اولا. إن المتتبع لمسار الوضع السياسي التركي منذ عام ٢٠٠٢ تاريخ استلام حزب العدالة والتنمية التركي السلطة في البلاد وإلى الآن، لا بد ان يتوقف مليا اما قصة نجاح متميز لحزب وضع استراتيجيات وخطط للحكم والدولة والمجتمع وما يطال كل مناحي الحياة، واستطاع أن ينفذها وينجح بالاستمرار بالحكم ديمقراطيا عبر انتخابات برلمانية عدّة، وأن يضع في سدة الرئاسة رئيسين متتالين من حزبه: عبد الله غول ورجب طيب أردوغان مؤسس الحزب ورئيسه، وما زال اردوغان رئيسا لتركيا الآن وإلى عام ٢٠٢٨ م
ثانيا. جاء حزب العدالة والتنمية للحكم في تركيا، وفي أجندته خططا كاملة لتركيا على -كل المستويات- كما يجب أن تكون برؤية الحزب، حيث كانت تركيا تعاني من ازمة اقتصادية و تعيش صراع مرير مع ال ب ك ك حزب العمال الكردستاني، واحزابها ضعيفة وبلا أفق، واغلب قياداتها مهتم بمحاصصاته ومصالحه الضيقة، تحالف رجال السياسة والمال والأعمال والجيش (الدولة العميقة) تهيمن عليها وتمتص خيراتها، حيث القانون شبه غائب ودستور انقلابي يفعّل حضور الدولة العميقة، لضرب أي تغيير حقيقي في تركيا يحاول ان يلغي هيمنة هذه الفئات؛ تحت حجة حماية الدولة التركية والعلمانية وغيرها، وسياساتها تابعة للغرب وعلى رأسه أمريكا؛ عبر مواقف سياسية متناقضة مع هوية تركيا وتاريخها وموقعها خاصة لصالح (اسرائيل)، فهي عضو في حلف الناتو ورأس حربة له على الحدود مع الاتحاد السوفييتي السابق وروسيا لاحقا.
ثالثا. وصل حزب العدالة والتنمية الى الحكم بمفرده، مما جعله يباشر بتغييرات جوهريه على كل المستويات، فعلى المستوى الاقتصادي دخلت تركيا في معدلات نمو قياسية وتحولت من مدين إلى دائن، وقويت العملة التركية وتعافى الاقتصاد، ووجد التركي نفسه في حياة ﻻئقة وبدأت عجلة التغيرات النوعية في الاقتصاد؛ تظهر الجسور وتتكاثر، والقطارات تمتد في طول البلاد وعرضها، وكذلك المترو وتنمو السياحة، وتظهر فرص العمل وحصلت نهضة عمرانية كبيرة، وراكم كل ذلك لتصبح تركيا في الموقع ١٦ من أكبر اقتصادات العالم.
رابعا. وعلى المستوى الداخلي سياسيا عمل الحزب بشكل جدي لحل المشكلة الكردية، فانهى الصراع مع الدولة، واستطاع امتصاص الاحتقان ونقل الأكراد من أن يكونوا كتلة صراع مع الدولة والمجتمع، ليكونوا جزء من سياستها وليدخلوا في اللعبة السياسية، وتبدأ أوضاعهم الحياتية بالتحسن و تبدأ مناطقهم بالتطور؛ والدخول في بنية الدولة وتتحسن أوضاعهم المعيشية، وبدأ الحزب بالتدريج يتجاوز نقاط الضعف في الدستور؛ عبر تمرير تعديلات به في كل فترته بالحكم وكونه يمثل اغلبية نيابية، في تحجيم الجيش وإعادته ليكون تابعا للدولة.
خامسا. أما خارجيا فتكاد تكون سياسات الحزب انقلاب على سياسات تركيا السابقة.، فقد أعاد الاعتبار لعلاقة تركيا بامتدادها الإقليمي والإسلامي، وأخذت مواقف عادلة من قضايا المنطقة في فلسطين ولبنان والعراق وغيرها، وعمل نظرية تصفير المشاكل مع الكل، ومد الجسور الاقتصادية والسياسية ودشّن عصر الغاء الفيزا بين تركيا وعدد كبير من الدول، وتطورت السياحة والأعمال وأصبحت تركيا قبلة يتوجه لها كثير من الناس والدول.
سادسا. وعند مجيئ الربيع العربي والثورات كان موقف الحزب ومن ثم تركيا مع حق الشعوب العربية بالحرية والعدالة والديمقراطية، و تفهما لموقف الشعوب وعدائها للدولة الاستبدادية الظالمة، وأخذ موقفا استراتيجيا مع الشعوب الثائرة، جعله وتركيا من خلاله يدفع ثمن ذلك بمواجهة اطراف دولية واقليمية وجدت نفسها مع الأنظمة الاستبدادية أو مستفيدة من وجودها، او مستثمرة بالصراع الداخلي المرعي دوليا وإقليميا، والذي طال بلاد الربيع العربي كلها تقريبا.
سابعا. لم ترض أغلب الدول الإقليمية عن دور تركيا من الربيع العربي وخاصة من الثورة السورية، ولا عن نهضتها وتطورها ودورها الإقليمي والعالمي، فسرعان ما تكتلت جهود النظام الاستبدادي السوري مع روسيا وإيران على خلق الفتن الداخلية في تركيا، وذلك عبر أحزاب سياسية كانت قد انحازت للسلم الاهلي؛ والمقصود حزب العمال الكردستاني الذي اعطى وعودا بدعمه حتى يقاتل الدولة التركية ليصل لدولته القومية على جزء من تركيا؛ وعادت العمليات الإرهابية لل ب ك ك وامتداده السوري ال ب ي د، وبدأت تركيا حرب معلنة ضده: حرب على الإرهاب الذي يستهدف الامن القومي التركي وما زالت مستمرة، وكذلك ارتابت الدول الأوروبية والغرب عموما من اسلامية الحزب رغم انه يعلن علمانيته وديمقراطيته دوما، ودعمت الأكراد تحت دعوى حقوقهم القومية، ودعمت أيضا جماعة الكيان الموازي فتح الله غولن الذي فك تحالفه مع الحزب، وذلك عندما أظهر موقفه المختلف مع الغرب تجاه قضايا المنطقة خاصة فلسطين ولبنان والربيع العربي بعد ذلك، فقررت جماعة غولن أن تستثمر تغلغلها كبنية حزبية سرية في كل أركان الدولة والمجتمع، وقامت بتسريبات وأعمال عدائية ضد حكومة الحزب، وكان آخرها وأخطرها محاولة الانقلاب عام ٢٠١٦م التي افشلها الشعب التركي، والتي استفاد منها الحزب و الحكومه لتقوم باقوى واكبر حملة اعتقالات طالت كوادر واعضاء الكيان الموازي في الجيش والدولة والمجتمع وصلت لعشرات الالاف.
ثامنا. وبالعودة إلى الخيارات الاستراتيجية للحزب وقدرته على أن يتأقلم مع المستجدات الداخلية والخارجية، ويعود أقوى مستمرا بتنفيذ خططه الاستراتيجية، فبعد أن شرعن شعبيا حربه على ال ب ك ك ك ارهاب يطال الدولة والمجتمع التركي، وبعد أن اعاد تعديل المسار السياسي مع الروس الذين حولهم من عدو محتمل الى شريك اقتصادي وشريك أساسي في حل قضايا المنطقة بحدود التوافقات بينهم وهذا ما حصل مع ايران ايضا، حيث ثبتت المصالح الاقتصادية وتوافقوا معهم والروس على دور فاعل في سوريا كان من منتجاته مؤتمرات الاستانه بكل مراحلها، كما انها لم تغلق الباب على التنسيق مع الغرب وأمريكا في الملف السوري وداعش؛ حيث استطاعت أن تكون طرفا له قواته العسكرية على الأرض داعما للجيش الحر ومحجما لل ب ي د رغم ان ذلك لم ينجح تماما، لان الأمريكان ساعدوا ال ب ك ك ممثلة ب ال ب ي د وقوات سورية الديمقراطية في السيطرة على شرق الفرات وشمال شرق سوريا مستفيدين من ثرواتها الزراعية و نفطها وغازها. علما أن تركيا ترى قوات سوريا الديمقراطية و ال ب ي د تهديدا قوميا وارهابا لأمنها القومي.
تاسعا. وعلى المستوى الداخلي استمرت حكومة العدالة والتنمية معركتها مع ال ب ك ك وحجمته نسبيا، و أجهزت تقريبا على الكيان الموازي وها هي تلاحق -دوليا- رموزه وخاصة فتح الله غولن، وحاربت إرهاب داعش داخل تركيا وخارجها -في سوريا خاصة- وحجمت تواجدها واعتقلت اغلب خلاياها النائمة. في تركيا، واحكمت اغلاق الحدود مع العراق وسوريا منعا لتسربهم للداخل التركي، وتعمل جاهدة اقناع الامريكان انهم هم الاكفأ للمشاركه لضرب داعش في سوريا من ال ب ي د بغطائها المسمى قوات سورية الديمقراطية، وهاهي تقنع كل الاطراف انها مهمه جدا لمستقبل أي حل في سوريا، وتثبت نفسها كعراب وضامن وراعي لاتفاقات الأستانة التي ثبتت في النهاية تموضع الاطراف على الارض شمال غرب سورية وادلب شمال حلب محكومة من قوات الجيش الحر المرعية من تركيا وكذلك إدلب تحت سلطة هيئة تحرير الشام توافقات دولية إقليمية ، هذا غير واقع قوات سوريا الديمقراطية وال ب ي د وهيمنتها على شرق الفرات برعاية امريكية
عاشرا. واستمرارا لخطة حزب العدالة والتنمية بتغيير السياسة التركية جذريا، فقد كان أهم ملف يجب أن يحسمه هو ملف الدستور التركي؛ الذي كان عند كل الأطراف داخليا وخارجيا نموذج للنصر العظيم او الهزيمه القاسيه لحزب العدالة والتنمية والرئيس أردوغان، لذلك لاحظنا الاهتمام الدولي والإقليمي والأدوار الكثيرة لأوروبا التي عملت ضد توجهات الحزب لتعديل الدستور وفق اعتباراتها الخاصة، وحصلت أكبر حملة إعلامية ونشاط محموم عبر كل وسائل التواصل الاجتماعي وميدانيا، ولم يترك أي منبر او اسلوب او حجة إلا واستخدمت ممن مع وضد الدستور الجديد، وحصل الاستفتاء وأقر تعديل الدستور بنسبة ضئيلة فوق النصف، لكنها كافية لحسم المعركة نصرا للحزب بالنقاط وليس بالضربة القاضية، و محاولة فهم هذه النسبة الملتبسة نقول ان الاتراك كانوا متخوفين على ديمقراطيتهم، وبالتالي لم يصوتوا حسب توجهاتهم الحزبية؛ بل حسب قناعاتهم الشخصية ومقدار استيعابهم للحالة وابعادها، والاهم ان كثير ممن صوتوا بنعم كان موقفهم قائما على الثقة الشخصية بالرئيس أردوغان وحزبه وأنه ضمانه المستقبل، وان كثير من الاكراد صوتوا بنعم لأنهم قرروا الانحياز للدولة ورموزها حزب العدالة والتنمية وأردوغان، في مواجهة ال ب ك ك حزب العمال الكردستاني الذي يريد ان يعيدهم الى الصراع السابق ونتائجه المأساوية عليهم بشكل أساسي في مناطقهم وعلى اولادهم ولمستقبلهم الشخصي قبل الدولة التركيه عموما
حادي عشر: ان الانتخابات البلدية الاخيرة ادت لتراجع حظوظ حزب العدالة والتنمية في تركيا إلى الدرجة الثانية بعد حزب الشعب الجمهوري ال ج ه ب حزب أتاتورك التاريخي، كما خسر اهم بلديات المدن الكبيرة اسطنبول وانقرة وازمير. مع إدراك أن عوامل كثيرة تدخلت لهذه النتيجة، منها غلاء المعيشة وانخفاض قيمة الليرة التركية أمام الدولار. و احجام انصار اردوغان وحزب العدالة والتنمية عن المشاركة في الانتخابات البلدية احتجاجا على عدم صدور موقف حازم من عدوان الصهاينة على أهلنا في غزة…
بكل الأحوال قرر أردوغان رئيس حزب العدالة والتنمية ورئيس تركيا ايضا الى عام ٢٠٢٨م ان يقوم بمراجعة جدية لمسار الماضي ويجهز الحزب لانتخابات الرئاسة والبرلمان القادم في عام ٢٠٢٨م….
اخيرا. يتصرف الرئيس اردوغان و حزب العدالة والتنمية الآن ينسق لخلق توافقات مجتمعية و حزبية للشروع في إنجاز دستور جديد لتركيا ، ومعيدا لهجته التصالحية مع اوربا واعتبار الانضمام للاتحاد الأوروبي خيارا تركيا استراتيجيا، ومغازلة الامريكان موضحا لهم أن تركيا هي الأقرب لهم لتنفيذ سياساتها في المنطقة خاصة سوريا والعراق، ومحولا تركيا لطرف ضامن وفاعل في ملفات المنطقة كلها وخاصة ملف الإرهاب .
.ونحن انطلاقا من مصلحة الشعب السوري وثورته؛ نؤكد أن تركيا ديمقراطية ودون مشاكل داخلية ناجحة سياسيا و اقتصاديا؛ هي سندا لنا وداعما لتحقيق مطالبنا بإسقاط الاستبداد وبناء الدولة الوطنية الديمقراطية في سوريا، فأكبر تواجد سوري فيها وتعاملها كدولة مع السوريين يكاد يكون نموذجيا، ونجاحها كنموذج ديمقراطي علماني بخلفية إسلامية وعادل ينتصر لمصالح عموم الناس مهم جدا لنا؛ و يقوي في نفوسنا و حياتنا الامل والعمل لننتصر لمطالبنا باستمرار ثورتنا لإسقاط النظام الاستبدادي المجرم والعمل لبناء دولتنا الوطنية الديمقراطية.
١٢ . ٥ . ٢٠٢٣م
قد لا يعبر المقال عن رؤية الموقع
تقييم موضوعي لحزب العدالة والتنمية، قيادة وطنية تعمل لصالحها ولصالح حزبها وشعبها وتقاطع هذه المصالح مصالح شعبنا وثورتنا كانت داعمة لثورتنا، ولكن نتمنى أن لاتكون المصالح هي المعيار للعلاقات،