت بفؤاده صورة حسنا، والرماح نواهل من دمه، وبيض الهند تقطر من بندقيته الروسية، تصفح الكتاب بسرعة، وقال بأدب تلميذ في حضرة معلمه الجليل: حضرتك كاتب؟
قال خير الدين بهدوء إنه أخبره لتوه أنه كاتب، وفنان، وخطاط، ونحات، وابتسم وقال: وخبير حلاوة، ثم ابتسم من غير خوف هذه المرة وقد أدرك دركته، وسلب القاتل ثأره، وفتر دمه.
خاطب الضابط ابن خير الدين الذي كان قد ترجل من السيارة خطابا نديا:
ارجع يا عم!
عاد العم الصغير إلى السيارة، وتنفست العائلة الصعداء، وابتسمت سحابة بيضاء في الأفق، وعبر سرب من الطيور السماء الخالية من الحواجز، وطرب السائق فرقع صوت صباح فخري وهو ينادي كاس الراح أن تسقيه الأقداح. أمر عاشق حسنا -من غير همزة –العسكري بالكفِّ عن نبش الحقيبة فاستجاب وأغلقها وأعادها لصاحبها، ثم صفق بيده سقف السيارة وقال: تفضلوا أستاذ… توصلوا بالسلامة.
انطلقت السيارة، نظر خير الدين في المرآة المقعرة، كان الضابط سعيدا بوسام الهدية، وكانت ابتسامته آخر ما رآه على الحاجز الذي ترقد بجانبه خمس جثث طرية لا تزال دماؤها سائلة، كان أصحابها قبل أن يصيروا جثثا قد نطقوا القاف همزة!
المصدر: موقع تلفزيون سوريا