الكاتبة جنى فواز الحسن لبنانية ومن الجيل الجديد. كنا قرأنا رواية .أنا هي والأخريات. روائية متميزة مسكونة بهاجس المتغيرات التي حصلت في العقود السابقة في منطقتنا العربية .وخاصة لبنان . تغوص عميقا في الشخصية الإنسانية. شفافه الى درجة ان لا ممنوعات عندها في السرد…
الرواية تبدأ من زمان العام 2000 م . أحد أبطالها مجد في مدينة نيويورك الأمريكية في ناطحة سحاب وفي مكتبه في الطابق 99 يطل من ارتفاعه على نيويورك. وعلى ذاته وما حصل وما سيحصل..
.مجد الشاب الفلسطيني الذي نجا من مجزرة صبرا وشاتيلا. بعد اصابته التي تركت تشوها في وجهه وعاهة في قدمه. وقتلت امه وفي بطنها جنينها اخوة الذي لم يراه. مجد الممتلئ بفلسطينيته .واحساسه بمظلومية تاريخية اصابته شخصيا وكل فلسطيني ايضا .وكان آخرها ماحصل معهم في مجزرة صبرا وشاتيلا. و الجرح الفلسطيني ما زال نازفا للان. أبوه الاستاذ الذي كان معلم المخيم . وأمه التي ما زالت تعيش وجدانيا في قريتهم في فلسطين. ابوة تحول لفدائي وتداعت الأحداث .. مجزرة صبرا وشاتيلا، قتلت الأم، وعلاج الأب الذي قرر أن يترك كل شيء خلفه ويهاجر مع ابنه مجد الى امريكا.. بعد إدراكه أن معركته لاسترداد فلسطين عبث . وانه يجب ان يحافظ على ولده ويبني له مستقبله..
مجد الذي لم تشفى ذاكرته من جرحه بأمه ولا جرحه بوجهه او اعاقة قدمه. واراد استثمار ذلك باصراره على النجاح. في نيويورك التي تستوعب كل الناس . وفعلا تفوق مجد وتعلم ودخل الجامعة ونجح وبنى عمله الخاص ونجح.. لكنه لم يستطع التحرر من انه فلسطيني وانه ضحية.. وأنه رغم نجاحاته ما زال هناك غصة..
.مجد يتعرف على هيلدا اللبنانيه التي جاءت لامريكا لتتعلم الرقص والعزف.. هيلدا الفتاة المسيحية من عائلة حزبية وممن كان لها دور في الحرب الأهلية اللبنانية. هيلدا ومجد يعيشان علاقة حب عميقة ويتعايشا جسديا وحياتيا. ومع ذلك هناك حاجز دوما.. فمجد يرى بهيلدا انها ابنة من قتلوا امه واخوه وشوهوه. وهيلدا لم تكن تحلم ان تتقبل وجود الفلسطيني فما بالك أن تحبه.. مجد يعمل لاسترداد قيمته الذاتية عبر هيلدا. من خلال الحب والجنس وطريقة التعامل. وهيلدا تتعايش معه وتدرك ان عنده مرضه الخاص الذي من الصعب أن يشفى منه. وتزيد حالة الجفاء بينهم رغم الحب الجارف.. فمجد يخاف أن يخسر هيلدا ، وهيلدا لا تتقبل أن تعاقب على ذنب لم تقترفه. هيلدا تحب أن يشاركها مجد فرحتها بابداعها في الرقص .ومجد يخاف أن يظهر بعاهته وتشوهه . وتزداد الهوة..
.هيلدا تتخذ قرارا بالعودة الى لبنان ومجد يريدها ان لا تذهب يخاف خسارتها .ولا يريد ان يصرح لها. وعندما قررت الذهاب عاقبها بالتجاهل وعدم الاتصال بها. وعدم الرد على تواصلها معه. مجد وضع نفسه في خانة الضحيه الغير قادر على التحرر من مشاعره تلك..
.هيلدا تعود لتكتشف عالمها الذي كان غامضا بالنسبة لها. ووجدت انها من عائلة مسيحية وحزبية وانهم شاركوا بالحرب الأهلية. عادت لتكتشف حكاية اختها الكبرى التي أدمنت المخدرات ايام الحرب. المخدرات التي كان يوزعها الاب على المقاتلين. الاخت التي وضعت بالمصح لفترة ثم زوجت من ابن العم وصارت جزء من اساس البيت مع الاهل.. عادت لتكتشف ان الاب والاخ يعملون يستثمروا تاريخهم ليكونوا في الواجهة السياسية. اكتشفت مشكلة عمها الذي انتحر لأنه يشك بزوجته بسبب عجزه الجنسي ونصّب بطلا قتل الفلسطينيين. عادت لترى جورجيو المجنون الذي فقد عقله عندما فقد امه الهاربة مع خوري البلدة. وتكتشف القبو المحرم على الجميع دخوله .وتكتشف فيه مشغلا فنيا يعيد به العم إنتاج تماثيله للمشوهين من ايام الحرب راسخة بذهنه كبطل طبعا.. اكتشف ان الوالد احبها وارادها تكملة لفخره ومجده بابنته الامريكيه معلمة الرقص وليس كإنسان. وبدأت تختلف معه في كل شيء.. اكتشفت هيلدا ان ماتركته يعيد انتاج نفسه .ولا تغيير… كان هناك حربا على الفلسطينيين يرونها ضرورية وهم يستثمرون (بطولاتهم) سياسيا وينتظرون مناصب في الحكم. ولا جديد.. المأساة تعيد انتاج نفسها…
.في الرواية ابطال آخرين ايفا المكسيكيه التي اغتصبها زوج امها وهربت لامريكا. والتي احبها محسن اللبناني المهاجر الذي لم يستطع ان يخلص لها ويستمر بعلاقاته النسائية. محسن الذي لم يستطع أن يتحرر من عقده من فقر وحرمان واحساس بعدم الأمان. ايفا التي تخلت عنه واكتشفت ان العالم هو ان تكون قويا ماديا . وان تجعل الكل يخدموك. والضعفاء مصيرهم السحق فقط ولا من يبكي احزانهم..
.في الرواية ايضا ماريان الامريكية التي فقدت زوجها في حرب الكويت . ومعاناتها مع ولديها وانتظارها لسنين ان يأتي خبر من زوجها الذي مات هناك.. ولتكتشف انهم كلهم كامريكيين ضحية ارادة لم تحترم انسانيتهم. فلماذا يذهب جنودهم ليحاربوا في آخر الدنيا.. ولتصل مجددا لذات النتيجه بان الاسى لا يصيب الا صاحبه ولا من يساعد..
.تنتهي الرواية ومجد يكتشف انه يحب هيلدا الى درجة انه لا يستطيع ان يعيش دونها. وينتظر مبادرة منها محافظا على ما تبقى من كبريائه.. وهيلدا تكتشف انها منفصلة نفسيا عن اهلها وعن ماضيها. فلا يعنيها الصورة المزيفة التي يرسمها الوالد عن نفسه ومستقبله السياسي ولا الماضي السيئ الذي يريد تحويله لبطولات. ولا تقبل الكل العيش القطيعي والسير كما يريد الاب (السيد)؟
.هيلدا تجمع أمتعتها وتقرر العودة لمجد حبها واليقين الوحيد المتبقي لها.. وتنسحب من البيت والاهل مبتهجين ان الاب سيكون في تشكيلة الوزارة الجديدة..
.هنا تنتهي الروايه..لكن قراءتها لم تنتهي.. الرواية تمارس البوح باعلى درجات الشفافية والصدق. وتتغلغل في الشخصيات مثل أكوان منفردة تتقاطع قصرا بحكم الحياة ولتكتمل دورة الحياة والوجود.. لكل من الناس اسبابهم بفعل ما فعلوا وكلهم يتوه في صحرائه الذاتية..
.في الرواية انتصار للحب صانع الخلود منتج الاستمرارية البشرية كآخر ما تبقى للإنسان يحس من خلاله بالمعنى والامتلاء والسعادة أيضا..
5.7.2015