انتقلت الحرائق من الحديقة الخلفية لفرنسا إلى البيت الداخلي، فبعد أن كانت باريس في حرب مفتوحة على نفوذها القديم في غرب أفريقيا ووسطها، تفجَّر الوضع فجأة في إحدى أهم مقاطعاتها في أقاليم ما وراء البحار؛ كاليدونيا الجديدة في النصف الجنوبي للمحيط الهادئ شرق أستراليا، التي تشهد منذ أيام “حركة تمرّد غير مسبوقة”، بتعبير الرئيس إيمانويل ماكرون، الذي حلَّ يوم 23 مايو/أيار الجاري، على وجه الاستعجال، فوق الجزيرة في محاولة لاستعادة النظام، وإحياء الحوار مع من تعتبرهم فرنسا “انفصاليين”.
تُعَد كاليدونيا الجديدة التي خضعت للاحتلال الفرنسي عام 1853، من بقايا الاستعمار عندما كانت فرنسا إمبراطورية كولونيالية، فهي، ومناطق جزرية أخرى منتشرة في المحيطين الهندي والهادي، من جعلت فرنسا الواقعة في قلب أوروبا، بمساحة لا تتعدّى نصف مليون كيلومتر مربع، ثاني أكبر دولة ذات مياه اقتصادية خاصة في العالم، بأزيد من عشرة ملايين كيلومتر مربع، وراء الولايات المتحدة. وحاليا، تشكّل الجزيرة دعامة أساسية في الاستراتيجية الفرنسية، بشأن صراع الدول الكبرى، في منطقة الهندوباسيفيك.
يُعزى انفجار الوضع في الأرخبيل الفرنسي إلى إقرار الجمعية الوطنية الفرنسية تعديلا دستوريا، في 15 مايو الجاري، يقضي بالزيادة في أعداد المسجّلين في اللوائح الانتخابية. وذلك بالسماح بتقييد الفرنسيين القادمين من فرنسا والمقيمين على الجزيرة أكثر من عشر سنوات، ما يمنحهم حقّ التصويت. من شأن هذا القرار إضافة 25 ألف صوت جديد إلى الكتلة الناخبة في الجزيرة، ما يجعل شعب الكاناك؛ السكان الأصليين الذين يمثلون حاليا 41% من السكان، أقلية في البلد. ناهيك عن الإخلال بالتوازن التي يحفظ السلام، وفق قاعدة التسوية على أساس “تجميد الكتلة الناخبة” الذي أعقب أحداث حقبة الثمانينيات من القرن الماضي.
تجاهلت الحكومة الفرنسية الوضع هناك في بداياته، وسندها في ذلك آخر استفتاء عام 2020، الذي قاطعته الأحزاب المؤيدة للاستقلال بسبب جائحة كورونا، فجاءت نتيجته لصالح البقاء في تبعية لفرنسا (53,26%). قبل أن تدرك، بتوالي الأيام، خطورة الموقف، فسارعت نحو إعلان حالة الطوارئ، باتخاذ إجراءاتٍ استثنائية، مثل: نشر الجيش وحظر التجوال ومنع التجمعات، وبلغت حد إلغاء مرور الشعلة الأولمبية المقرّر في 11 يونيو/ حزيران الجاري، وكذا منع تطبيق “تيك توك” الذي تعتبره باريس أداة رئيسية في التضليل وزيادة الاضطراب. وذلك كله، بغية تطويق أزمة لم يتوقّع أحد، بحسب الرئيس ماكرون، “اندلاعها بهذا المستوى من التنظيم والعنف”.
زادت هذه الإجراءات من حدّة الاضطراب فوق الجزيرة، ما أوقع ضحايا وجرحى من المدنيين والقوات الفرنسية، وأدى إلى اعتقال المئات من المتظاهرين. اختيار الحكومة الفرنسية العنف والقمع لمواجهة الاحتجاج، على شاكلة الدول الاستبدادية، أضفى مزيدا من الشرعية على مطالب “جبهة التحرير الوطني الكاناكية الاشتراكية” التي تنادي بإنهاء الاستعمار في كاليدونيا، فالكاليدونيون، حسب أحدهم، “حاولوا إسماع صوتهم منذ وقت طويل، ولم يؤدّ ذلك إلى شيء. يجب أن يتدهور الوضع، حتى تتمكّن الدولة من رؤيتها، وحتى يتمكّن العالم من رؤيتنا”.
مساعي الرئيس ماكرون إلى إظهار نفسه بصورة رجل الدولة القادر على استعادة النظام في الجزيرة دفعته نحو تبرير الخيار الأمني الذي تبنَّته حكومته، متّبعا أسلوب زعماء العالم الثالث، حيث اتهم دولا أجنبية (أذربيجان والصين وروسيا وتركيا) بتحريض سكّان الجزيرة على الانتفاضة، وكأن مطلب شعب الكاناك باسترجاع سيادته وليد اليوم، وليس قضية عمرها 170 عاما من الجدال السياسي المتجدّد حول أحد الخيارات: التبعية لفرنسا أو التمتّع بالحكم الذاتي أو الاستقلال التام. لكن ذلك جاء بمفعول عكسي تماما، بإقدام الصحافة على المقارنة بين إدارة الرئيسين؛ فرانسوا ميتران (1985) وإيمانويل ماكرون، الأزمة في كاليدونيا.
دفعت تطورات الوضع على الأرض الرئيس الفرنسي، خلال وجوده في نوميا عاصمة الإقليم، إلى الإعلان عن وقف تنفيذ الإصلاح الدستوري، “جئتُ بتصميم على القيام بكل شيء لاستعادة الهدوء، هدفي دعم الشعب ومناقشة مستقبل كاليدونيا الجديدة مع جميع المجموعات”. وفي هذا تراجع فرنسي فرضته موازين القوى في الميدان، بعدما فشل ماكرون في جمع كل القوى السياسية (مؤيدي باريس/ أنصار الاستقلال) من أجل الحوار على طاولة واحدة. ناهيك عن تنامي المخاوف من سقوط الأرخبيل في احترابٍ داخلي، فأكثر من ثلث السكان يمتلكون أسلحة؛ حيث تنتشر هناك نحو مائة ألف قطعة سلاح.
شكّل دخول رؤساء مناطق لا ريونيون وغوادلوب والمارتينيك وغيانا على الخط بمطالبتهم باريس، في بيان مشترك في 19 مايو؛ أي أسبوعاً بعد اندلاع الأحداث، بالتراجع عن القرار، ومراجعة سياستها تجاه الأزمة في الجزيرة، مبرّرا إضافيا دفع الحكومة الفرنسية نحو التهدئة، خشية تمدّد عدوى الاستقلال أو الحكم الذاتي نحو مناطق أخرى (كورسيكا وبولينيزيا…)، ذات نزعات انفصالية خاضعة للسيادة الفرنسية، مع بروز الإشكالات التي باتت تهدّد نموذج الحكم المركزي الفرنسي.
ترفض فرنسا الاعتراف بأنها بصدد تكرار سيناريو ما حدث في أفريقيا، فالنهب الفرنسي لمعدن النيكل؛ الذهب الأخضر الذي تعدّ ثالث أكبر منتج له في العالم، بتوفّرها على ما بين 20% و30% من الاحتياطي العالمي منه، إلى درجة “الافتراس الاستعماري”، حسب زعماء جبهة التحرير، بمقتضى ما يعرف باسم “ميثاق النيكل”. لذلك، لا يتوانى الفرنسيون؛ رجال سياسة وإعلاميين، عن توزيع الاتهامات، فوسائل الإعلام تتحدّث عن أياد مباشرة لأذربيجان في الأزمة هناك، فيما اعتبر سيناتور فرنسي أن التدخّلات الصينية في الجزيرة لا تخطئها العين.
أياً تكن صحّة هذه المزاعم، تبقى إهانة لفرنسا؛ القوة الاستعمارية سابقا والنووية الوحيدة حاليا في النادي الأوروبي، إذ لا يعقل أن تهتزّ أركان بيتها الداخلي، نتيجة تحرّكات دولة حديثة التشكل، مثل أذربيجان (1991). وهل ما زال بمقدورها، بعد ما حدث ولا يزال في كاليدونيا، أن تقدّم نفسها قوة دولية، تصارع الكبار على موطئ قدم في منطقة الهندوباسيفيك؟ أم أن ذلك الضجيج للتغطية على “رقصة الديك المذبوح” التي تشهدها فرنسا؛ فبعد طردها من الساحل الأفريقي، حان أوان موجة تحرّر آخر المستعمرات في أقاليم ما وراء البحار؟
المصدر: العربي الجديد
لماذا الدول الإستعمارية تحاول الإحتفاظ بنفوذها وإستعمارها للدول الأفريقية والأخرى؟ ألا يكفي ما حققته من نهب ثروات هذه الدول؟ أليست مؤتمنة بعد الحرب العالمية الثانية على تحقيق الأمن والإستقرار للشعوب وحق تقرير المصير وحقوق الإنسان؟ ما جرى بكاليدونيا هو تكرار لسيناريو ما حدث بأفريقيا، لينتهي نهب فرنسا لمعدن النيكل “الذهب الأخضر” من ثالث أكبر منتج له بالعالم.