تحتاج المملكة الى نهج تغيير شامل لمواجهة التحديات المتراكمة، ولضمان تطور البلاد وازدهارها بشكل عادل. يواجه الأردن كغيره من دول العالم، تحديات اقتصادية وسياسية واجتماعية جمة، كان لجائحة كورونا دور كبير في تعظيمها، لا في خلقها، باعتبار أن الوضع الحالي نتاج لعقود من سياسات ومنهجيات فكرية متعددة بعضها استُنفد، وبعضها الآخر أصبح بحاجة لمراجعة جدية تُؤسس لمرحلة جديدة قادرة على مواجهة تحديات المرحلة المقبلة والتأقلم معها.
ان كانت نقطة الانطلاق هنا هي إدراك ان السياسات الماضية المبنية على توسيع دور السلطة التنفيذية، وأذرعها المختلفة على حساب باقي السلطات، وتعظيم مفهوم الدولة الريعية كمصدر أساس في دخلها القومي، لم تنجح في معالجة التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المعاصرة للدولة الأردنية؛ فإن الحاجة تبدو ملحة لوضع نهج شامل ضمن أطر جديدة، واتخاذ مبادرات تسعى إلى التعامل مع تحديات المرحلة القادمة بطرق تضمن تطور وازدهار الجميع بشكل عادل.
فما هو السبيل الأمثل الى تحديد هذه الأطر؟
ان كانت النخب السياسية والأمنية في المجتمع الاردني لم تستسغ في السابق المبادرات التشاركية لتحديد هذه الأطر كتجربتي الميثاق الوطني والأجندة الوطنية، فهناك إطار عريض وواضح أرسى دعائمه رأس الدولة. فانسجاماً مع الرؤية الملكية وتلبية لتطلعات المواطنين بعد الاحتجاجات التي شهدتها المنطقة عامي ٢٠١١ و٢٠١٢، خرج جلالة الملك عبد الله الثاني أبن الحسين بإطار واضح يسعى إلى بناء مستقبل واعد من خلال نشر سلسلة من الأوراق النقاشية على مدى خمسة اعوام من ٢٠١٢-٢٠١٧ حددت نظرة جلالته لأردن ديمقراطي تعددي حداثي يهدف إلى بناء التوافق وتعزيز التشاركية في صنع القرار، وإدامة الزخم البنّاء حول عملية الإصلاح والتحول الديموقراطي.
حددت الأوراق النقاشية السبع (والتي آمل أن يضاف اليها في المرحلة المقبلة ورقة ثامنة تتحدث عن كيفية الانتقال من اقتصاد شبه ريعي لآخر يعتمد على الذات ويحقق مستوى أعلى من الكفاءة الإنتاجية) إطاراً حداثياً تعددياً بامتياز، يرتكز في مجمله على مبادئ جوهرية وقيم مجتمعية ضرورية لا يجب أن يختلف عليها اثنان، وصولاً إلى مستقبل زاهر وتنمية مستدامة.
بعد أزمة الكورونا، أصبحت الحاجة للمبادئ والأطر التي وضعتها هذه الأوراق أكثر الحاحاً من قبل. وتتلخص هذه المبادئ في الآتي:
أولاً: بناء الديمقراطية المتجددة على أساس الحوار والمبادرة البنّاءة وقبول التنوّع واحترام الرأي الآخر.
ثانياً: تطوير النظام الديمقراطي من خلال تعزيز مبدأ التعددية السياسية على أساس برامج حزبية ناضجة والانتقال بشكل تدريجي نحو الحكومات البرلمانية الفاعلة التي يشكلها ائتلاف الأغلبية في مجلس النواب.
ثالثاً: تطوير أدوار ومسؤوليات جميع أطراف المعادلة السياسية سواء الأحزاب السياسية أو مجلس الأمة أو رئيس الوزراء ومجلس الوزراء أو المواطنين، بحيث تعتمد مبدأ الفصل والتوازن بين السلطات وآليات الرقابة مع بقاء دور الملكية الهاشمية صوتاً محايداً لكل الاردنيين والاردنيات تقع على عاتقه مسؤولية توفير نهج قيادي جامع لكل المكونات.
رابعاً: تمكين ديمقراطي ومواطنة فاعلة من خلال ضمان حماية التعددية، والتدرج في الإصلاح السياسي، وعدالة الفرص السياسية.
خامساً: تعميق التحول الديمقراطي شريطة تحديد الأهداف السياسية والتشريعية والقضائية ضمن مسارات متوازية ومترابطة وتطوير الأعراف السياسية ووضع آليات التشاور المناسبة لتكليف الحكومات.
سادساً: سيادة القانون أساس الدولة المدنية وركن أساسي لإدارة الدولة التي تعتمد العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص أساساً في نهجها.
سابعاً: بناء القدرات البشرية وتطوير العملية التعليمية وصولاً إلى نظام تعليمي حديث، يشكل مرتكزاً أساسياً في بناء المستقبل، ويشجع التفكير الناقد ويعلم ادب الاختلاف وثقافة التنوع والحوار.
على الرغم من رؤى جلالة الملك الصريحة والواضحة ودعواته المستمرة لتبني الحكومات المتعاقبة هذا النهج، وتشجيعه مختلف مكونات المجتمع الأردني على الحوار والنقاش البنّاء، إلا أن هناك قوى شد عكسية مازلت تؤمن بنظام الوصاية وترى بأن المجتمع الاردني غير مهتم بممارسة العمل السياسي بشكله المعاصر ولا رغبة لديه بالبناء على وتطوير النموذج الأردني لمواكبة تحديات العصر، بل وتذهب أبعد من ذلك بالقول أن المجتمع الأردني غير مستعد، أو مؤهل للتعامل أو ناضج سياسياً للمضي قدماً في تطوير مسيرة الديمقراطية والإصلاح في الأردن أو احتضانه نهج حياة في المرحلة المقبلة حسب الرؤيا التي وضعها جلالة الملك. إن من شأن هذا التوجه التقليل من مكانة ووعي المواطن الأردني الذي أثبت على مدى العقود الماضية نضجه وقدرته ورغبته على التطوير والتنمية والمشاركة في مختلف المجالات حتى باتت القوة العاملة الأردنية معروفة إقليمياً ودولياً بنوعيتها وجديتها وقابليتها على التطور وإحداث فرق نوعي أينما حلت في مجالات متعددة. إن الدارس لمكونات المجتمع الأردني وبخاصة السياسية منها يُدرك أن المواطن الأردني ومنذ عقود قد أثبت جدارته على تحمل المسؤولية ومساندة الحكومات عند إشراكه والوثوق به وجعله جزءاً من الحل لا المشكلة.
ومن المفارقة أيضا أن تلك القوى العكسية التي من المفترض أن تعمل على تنفيذ توجيهات سيد البلاد، تُطلق الاحكام على هؤلاء المؤمنين برؤى جلالة الملك اللذين أخذوا على عاتقهم إحداث التنمية والتطوير ضمن الأطر الملكية الواضحة وتصوير بان ما ينادون به اما تفكيك للدولة أو محاولة للمساس بثوابت الأمة وقيمها الدينية والأخلاقية والثقافية. ولم يتوقف هؤلاء عند ذلك الحد، بل ذهب العديد منهم إلى مناكفة من يسعون إلى تطبيق الاوراق النقاشية الملكية ونعتهم بالمعارضين. إن الوصول إلى الهدف النهائي للإصلاح مرهون بقيام جميع مكونات المجتمع وأركان الحكم بمسؤولياتهم وأدوارهم والارتقاء بها، وتعزيز القيم والممارسات الإيجابية، وتطوير الضروري منها.
بلا شك هي حالة غريبة في النموذج السياسي الاردني تستدعي وقفة جادة لمراجعة جذرية للأسس التي يتم على اساسها تصنيف الموالاة والمعارضة في البلاد. من البديهي ان يحسب كل من يسعى إلى ترجمة الإطار العام الذي وضعه جلالة الملك ورئيس السلطة التنفيذية على أرض الواقع على الموالاة، وان يحسب أولئك الذين يتصدون لتنفيذ تلك القيم والمبادئ من خلال مواقفهم واجراءاتهم على المعارضة، فهم بتصديهم هذا يتصدون وبشكل غير مباشر للتوجيهات الملكية والمصلحة الأردنية.
هكذا يقول المنطق. ويبقى السؤال، من هم المعارضون في الدولة الاردنية؟
المصدر: مركز كارنيغي للشرق الأوسط