قراءة في رواية: حانة الست

أحمد العربي

محمد بركة روائي مصري متميز، قرأت له سابقا رواية “عرش على الماء” وكتبت عنها.

“حانة الست” رواية محمد بركة هذه تتحدث عن المطربة ام كلثوم معجزة الغناء العربي في القرن العشرين…

تعتمد الرواية أسلوب السرد بلغة المتكلم على لسان ام كلثوم. حيث تبدأ من كونها ابنة أسرة متواضعة من قرية طوماي الزهايرة التابعة لمحافظة الدقهلية المصرية. ولدت في بدايات القرن العشرين وسجلت رسميا بعد مضي سنوات على ولادتها، تتكون أسرتها من والدها إبراهيم ووالدتها فاطمة وأخاها خالد واختها سيّدة. أسماها والدها أم كلثوم على اسم ابنة الرسول محمد ص، اما امها فقد اسمتها ثومة وبذلك كانت تحمل اسمين منذ ولادتها. والدها يعمل منشدا في المناسبات الدينية والأفراح يأخذ معه ابنه خالد وابنته أم كلثوم للمشاركة في أداء الأصوات الجماعية المصاحبة له. وبما أن المجتمع المصري والعربي عموما في ذلك الوقت والى الان -نسبيا- يعطي الاهمية الى الذكور في العائلة، لذلك كان لأخيها خالد الاولوية في كل الحقوق على تواضعها في حياة القرية في ذلك الوقت، الذهاب إلى الكتّاب كان لأخيها فقط بسبب عجز الوالد عن دفع الأجر لاثنين من عائلته، لكن والدتها تضع ابنتها أم كلثوم في الكتّاب وهكذا بدأت بفك الحرف والقدرة على القراءة والكتابة…

رافقت ام كلثوم والدها في الأعياد والمناسبات والافراح وكانت مع أخيها خالد جزء من كورال الوالد في اناشيده. لكنها كانت تلبس زي الذكور وهكذا بقيت مجهولة الجنس لأغلب من يسمعها في فرقة والدها…

لكن صوت أم كلثوم وقوته وعذوبته لم يكن ليختفي أو يتم التعتيم عليه. وهكذا تم اكتشافها واكتشاف طاقات صوتها. وجاء من اقترح على والدها أن ينتقل من قرية طوماي الزهايرة الى محافظة الدقهلية حيث يتم استثمار صوت أم كلثوم بشكل افضل…

 التقط الشيخ إبراهيم والد أم كلثوم الكنز الذي حصل عليه بوجود ابنته وأداؤها وبداية شهرتها وطلب الفرقة للمناسبات بسببها. وهكذا بدأت تُعرف أم كلثوم أكثر. حتى وصلت الى بعض الملحنين الذين يعتبرون من اوائل ملحني ذلك الزمان مثل الشيخ أبو العلا محمد، الذي تبنى ام كلثوم واقنع والدها ضرورة أن تنتقل ام كلثوم للظهور في القاهرة حيث هناك تجد مجدها وحق صوتها الرائع. رافقها ابو العلى محمد حتى آخر لحظة في حياته. اعتبرته ام كلثوم “حب حياتها” وعانت لأجل مرضه ووفاته المبكرة.  وهكذا انتقلت أم كلثوم  ووالدها أم واخيها الى القيام ببعض الحفلات في المدن الاخرى والعودة الى محافظتهم. لكن المردود المالي الكبير الذي كانت تحصل عليه ام كلثوم جعل والدها يقبل فكرة أن ينتقل مع ابنته وابنه والعائلة إلى القاهرة والعيش هناك…

في القاهرة وجدت أم كلثوم أن أمامها عمالقة من المطربين والمطربات المنافسين، والملحنين ايضا. كان لتبني الشيخ أبو العلا محمد لها الدور الأساسي لتثبت حضورها في أرض القاهرة وبين المتميزين فيها. وهكذا عاشت شعور السمكة التي تخوض في بحر يحتاج الحنكة والدراية والمسايسه والقدرة على التعامل مع الجميع بكثير من الحيطة والحذر…

لقد كبرت أم كلثوم في القاهرة. وقررت التحرر من شخصية الذكر وملابسه التي كانت ترتديها. حاول والدها واخوها الاعتراض. لكنهم رضوا اخيرا لأنهم لا يريدون إزعاج الدجاجة التي تبيض لهم ذهبا…

في أجواء القاهرة تعرفت على أجواء أثرياء مصر واقتربت من أجواء الملك وحاشيته. وغنت بعض الأغنيات لمصر وذكرت الملك فؤاد وابنه فاروق. وجاء يوم تعرفت به على فاروق نفسه…

كان الهاجس الأساسي لأم كلثوم أن تصعد في سلم المجد الغنائي الى اعلى ذروة لم يصل اليها احد. لذلك سرعان ما تلقفت أهم الشعراء ليكتبوا كلمات أغنياتها أحمد رامي  وغيره واهم الملحنين مثل السنباطي وغيرها، واستمرت حاضرة في العصور المتتالية على حياة مصر الملكية وعبد الناصر وأنور السادات هي كوكب الشرق عالية في سماء مصر والآخرين عابرين في حياتها…

في علاقة ام كلثوم مع الجنس الآخر، هناك الكثير من الحكايا وحتى التأليفات، لكن الحقيقة أنها عاشت أكثر من زواج. كان آخرها وأثبتها مع طبيبها حسن حفناوي…

في علاقتها مع فنّها ومع معاصريها من الفنانين والمطربين والمطربات. كانت كل الوقت تخوض حروب إثبات الجدارة والحضور. هناك نجوم يسطعون وآخرين آفلين وهي تحاول أن تخطوا خطواتها بدقة وحذر ودراية. اعتمدت على شبكة من العلاقات كانوا لها بمثابة مستشارين حاضرين كل الوقت وحين الطلب، كما أن عائلتها لم تتركها ابدا الا بالوفاة: والدها ووالدتها واخوها خالد توفوا تباعا، وبقيت اختها سيدة، حتى آخر لحظة في حياة أم كلثوم كانت تحت رعاية ومتابعة اختها سيدة وابن اخيها خالد…

في علاقتها مع إندادها كانت من المطربين والمطربات كانت تدرك أنها في معركة اكتساب الجدارة تحتاج للحكمة والدراية وقدرة التصرف…

خاضت معركة تحت السطح وعلنا احيانا مع منافسها المطرب والملحن محمد عبد الوهاب. الذي لم يعترف بها. وهي كانت تجافيه وتتوق للعمل معه. حتى جاء عبد الناصر وألزمهم بأن يكون لهما اغاني مشتركة. افرجت عن رائعة ام كلثوم انت عمري وغيرها…

كما عايشت ام كلثوم بزوغ نجومية عبد الحليم حافظ الذي كان تحت رعاية عبد الناصر، والذي حضر الى لقاء ام كلثوم وقدم إليها فروض الولاء والاحترام وأنها النجم الذي يهتدي به هو وغيره من المطربين والمطربات الذين تواجدوا في مصر الستينات وجعلوا سماءها مضيئة كل الوقت. .

القصبجي الملحن اكتفى بآخر ايامه ان يكون ضارب عود في فرقتها الموسيقية. وأحمد رامي اكتفى ان يكتب لها كل الوقت كنهر متدفق كلمات اغاني ستخلد مع ام كلثوم الى مدى الدهر…

كان لتغير الوضع السياسي لمصر من عصر الاستعمار الانكليزي بوجود الملك فؤاد ثم ابنه فاروق ومعاصرة ام كلثوم وغنائها لهم. جعلها تحت تحدي ان يتم معاقبتها بعد ثورة تموز ١٩٥٢ بقيادة جمال عبد الناصر. وكثرت الأقلام المتربصة بأم كلثوم إلى درجة العمل لمعاقبتها. لكن كان لأم كلثوم في قلب وعقل الضباط الأحرار وخاصة عبد الناصر مكانا مرموقا. انها كانت قد التقت بعبد الناصر بعد عودتهم من حصار الفلوجة ايام حرب ١٩٤٨م لمواجهة الكيان الصهيوني. هناك ود و علاقة جيدة بين عبد الناصر وأم كلثوم. وعندما واجهه البعض أنها مطربة العهد الملكي البائد اجابهم. ام كلثوم مثل النيل والأهرام هي مصر ومجدها مجد لمصر. وهكذا انتقلت أم كلثوم لتكون تحت رعاية عبد الناصر شخصيا. ولتكون أحد الأصوات التي هدرت في كل المناسبات التي عاشتها مصر العظيم منها والمؤلم. رد العدوان الثلاثي على مصر ١٩٥٦م، فرحة الوحدة بين مصر وسوريا ١٩٥٨م، وخيبة الانفصال ١٩٦١م. وبعد ذلك خيبة نكسة حزيران ١٩٦٧م ووفاة عبد الناصر ١٩٧٠م. لتكون أم كلثوم تحت رعاية أنور السادات نفسه. ولتعيش فرحة العبور وبداية استعادة سيناء في أكتوبر ١٩٧٣م…

تابعت الرواية حياة أم كلثوم الشخصية بعمق وتفاصيل كثيرة. وإنها في وقت ما أصاب عينها مرض أدى لجحوظ عينها ولم يتعالج مما جعلها تظهر بعد ذلك كل الوقت بنظارتها الشمسية السوداء. كما انها كان لا بد أن يكون لها متابعة طبية دائمة ادت لان تتزوج طبيبها الحفناوي.

كان لأم كلثوم يد بيضاء في كثير من المجالات. تساهم لمساعدة الفقراء ودعم أي مجال يحتاج للمساهمة اجهزة طبية وغير ذلك…

تنتهي الرواية عندما تدخل أم كلثوم في أواخر حياتها في مرض الفشل الكلوي الذي عانت منه كثيرا واجرت بعض العمليات لمعالجة حالها. لكن اجل الله حتمي وتوفيت أم كلثوم في عام ١٩٧٥م عن عمر يناهز ٧٦عاما…

في التعقيب على الرواية اقول:

يكفي أم كلثوم الفخر انها مازالت تتربع على عرش الغناء العربي بعد مضي نصف قرن على وفاتها رحمها الله. وأنها مازالت كوكب الشرق بلا منازع. تتوالد الأجيال وتبقى تتابع صوتها وغنائها وأدائها وتعيد إحياء عصرها جيلا بعد جيل…

كما لا بد من المرور على مظلومية المرأة المصرية والعربية عموما في مجتمع ذكوري مهيمن وذلك منذ بداية القرن العشرين، ونحن في العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين. أحوال المرأة العربية تتحسن، لكنها لم تصل إلى المستوى المطلوب من أخذ حقوقها الإنسانية كاملة كإنسان عاقل مدرك له كامل الحقوق على قدم المساواة مع الرجل، مع تثبيت ذلك مجتمعيا وبالقانون والحياة العملية…

نعم هناك الكثير من كتب عن أم كلثوم قبل كتابة صديقنا محمد بركة هذا الكتاب. وهناك من سيكتب مستقبلا. هي الحاضرة دوما في الذات العربية. كالشمس والليل والنهار وليس مثل النيل والأهرام فقط…

اخيرا ام كلثوم نموذج للانسان الذي أعطاه الله موهبة صوتها واستطاعت ان تستغل صوتها وحضورها كرسالة في الحياة، واكبها مجموعة من الشعراء والملحنين والموسيقيين. وأنها جاءت في عصر عبد الناصر حيث كانت أولى محاولات ولادة الأمة العربية بعد كبوتها التاريخية أمام الاستعمار الحديث…

كل ذلك تفاعل وانتج ام كلثوم وعصرها وانتاجها الخالد…

رحم الله أم كلثوم وجعلها عنده في عليين…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى