على مدى عقود، كانت نوعية الحياة تذهب إلى مزيد من التحسن بالنسبة لمعظم الإسرائيليين -حتى 7 تشرين الأول (أكتوبر).
* * *
لا يستطيع أحد أن يعرف على وجه اليقين ما هي الآثار طويلة الأجل التي ستترتب على حرب غزة والصراعات المتصلة بها في الضفة الغربية وعلى الحدود مع لبنان بالنسبة لإسرائيل. ولكن، من الآمن، حتى كتابة هذه السطور، افتراض أن هذه الحرب تمثل نهاية حقبة 20 عامًا من السلام (بالمعايير الإسرائيلية) والازدهار (بمعايير أي أحد)، والعودة إلى الدولة والمجتمع الأكثر عسكرة من أي وقت كانته إسرائيل خلال نصف القرن الأول من وجودها.
بالنسبة للغرباء، الذين تتشكل تصوراتهم عن إسرائيل إلى حد كبير عندما تصل صراعاتها الدورية مع “حماس” و”حزب” الله وإيران إلى العناوين الرئيسية، فإن فكرة أن البلد ربما يصبح أكثر عسكرة مما هو الآن تبدو غير قابلة للتصور. فعلى مدى العقدين الماضيين، خاضت إسرائيل ما لا يقل عن خمس حروب وانخرطت في حرب ظل مطوَّلة مع إيران. وكانت ميزانيتها الدفاعية -كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي- من بين أعلى المعدلات في العالم. ويتم تجنيد حوالي 69 في المائة من الشبان و56 في المائة من الشابات (من دون احتساب اليهود الأرثوذكس المتطرفين وعرب إسرائيل، المعفيين من الخدمة) في الجيش كل عام. وتمتلئ الشوارع ومراكز التسوق بالجنود في الزي الرسمي، وتحمل أعداد كبيرة من المدنيين أسلحة آلية.
ولكن، قبل 7 تشرين الأول (أكتوبر)، كان الإسرائيليون قد وضعوا وراءهم فكرة أنهم في حالة حرب دائمة، وهي الحالة التي اعتبرها آباؤهم وأجدادهم أمرًا مفروغًا منه. كانت الحروب التي خاضتها إسرائيل قصيرة، وألحقت أضرارًا قليلة -أو معدومة- بالاقتصاد أو البنية التحتية. وكانت الخسائر صغيرة. وعاد الفضل في ذلك إلى حد كبير إلى نظام الدفاع الجوي، “القبة الحديدية”، المضاد للصواريخ. وظلت القضية الفلسطينية من دون حل، لكنها كانت تصبح غير ذات صلة باطراد. ولم يكن هناك دفع يُعتد به نحو استئناف المفاوضات؛ بدلاً من ذلك، كان هناك حديث عن “تقليص الصراع” من خلال تحسين حياة الفلسطينيين تحت الحكم الإسرائيلي، من دون منحهم دولة.
ولم يكن أي من هذا وهماً كُلُّه. فقد أدت “اتفاقيات إبراهيم” التي أُبرمت في العام 2020 إلى تطبيع علاقات إسرائيل مع الإمارات العربية المتحدة ودول عربية أخرى. وقبل 7 تشرين الأول (أكتوبر)، بدا أن المملكة العربية السعودية تسير على الطريق نحو إبرام صفقة مماثلة. وتم الترحيب بإسرائيل في المبادرات الاقتصادية الإقليمية، مثل مجموعة I2U2 التي ضمت كلاً من الهند، وإسرائيل، والإمارات العربية المتحدة، والولايات المتحدة؛ و”منتدى غاز شرق المتوسط” الذي يضم كلا من قبرص، ومصر، وفرنسا، واليونان، وإسرائيل، وإيطاليا، والأردن، وفلسطين؛ و”الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا”، الذي تم الكشف عنه قبل أسابيع فقط من أحداث 7 تشرين الأول (أكتوبر). ولم يكن الحديث في إسرائيل والخليج عن شرق أوسط جديد -أقل تركيزًا على الصراع وأكثر تركيزًا على التنمية الاقتصادية- غير قابل للتحقق.
كل هذا كان له تأثير مباشر على الجيش الإسرائيلي. فقد انخفض الإنفاق الدفاعي بشكل مطرد من 15.6 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في العام 1991، عشية “اتفاقات أوسلو”، إلى 4.5 في المائة في العام 2022 -مع أنه يظل مرتفعًا بالمعايير العالمية. ولم يصبح عبء الدفاع أقل على محافظ الإسرائيليين فحسب، بل وعلى وقتهم أيضًا: انخفض العدد الإجمالي للأيام التي يقضيها جنود الاحتياط في الجيش من 10 ملايين يوم في العام 1985 إلى 4 ملايين بحلول العام 2000، وإلى مليونين فقط في العام 2018، وفقًا لـ”معهد القدس للاستراتيجية والأمن”. وكانت نسبة الشباب غير الأرثوذكس المتطرفين الذين حصلوا على إعفاء من التجنيد الإلزامي أعلى. كما انخفض الدعم للتجنيد الإلزامي -الذي يشكل مادة أساسية في العقد الاجتماعي الإسرائيلي- إلى أقل من 50 في المائة في العام 2021، وفقًا لاستطلاع أجراه “المعهد الإسرائيلي للديمقراطية”، وهو تغيير كبير في المواقف الإسرائيلية. وأصبح جيش الدفاع الإسرائيلي يعتمد بشكل متزايد على التكنولوجيا وسلاح الجو لتحقيق الردع بدلاً من كتائب الدبابات والمشاة.
منح انخفاض العبء العسكري والشعور المتزايد بأن إسرائيل آمنة ومحمية، وأنها ترتد عائدة بسهولة من الحروب الدورية، دفعة هائلة للاقتصاد. وفي الواقع، كان أحد الأسباب التي أدت إلى انخفاض عبء الدفاع إلى هذا الحد هو أن الاقتصاد كان ينمو بسرعة أكبر بكثير من الزيادة في الإنفاق العسكري. وكانت السنوات الثلاثون التي سبقت 7 تشرين الأول (أكتوبر) هي سنوات “أمة الشركات الناشئة”. وتبنت إسرائيل في هذه الفترة نموذج نشوء الشركات في وادي السيليكون بنجاح ملحوظ، وهو ما صنع لها قوة عالمية هائلة في مجال التكنولوجيا الفائقة. وخلق هذا القطاع أعدادًا هائلة من الوظائف ذات الأجور الجيدة، واجتذب مليارات الدولارات من الاستثمارات الأجنبية، وصنع فائضًا تجاريًا غير مسبوق. وانسابت الثروة عبر مكونات المجتمع الإسرائيلي ومكنت الحكومة من خفض الضرائب إلى مستوى أقل بقليل من المتوسط في دول “منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية”.
سوف تبدو إسرائيل في السنوات المقبلة، إن لم يكن لفترة أطول، مختلفة جدًا عما كانته. لتغطية تكلفة الحرب في غزة، من المتوقع أن يرتفع الإنفاق الدفاعي بما يقرب من 80 في المائة هذا العام (عندما تكون المساعدات الأميركية مشمولة)، أو حوالي 70 مليار شيكل. وما يزال هذا الرقم موضع نقاش، ولكن حتى وزارة المالية الإسرائيلية، التي عادة ما تكون شديدة البُخل، تقبل بأنه سيتعين على الإنفاق الدفاعي أن ينمو بما لا يقل عن 20 مليار شيكل سنويا. ولدفع ثمن ذلك، اختارت الحكومة خفض الإنفاق الآخَر وزيادة عجز ميزانية هذا العام إلى 6.6 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. ومن المؤكد أن هذا المستوى سيكون غير مستدام، ولذلك في حال بقي الإنفاق العسكري عند مستوى مرتفع خلال السنوات القليلة المقبلة، فسيتعين على إسرائيل في نهاية المطاف عكس الاتجاه القائم منذ وقت طويل نحو خفض الضرائب.
يبدو الارتفاع الحاد في الإنفاق العسكري حتمياً لا مفر منه، حتى لو انتهى الصراع مع “حماس” أو انتقل إلى حرب أقل حدة خلال الأسابيع القليلة المقبلة. فقد علّم هجوم “حماس” في 7 تشرين الأول (أكتوبر) الجيش الإسرائيلي أن التكنولوجيا لها حدودها (تغلبت “حماس” بسهولة على الدفاعات الإسرائيلية على طول حدود غزة)، وأنه لا شيء يمكن أن يحل محل القوات على الأرض. ومن المقرر تمديد فترة التجنيد الإلزامي إلى ثلاث سنوات كاملة بدلاً من العامين وثمانية أشهر في الوقت الحالي. وسوف يتم استدعاء جنود الاحتياط في أوقات أكثر تكرارًا. وقد تم إبلاغ العديد من جنود الاحتياط الذين أعيدوا إلى منازلهم من غزة في الأسابيع الأخيرة بأنه سيتم استدعاؤهم مرة أخرى في القريب.
كما علّمت الحربُ نفسُها صناع القرار الإسرائيليين درسًا مهمًا آخر، وهو أن الصراعات المستقبلية تهدد بأن تكون طويلة وتستهلك الذخيرة بمعدل هائل. لم تكن إسرائيل، من دون الجسر الجوي الأميركي، لتمتلك الذخائر اللازمة لمواصلة الهجوم على غزة لأنها تفتقر إلى القدرة التصنيعية المحلية. وسوف يتعين على إسرائيل الآن التخلي إلى حد ما عن تركيزها على الإلكترونيات الدفاعية والحرب الإلكترونية لصالح إنتاج المزيد من القنابل وغيرها من الذخائر منخفضة التقنية، وإنفاق المزيد من الأموال على تكديس مخزونات أكبر من الأسلحة. وقال رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، إنه سيطلب من الحكومة الموافقة على قرار لتوسيع الصناعات العسكرية الإسرائيلية بشكل كبير.
من المحتم أن يتردد صدى هذه التغييرات في جميع أنحاء الاقتصاد. ومن الطبيعي أن تؤدي الضرائب المرتفعة إلى ردع تطوير الأعمال والنمو، وفي نهاية المطاف، النمو الاقتصادي. وقد تمتعت إسرائيل لسنوات عديدة بتصنيف ائتماني قوي بطريقة استثنائية بفضل مواردها المالية الحكومية السليمة، لكن بيئة أمن قومي أقل أمنًا وحماية سترفع المعيار لإقدام المستثمرين العالميين على وضع الأموال في إسرائيل. وفي وقت مبكر من الحرب الحالية بين إسرائيل و”حماس”، خفضت “ستاندرد آند بورز” و”موديز” و”فيتش” النظرة المستقبلية لإسرائيل لتصبح سلبية.
سوف تكون لبيئة أمنية أكثر توترًا آثار عميقة على قطاع الشركات الناشئة في إسرائيل، الذي يجمع نصف رأسماله أو أكثر من الخارج ويعتمد بشكل كبير على قوة عاملة من الشباب والذكور بأغلبية ساحقة، التي ستذهب الآن إلى تأدية المزيد من الخدمة العسكرية. ويمكن أن يغادر المهندسون ورجال الأعمال بسهولة إلى الخارج إذا رأوا أن الظروف في إسرائيل تصبح غير مواتية بشكل متزايد. وقد تؤثر المخاوف الأمنية سلبًا على المرونة الشهيرة للشركات الإسرائيلية -القدرة على التكيف مع الهجمات (الإرهابية) والصاروخية وتلبية طلبات العملاء. وكانت هذه المرونة تستند، جزئياً على الأقل، إلى الثقة السائدة بأن إسرائيل محصنة دفاعياً ومحمية جيدًا وتتحرك ببطء -وإنما بثبات- نحو حقبة أكثر سلامًا وتصبح أكثر قبولاً على المستوى الإقليمي. والآن، يرى المزيد والمزيد من الإسرائيليين بلدهم وهو يتحرك في الاتجاه المعاكس.
كانت آخر مرة عانت فيها إسرائيل من مثل هذه الصدمة الكارثية لثقتها العسكرية بنفسها قد حدثت في الحرب العربية الإسرائيلية في العام 1973. وأدى ذلك في تلك الفترة إلى ارتفاع حاد في الإنفاق الدفاعي وعَقد أو أكثر مما يشير إليه المؤرخون في كثير من الأحيان على أنه “السنوات الضائعة” لإسرائيل اقتصادياً. ولم تكن صدمة العام 2023 قريبة في أي مكان من حيث الحجم مما يحدث الآن، وسيكون التأثير أصغر. فقد أصبح الاقتصاد الإسرائيلي أكبر بمرات عدة؛ وخلافًا لما حدث في العام 1973، لا يبدو أن الاقتصاد العالمي يتجه نحو ركود يمكن أن يجعل جهود التعافي التي تبذلها إسرائيل أكثر صعوبة؛ ولدى إسرائيل صناعاتها في مجال الطاقة والدفاع لتعتمد عليها. ومن المتوقع أن تنمو صناعة الدفاع بسبب ارتفاع الطلب المحلي والعالمي (الأخير بسبب الحرب في أوكرانيا)، في حين تتوقع صناعة الغاز الطبيعي الإسرائيلية ارتفاعًا كبيرًا في الطلب عليها من مصر وأوروبا. وقد تؤدي جولة جديدة من تراخيص التنقيب التي مُنحت بعد وقت قصير من بدء حرب غزة إلى توسيع الإنتاج.
ومع ذلك، فإن العودة إلى إسرائيل الأقدم والأكثر عسكرة لن تكون سهلة. فقد حفزت الحرب الحالية موجة من الوطنية ورغبة أكبر لدى الشباب -ليس للخدمة في الجيش فحسب، وإنما حتى للتطوع في الخدمة القتالية. لكن روح العصر المؤقتة هذه، النابعة من الظرف، ربما لا تدوم. ويبقى نتنياهو شخصية مسببة للاستقطاب بشدة، وما تزال البلاد منقسمة بشكل حاد حول القضايا التي كانت مثيرة للجدل قبل 7 تشرين الأول (أكتوبر)، بما فيها برنامج الإصلاح القضائي الإشكالي الذي طرحته الحكومة. ومن المؤكد أن بعض أفراد جيل الشباب الذين نشأوا في عصر من الراحة المادية المتزايدة سينزعجون من احتمال فرض ضرائب أعلى والمزيد من الالتزامات تجاه الدولة. وسيكون لدى الأذكى والأكثر نجاحًا بينهم خيار الهجرة. وهو ما يعني أن هجرة الأدمغة يمكن أن تكون نكسة أخرى تصاب بها إسرائيل نتيجة للحرب.
*ديفيد روزنبرغ David E. Rosenberg: محرر الاقتصاد وكاتب عمود في الطبعة الإنجليزية من صحيفة “هآرتس”، ومؤلف كتاب “اقتصاد التكنولوجيا في إسرائيل” Israel’s Technology Economy.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: The End of Prosperity in Israel
المصدر: الغد الأردنية/(فورين بوليسي)
الدويلة الوظيفية “إSرائيل” منذ 15-05-1948 هي عصابات مسلحة من الهاجانا لقطعان المسTوطنين بقياد بن غFير، كانت بالأعوام الأخيرة مشاريع تطبيع مع هذه الدويلة لذلك كان هناك شبه إستقرار ونوع من السلام (بالمعايير الصhيونية) والازدهار، لتنتهي بعد أوكتوبر 2023 وتعود لحالتها الطبيعية بالعسكرة الكاملة، فهل هناك منعكسات أخرى؟،