الكل يتكلم، ويتشاجر، ويفتي، ويضع صورة وفيديوهاته ومنشوراته، وتغريداته على وسائل التواصل الاجتماعي، وثمة حالة من الاغتراب تبدو محلقة على فضاءات الحياة الرقمية، ومع ذلك ثمة حالة من الاغتراب السوسيو-نفسي، والعزلة على الرغم من المشاركات، أو النظرات والقراءات الومضات على ما يجرى داخل هذا العالم! ثمة حالة من الولع بما يجرى في هذا العالم الأفتراضى الذي تداخل مع الفعلى، ويؤثر على بعض مساراته الحية. يري غالب المتابعين إنها الحرية التى نالتها الجماهير لرقمية الغفيرة، وهناك من يرون إنها حالة من الغوغائية الرقمية، والممارسات الشعبوية الدينية، والعرقية، والقومية، والمذهبية! من هنا يثور السؤال حول مفهوم الحرية والمساواة الرقمية، وهل لا يزال مفهوم الحرية الفلسفى والسياسى “والدينى”، كما عرفته النظم الليبرالية والفلسفة الذى ساد مع الحداثة السياسية والقانونية الوضعية الغربية لايزال سائداً؟ هل لا تزال التأصيلات الفلسفية للحرية صالحة لتفسير حالة الحريات الواسعة على الواقع الرقمى ورقاباتها ؟ على الرغم من ربط مفهوم الحرية، بملكيه الذات، وحرية التصرف فيها، والتأويلات المتعددة لها، إلا أن الواقع التاريخى، وتجسيدات كل مرحلة لهذا المفهوم الفلسفى، والسياسى، اتسمت بالتغير، وأدت إلى تطور هذا المفهوم، وفق النظم الاجتماعية الاقتصادية والسياسية والقانونية. من ثم تطورت تجسيدات المفهوم حقوقياً من مرحلة لأخرى، في ظل الرأسماليات الغربية، والليبرالية من الحداثة السياسية والقانونية، ثم ما بعدها، إلي مرحلة المابعديات، وخاصة فى ظل ميلاد الفرد كفاعل اجتماعى وسياسى، والفردانية. من ثم لم يعد مفهوم الحرية قاصرًا على الحريات السياسية، والفكرية، والفردية، وتنظيمها الدستورى والقانونى، وأنظمة الرقابة المختلفة.
مع ثورة الاستهلاك المفرط –فى أعقاب ثورة الطلاب 1968- والحرية الحواسية والجسدية فى أوروبا، والولايات المتحدة الأمريكية، بدى السلوك الإستهلاكي مهيمنًا على ممارسة الحرية التى تدور حول الاستهلاك المكثف والمفرط ، الذى اصبح نمط من الاستعراضات، وأدى ذلك إلي أن ” كل ما كان يُعاش على نحو مباشر يتباعد متحولًا إلى تمثيل” –وفق جى ديبور-، ومن ثم تم نسبيا تسليع متنام لمفهوم الحرية وتجسيداته فى الفكر والممارسة والسلوك السياسى والاجتماعى.
فى مرحلة ما بعد الحداثة، تحولت القيم، والمفاهيم الكلية والآراء إلى مجال النسبيات، مع نهاية السرديات الكبرى وفق ليوتار.
“تسليع الحرية” جعلها سلعة داخل سوق الاستهلاك الفعلي ، وأدى إلى تحويل ملكية الذات الفردية، لذاتها فى مفهوم الحرية، إلى سلعة فى سوق الاستهلاك المفرط. فى ظل التحول إلى الثورة الرقمية، والذكاء الإصطناعي، حدث بعض من الانفصال، والتداخل النسبى بين الذات الفعلية، ووجوهها الرقمية، فى الأسواق الرقمية المتعددة، ومواقعها ومنصاتها، وباتت جزءًا من هذه الأسواق ! التغير فى تفكُر وإدراك مفهوم الحرية فى الحياة الرقمية أدى إلى تحول من مجال المفاهيم الوجودية، و العقلية ، وأسئلتها، وإشكالياتها الأساسية إلى جزء من الممارسات الاستهلاكية الرقمية، والفعلية المفرطة، ومن التأمل، وعقل الاسئلة إلى الإجابات السابقة التجهيز، والسلوك المفرط فى سرعته فى التلقى الومضة إلى الإجابات الومضة السانحة والمرسلة، دونما تريث نسبياً . ومن القراءة الورقية إلي القراءة الومضة الخاطفة، ومن ثم ضعف التركيز! واللامبالاة النسبية بالمعلومات، ومن ثم أدى حالة التوهان الرقمى، فى ظل إدمان الحياة الرقمية في ميزانية الزمن الشخصي ، فى ظل طوفان من الصور، والفيديوهات الوجيزة، والصور، وخطابات الذات الملتاعة حول ذاتها، والأخريين.
فى ظل حالة التوهان الرقمى، ما هى سمات الوضعية الراهنة للحياة الرقمية المتغيرة، وأثرها على مفهوم الحرية المتشيئ، والسلعى، والمرقمن؟
يمكن رصد بعضها فيما يلى:
- فيضان من المعلومات، والآراء والانطباعات الكاذبة والمغلوطة بأسم حرية التعبيروالهروب من قيود الواقع الفعلي اياً كان مجاله العام حراً أو مغلقاً، أو محاصراً.
2- خطابات الهجاءات الرقمية، والتنمر، والوصم، والكراهية، وخاصة المساجلات والتنابذات والهجاءات الدينية، والمذهبية المتبادلة، وبعضُ التكفير الدينى الرقمى، والخطابات شبه العلمانية التى يشكك بعضها فى الأصول التاريخية والتكوينية للأديان، وطابعها الألهى الماورائى كردود على خطاب التكفير، والتفسيق الدينى.
3- إغراق المواقع والمنصات بالصور العارية، أو صور النجمات المثيرة من جميع الأجيال، وصور بعض من الجماهير الرقمية الغفيرة، سعيا وراء الحضور الرقمى، سواء صور شخصية أو وسط الرفاق، والزملاء، والأسرة، فى المناسبات الاجتماعية، أوسرادقات العزاء على نحو كاشف عن حلول الصور فى الحياة الرقمية سعيا وراء الحضور، والبحث عن المكانة أحيانا، أو لمحض الوجود الرقمى، بديلًا عن غياب الحضور الفعلى، أو هامشيته فى حياة الشخص. امتدت هذه الحالة الرقمية إلى الجماعات الأدبية، والثقافية. والأكاديمية، حيث الإلحاح الفيديوهاتى، وعبر الصور للترويج لبعضهم –أديبات وأدباء- للندوات أو معارض الكتب، أو نوادى القراءة أو مناقشة رسائل علمية أصبحت الصورة أهم من موضوع الرسالة وأهميته اوعدمها.
4- أدت الصور والفيديوهات على وسائل التواصل الاجتماعى إلى التحول من العالم الفعلى، والحضور خلاله إلى العالم الرقمى، بل والاحتفاء بالموت. والجنازات “للمشهورين” وغيرهم كجزء من الحضور الرقمى، وأيضا حفلات الزفاف، وأعياد الميلاد، والولادة، وصور الأطفال الخدج، والأكبر سنًا، إلى استعراضات رقمية!
5- الإفراط فى تقديم أوصاف أعداد أصناف الطعام كـ Reels من أنظمة طعام عربية وأوروبية وهندية، وصينية..إلخ، بحثًا عن التفضيلات للحصول على المال من الشركات الرقمية الكبرى وهو جزء من تعددية دوافع الإستهلاك لأنظمة الطعام والشراب.
6- تراجع مشاهدات أعمال الفنون التشكيلية المختلفة، إلى صورها الرقمية، والفيديوهاتية، على نحو أدى إلى تراجع حالة المشاهدات البصرية المباشرة، ودورها فى إنماء الذائقة التشكيلية والجمالية، لصالح الصور العابرة فائقة السرعة فى تلقيها.
5- أدت الحياة الرقمية وضوضاءها، وخطابات البذاءة والتهجم، والوصم الدينى، والسياسى، والاجتماعى، إلى هيمنة ثقافة الأكاذيب،والمعلومات المغلوطة،والتشكيك فى الوطنية –آيا كانت- والاتهامات بالعمالة لجهات مختلفة، أو داخلية، إلى حالة من الغوغائية الرقمية –Rabble- demagogy-، هذا التفكير والسلوك الدهمائي، بات نمط رقمى شائع لتوظيف مخاوف الجماهيرية الرقمية الغفيرة المسبقة، وتوظيفها فى المعارضة للسلطة، أو تعبئة لها وراء الأحزاب، أو السلطات الحاكمة عربيا، وذلك من خلال الدعاية الرقمية، والأكاذيب، وتوظيف الدعاية واستثارة حماس الجموع الرقمية الغفيرة المسبقة وتوظيفها فى المعارضة للسلطة، أو تعبئة لها وراء الأحزاب، أو السلطات الحاكمة عربيًا، وذلك من خلال الدعاية الرقمية، والأكاذيب، وتوظيف الدعاية واستثارة حماس الجموع الرقمية الغفيرة إزاء قضايا قومية أو دينية أو عرقية أو سياسية أو مذهبية ..الخ، فى أشكال من الحيل الدعائية، والدهمائية، والشعبوية معًا في بعض الاحيان!
من ناحية أخرى تقوم بعض الجماعات والأحزاب المعارضة –على نحو منظم رقميًا -بأستثارة الجموع الغفيرة من أسفل، فى مواجهة السياسات والقرارات الحكومية.
6- حالة الإفراط فى المجاملات والمشاعر الكاذبة على نحو جعل خطاب المجاملة، والمدح الرقمى نمطيًا، وإستهلاكياً، ولا يعبر عن المشاعر الفعلية الحقيقية.
7- بعض من محاكم التفتيش الدينية / الرقمية والعلمانية من بعض الأطراف، والأشخاص لبعضهم بعضاً، فى عقائدهم، وسردياتهم، بديلًا عن الحوارات الموضوعية، التى استبدلت بالشجار، وثقافة الكراهية.
فى ظل الحياة الرقمية تحولت الحرية إلى ممارسة للإستهلاك الرقمى –المنشورات والتغريدات والفيديوهات القصيرة جدا، والنظرات الومضات، والقراءات الومضات- على نحو جعلها جزء من سلوكيات الإستهلاك الرقمى المفرط، وفائق السرعة، وتحولت السياسة من الواقع الفعلى نسبيا إلى الواقع الرقمى فى الدعاية، والحشد، والتعبئة السياسية والدينية، والتنظيم للمظاهرات .. إلخ.
الدهماوية والشعبوية الرقمية في بعض الاحيان باتت بعض من سمت الثقافة الإستهلاكية الرقمية، وحولها أنظمة الرقابة الرقمية، وواسعة النطاق، وتوظيف شامل لما يجرى فى الحياة الرقمية إلى مادة لإعادة توظيفها فى استهلاك السلع والخدمات من قبل الشركات عالمية الإنتاج والنشاط. من ثم أصبحت الحرية ممارسة للاستهلاك كجزء من الأسواق الرقمية.
المصدر: الأهرام
قد لا يعبر المقال عن رأي الموقع
لماذا يعتبر تحويل ملكية الذات الفردية بظل التحول إلى الثورة الرقمية، لمفهوم الحرية، كسلعة فى سوق الاستهلاك، أي “تسليع الحرية” بجعلها سلعة داخل سوق الاستهلاك الفعلي، هو نتيجة حتمية بعصر الذكاء الإصطناعي، أم يمكن أن يحدث بعض من التداخل النسبى بين الذات الفعلية، ووجوهها الرقمية؟ قراءة موضوعية لتسليع الحرية مع الذكاء الصناعي والثورة الرقمية.