يوم نكبة “إسرائيل”

عبد الحليم قنديل

   لعله أسوأ أيام التاريخ العربى الحديث ، فكيان الاحتلال “الإسرائيلى “يحتفل فى 15 مايو من كل عام بما يسمونه “يوم الاستقلال” ، والإشارة بالطبع إلى يوم النكبة الفلسطينية فى 15 مايو 1948 ، وكأن المعانى انقلبت على أعقابها ، وصار الاحتلال هو عينه الاستقلال (!) ، والأعجب أنهم يصورون للناس ، أنهم كانوا هنا قبل عشرات القرون ، وأنهم أقاموا فى الزمن السحيق ممالك بادت ، وكأن الممالك المندثرة تبتعث من القبور ، وقد قامت فى فلسطين وإلى شرقها عشرات الممالك ، لكن اتصال الوجود السكانى والحضارى كان للعرب بامتياز ، من عهود “اليبوسيين” و”الكنعانيين” إلى الفلسطينيين المحدثين ، ولم يكن الوجود اليهودى السياسى غير حدث عابر ، ولم تدم مملكة اليهود الأولى (مملكة داود وسليمان) من حول القدس ، ثم مملكة اليهود الثانية (الحشمونيين) فى بعض مناطق الضفة الغربية اليوم ، لم تدم أيا من المملكتين الصغيرتين سوى نحو ثمانية عقود ، ثم كان الفناء المتسارع ، الذى يسميه جنرالات ومفكرون “إسرائيليون” اليوم بخطر العقد الثامن ، ويتخوفون أن تنتهى “إسرائيل” (الموصوفة عندهم بمملكة اليهود الثالثة) قبل أن تكمل عامها الثمانين ، وهى اليوم دخلت توا إلى عامها السابع والسبعين .

  وبعيدا عن الخرافات والأساطير المصنوعة ، وحتى عن التفاسير الدينية المعتبرة ، فلا تبدو دولة الكيان مرشحة لإكمال المئة سنة ، ولأسباب واقعية وتاريخية ملموسة ، تدافعت إشاراتها حتى فى الاحتفال الأخير للكيان بيوم استقلاله ، فقد جرت طقوس الاحتفال على نحو شبه سرى ومسجل مسبقا ، وجرى إيقاد شعلات “الاستقلال” بغير بث مباشر ، والسبب ـ كما قيل ـ كان أمنيا ، فقد خافوا من الوقوع فى الحرج ، وأن تبدد صواريخ “حزب الله” و”صواريخ غزة” فرحة المحتفلين ، وهو ما حدث بالفعل فى مستعمرة “سديروت” بغلاف “غزة” ، فقد جاءها المحتفلون أسرابا فيما يشبه العرض الراقص ، وفاجأتهم صواريخ “حماس” فانبطحوا أرضا ، وبدت الإشارة رمزية بليغة ، تعيد للأذهان ما تخوف منه الجنرال “إيهود باراك” فى مقال نشره قبل سنتين فى ذات المناسبة “الاستقلالية” ، و”باراك” ـ كما هو معروف ـ رئيس وزراء ووزير حرب “إسرائيلى” سابق ، ومعروف بأدواره البارزة فى عمليات اغتيال كبرى لقادة كبار فى منظمة التحرير الفلسطينية ، وبعد سنوات وعقود الخدمة الممتدة للخرافات الصهيونية ، كان مقاله المذكور يحذر من لعنة العقد الثامن ، ويتخوف من النهاية القريبة لدولة الكيان “الإسرائيلى” ، لكن “باراك” لم يتصور حتى فى أسوأ كوابيسه ، أن يعيش ليرى هجوم “حماس” المزلزل صباح 7 أكتوبر 2023 ، وما كشفه الهجوم من خواء الترتيبات العسكرية والاستخباراتية لكيان الاحتلال ، ومن التطور الملحمى لعقول وعبقرية قتال حركة التحرير الفلسطينى ، وقد أطاحت مئات من مقاتليها فى غمضة عين بتحصينات الكيان “الإسرائيلى” ، الذى صوروه طويلا كأعظم معجزة من صنع الإنسان ، وتغنوا بتفوقه الاقتصادى والصناعى والتكنولوجى وريادته الحربية ، ثم جاءت الحوادث المزلزلة ، وأثبتت بجلاء ، أن الكيان (المعجز!) لا يقوى على حماية نفسه ذاتيا ، وأنه مجرد كيان طفيلى وظيفى ، وقاعدة برية وحاملة طائرات للإمبريالية الأمريكية ، وبان ذلك كله جليا فى حرب غزة المتصلة إلى قلب شهرها الثامن اليوم ، مع عجز الآلة العسكرية الأمريكية ـ من وراء القناع الإسرائيلى ـ عن هزيمة حركة “حماس” وأخواتها فى شريط “غزة” بالغ الضيق جغرافيا ، رغم نحو مئة ألف طن متفجرات ألقيت على رأس سكان “غزة” ، قتلت وجرحت نحو 130 ألف فلسطينى إلى اليوم ، ومن دون أن ترفع “غزة” الصغيرة راية بيضاء ، ولا أن يخطر ببال قوات المقاومة إعلان استسلام ، وهو ما دفع وزراء وسياسيون أمريكيون و”إسرائيليون” إلى المطالبة بضرب “غزة” بالقنابل الذرية ، كان آخرهم قبل أيام السيناتور الجمهورى البارز “ليندسى جراهام” (وهو يهودى صهيونى) ، وكان أولهم فى نوفمبر الماضى الوزير “الإسرائيلى” المعتوه “عميحاى إلياهو” ، إضافة لأعضاء آخرين فى الكونجرس الأمريكى والكنيست “الإسرائيلى” ، وكلهم تصوروا أنه لا حل آخر غير القنابل الذرية ، تماما كما فعلت أمريكا فى قصف “هيروشيما” و”نجازاكى” اليابانيتين بالقنابل الذرية ، مع أن ما ألقى فوق رأس “غزة” يفوق القدرة التدميرية لقنابل دمار “هيروشيما” و”نجازاكى” ، ومع أن لجوء “إسرائيل” وأمريكا لضرب غزة نوويا ، يعود بالدمار على سكان الكيان بأسباب الالتصاق الجغرافى ، ويعرف المأفونون المنادون بالضربة النووية ذلك ، لكنهم لم يجدوا وسيلة أخرى ، يعبرون بها عن اليأس من إمكانية دحر المقاومة ، التى لا تملك واحدا على المليون من ترسانات سلاح العدو الأمريكى “الإسرائيلى” ، ويحاربون بعقيدة قتال استشهادى ، وبأسلحة فعالة من صنع أيديهم ، وعبر حطام المبانى وشبكة الأنفاق المذهلة ، وأذاقوا جيش الاحتلال ألوانا من العذاب والهزائم الثقيلة ، فى معارك الأكمنة والألغام والقتال وجها لوجه ، ودفعوا ويدفعون أعدادا متزايدة من ضباط وجنود النخبة “الإسرائيلية” إلى تفضيل الانتحار على قتال المقاومين الفلسطينيين ، وقد وثقت الصحف “الإسرائيلية” تفاصيل انتحار عشرة منهم ، بينما زادت معدلات الرعب فى أوساط التجمع “الإسرائيلى” ، مع نزوح مئات آلاف “الإسرائيليين” خوفا من صواريخ “غزة” و”حزب الله” ، وفى استطلاع رأى أجرته صحيفة “يديعوت أحرونوت” قبل أيام ، عبر ثلث “الإسرائيليين” عن فزعهم من مصائر “إسرائيل” ، وقالوا أنهم يتوقعون ألا تكون “إسرائيل” مكانا مناسبا ولا آمنا لإقامة وتربية الأبناء والأحفاد ، وهو ما يتوازى مع تضاعف معدلات هجرة اليهود العكسية بعد هجوم السابع من أكتوبر ، ومع تقلص الممكنات الواقعية لاستدامة بعث الحلم الصهيونى وازدهار وتوسع ملك “إسرائيل” ، التى لم تنتصر أبدا فى أى حرب دخلتها منذ 1967 ، فقد هزمت فى حرب الاستنزاف الطويلة المتقطعة على جبهة قناة السويس ، ثم هزمت فى حرب أكتوبر 1973 ، وفى حرب غزو لبنان ، وفى حرب 2006 مع “حزب الله” ، وفى حروب خمس شنتها ضد مقاومة “غزة” منفردة ، أى أن الهزائم صارت قدر “إسرائيل” المكتوب ، رغم خروج الأنظمة العربية والنظام المصرى بالذات من ساحة الحرب ، وركونها إلى “خيار السلام” المزعوم مقابل عودة “سيناء” ، وقد كانت تشكل ثلاثة أرباع مساحات الأراضى العربية المحتلة “إسرائيليا” فى عدوان 1967 ، ورغم سكوت المدافع طويل الأمد ، إلا أن خيار السلام ـ إياه ـ يهتز الآن ، وهزائم “إسرائيل” المتصلة ، قد تغرى البعض بالعودة إلى محاربتها ، إن لم يكن فى الحال ففى الاستقبال ، خصوصا بعد فشل حملة “الأرمادا” العسكرية الأمريكية “الإسرائيلية” فى “غزة” ، وتصاعد أدوار حركات المقاومة من نوع مختلف ، التى تكونت صيغتها الأولى فى جنوب لبنان قبل تحريره ، وواجهت تكنولوجيا العدو الحربية الفائقة بثقافة الحس الاستشهادى الباهر ، ثم أضافت إلى استشهاديتها تكنولوجيا متحدية ، بدت متواضعة ثم تطورت ، وعلى نحو قاد إلى استبدال الصور فى الميدان ، فقد سقطت خرافة جيش “إسرائيل” الذى لا يقهر ، وحلت محلها صورة المقاومة التى لا تهزم ، وعلى نحو ما جرى ويجرى فى حرب “غزة” الراهنة ، وهى أطول صدام متصل بالنار الموقدة مع الكيان الاستيطانى الإحلالى ، الذى تلقى آخر جرعة حياة بهجرة المليون يهودى ومتهود من “موسكو” أوائل تسعينيات القرن العشرين ، ثم جفت الصنابير إلا قليلا ، وزادت معدلات الهجرة العكسية ، مع انفضاح كذب الرواية الصهيونية فى عقر دارها الغربى ، والصعود الإعجازى للرواية الفلسطينية فى العواصم الغربية ، وتدفق مظاهرات وانتفاضات الملايين داخل الجامعات وخارجها ، والانتصار غير المسبوق لسردية الكفاح الفلسطينى لا الاستقلال اليهودى المزعوم ، وكان الصمود الأسطورى للشعب الفلسطينى ومقاومته هو حجر الزاوية فى المعجزة المرئية ، التى أسقطت أو كادت خرافة استعادة ممالك اليهود القديمة ، فوق انكشاف حقيقة أن يهود اليوم لا علاقة لهم بيهود التوراة ولا “الحشمونيين” ، وأن أغلبهم الساحق من نسل “مملكة الخزر” القروسطية ، وهؤلاء لم يكونوا يهودا بل تهودوا بأمر ملكهم ، ولم يعد من اليهود “السامريين” غير بضع مئات فى إحدى قرى “نابلس” ، وهؤلاء لا يعترفون بالصهيونية ولا بمزاعمها “الإسرائيلية” ، فيما يوالى الفلسطينيون حضورهم الأغنى فوق أرضهم المقدسة بكاملها ، ويزيدون اليوم على عدد اليهود المجلوبين لاحتلال واستيطان فلسطين ، وفى آخر إحصاء “إسرائيلى” نشر قبل أيام ، لا يزيد عدد اليهود اليوم فى فلسطين على سبعة ملايين وثلاثمائة ألف ، مع ملاحظة أن أعدادا هائلة منهم لم تعد تقيم فى فلسطين ، وأن نصف “الإسرائيليين” تقريبا يحملون جنسيات مزدوجة ، وهو ما يعنى ببساطة ، أن مد البصر على استقامته إلى أخريات عقدين مقبلين ، يكشف أن النجوم تعود حثيثا إلى مداراتها ، وأن فلسطين التاريخية تعود وطنا بأغلبية فلسطينية عربية متكاثرة ، وأن “إسرائيل” ـ كما نعرفها ـ لن تكمل عامها المئة ، وهى تمضى إلى نكبتها الأخيرة.

المصدر: القدس العربي

 

ليس بالضرورة أن يعبر المقال عن رأي الموقع

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. هل إنقلبت الأمور لهذه الدرجة؟ يوم 15-05-1948 هو يو النكبة لشعبنا الفلسطيني ولأمتنا العربية والإسلامية، إنه اليوم الذي سرقت قوات الإحتلال الصhيوني فلسطين وأعتبروه يوم الإستقلال! ان الصمود الأسطورى لشعبنا الفلسطينى ومقاومته أسقطت خرافة استعادة ممالك اليhود القديمة، لأن يhود اليوم لا علاقة لهم بيhود التوراة ولا “الحشمونيين”، لأنهم نسل “مملكة الخزر” القروسطية ،

زر الذهاب إلى الأعلى