دأب نظام الحكم في إيران، منذ عقود، على الاشتغال حثيثاً باتجاه مدّ النفوذ وإتاحته لمشروعه في المنطقة والجوار، والعمل بكلّ أدواته السياسية والعسكرية والأمنية لإنتاج واقع سياسي، وجيو سياسي، يواكب حالة تمدّده، وإنفاذ أطماعه في المحيط الإقليمي العربي، في أتون تحرّك ميداني ضمن سياسة إعادة رسم ملامح واقع إقليمي جديد، لا يعادي الأميركان، ويحافظ على الوجود الإيراني في المنطقة جلّها، محققاً مزيداً من الانزياحات الكبرى المهيمنة في الجوار العربي، مسيطراً على أربع عواصم عربية على الأقل، وخصوصا وجوده داخل الجغرافيا السورية، التي تمكّن من الهيمنة على مساحات كبرى فيها، وهو (المشروع الإيراني) يتمدّد في الحيّز الذي باستطاعة النظام السوري الوصول إليه، سيما بعد عام 2011، وهبوب رياح التغيير و”الربيع العربي”، الذي اجتاح المنطقة العربية، منذ أكثر من عقد.
ولعل الوجود الإيراني العسكري والأمني والثقافي كان متموضعاً في سورية، ليس فقط منذ استلام بشّار الأسد مقاليد السلطة والحكم، بعد عام 2000، إثر رحيل والده حافظ الأسد، لكنّ الإيرانيين كانوا موجودين في الحالة السورية بالتساوق مع حكم حافظ الأسد، إبّان انتصار ما سُمّيت “الثورة الإسلامية” في إيران أواخر سبعينيات القرن الفائت، غير أنّ الوجود الميداني الأكبر والأكثر حضوراً للإيرانيين في سورية واكب حالة الربيع السوري، فالإيراني اعتبر أنّ أي اهتزاز أوترنّح في بنية نظام بشّار الأسد إنّما سينعكس بالضرورة وسلباً على المشروع الإيراني ومحور الممانعة، وأنّ أي انهيار لنظام آل الأسد سيقوّض بالضرورة جلّ امتدادات المشروع الإيراني، وقد ينهي وجوده العملي في المنطقة برمّتها، وهو ما دفع نظام الملالي للانخراط ميدانياً وعسكرياً في الحالة السورية، وهو الذي نصح نظام بشّار الأسد (كما قيل مع بدء الاحتجاجات في درعا والجنوب السوري) بالانقضاض العسكري العنيف، وقطع دابر الثورة السورية، وإعادة السوريين إلى المعتقلات، ومن ثمّ فإنّه يجوز للنظام السوري وأعوانه استخدام الأسلحة المتوفّرة كلّها أو التي يمكن أن يوفّرها له الإيرانيون، من سلاح كيميائي أو باليستي ثمّ براميل “غبية”، ومليشيات طائفية، استُقدِمَتْ من كلّ أصقاع الأرض لقمع المظاهرات السلمية في سورية، ثمّ دكّ حصون الجيش السوري الحرّ، ومن بعده الجيش الوطني، بعد أن دفعت إيران وتوابعها من أجل التسلح، ليسهل عليها قمع الثورة وهدم ما بنته، وإهالة التراب عليها، فيما لو استطاعت إلى ذلك سبيلاً.
لم يكن موضوع القضاء على ثورة الشعب السوري هيّناً ولا متاحاً، رغم مشاركة ما ينوف عن 120 ألف مسلح مدرّب، يتبعون إيران على الأرض السورية، من حرس ثوري إيراني ومليشيا حزب الله و”فاطميون” و”زينبيون”، وكثير من التشكيلات العسكرية التي تدور في فلك إيران وقواها، وكان يقودها قاسم سليماني، قبل أن يقتل ويتسلّم المليشيا بعده إسماعيل قاآني. الوجود العسكري الإيراني في سورية كبير وممتدّ على مساحات كبرى من الجغرافيا السورية، تبدأ من دمشق وريفها الشرقي والغربي، وصولاً إلى الحدود اللبنانية، ثم حلب وريفها، وكذلك دير الزور والبوكمال، وفي حدودٍ كثيرة مع العراق، ليكونوا حارسي المنافذ الحدودية، التي من خلالها يُهرّب السلاح من طهران إلى العراق (الحشد الشعبي التابع لإيران)، وصولاً إلى الأراضي السورية، ثم حزب الله في لبنان، ضمن لعبة المصالح، وتضخّم البعبع الإيراني في المنطقة، وسط مراقبة ومتابعة العين الأميركية، والإجهاز على بعض الأماكن الموجودة فيها مليشيات إيرانية أو تابعة من الإسرائيليين وفق لعبة القطّ والفأر، ومنع تمدّد الخطر الإيراني نحو حدود فلسطين المحتلّة، على أساس وهدي سياسة صراع المصالح بينهما، من دون أن يصل إلى حالة العداء.
أخيراً، وبعد المناكفات العسكرية والتغيرات ضمن حالة التفاهمات بين إيران وأميركا وإسرائيل، وبعد أن احمرّت العين الإسرائيلية والأميركية على الإيرانيين، إبّان إطلاق المُسيّرات الشكلانية، وما قبلها وما بعدها، تحدّثت طهران ومن معها عن محاولات إيرانية للتقليل من الوجود الإيراني العسكري في الجنوب السوري، حيث لا تريد إسرائيل له أن يوجد. وبالفعل، جرت تحرّكات تمويهية إيرانية، وليست حقيقية، وانسحابات وإعادة تموضع، على أساس وقف حالة التصعيد التي لا تريدها إيران، ولا تودّ أنّ تخسر فيها كثيراً من بنيتها العسكرية، عبر حربٍ مفتوحة قد تحصد جلّ البناءات الكبرى التي اشتغلت عليها لإنتاج أساسات متينة للإمبراطورية الفارسية المزمعة، والتي تودّ إنشاءها وريثة لإمبراطورية (كسرى أنو شروان) المنهارة تاريخياً على يد الفتح العربي الإسلامي. وهي التي تعلن وترسل الرسائل تلو الرسائل، للأميركيين والإسرائيليين، بأنّها لا تريد حرباً مفتوحة مع إسرائيل. وتدرك أميركا، ومعها إسرائيل، أنّ إيران ليست معنية جدّياً بحرب غزّة، مهما صرّحت أو لعبت بحرب العواميد أو عبر صمتها الاستراتيجي، وهي غير معنية واقعاً بدماء العرب الفلسطينيين في غزّة أو الضفّة الغربية، ومن ثمّ فإنّ حفاظها على نفسها وقوّتها العسكرية، وكذلك مفاعلها النووي، أكثر أهمّية بما لا يقاس بأيّ سقوط لعشرات آلاف الشهداء من أهلنا في غزّة.
ولا بدّ أنّ الشارع الفلسطيني، وبعد ما يزيد عن مائتي يوم من العدوان الإسرائيلي على غزّة، يعي أنّ صواريخ إيران ومسيّراتها كانت لحفظ ماء الوجه، وأنّ مصالح إيران هي أولاً، ولا يتقدّمها شيء، وأنّ هناك تفاهمات جمّة مع الإسرائيليين والأميركيين، ليس في فلسطين فقط، بل أيضاً في سورية والجنوب السوري، وأنّ وجود إيران في سورية هو استراتيجي بالنسبة للإيرانيين. لقد موّهت إيران وجودها في الجنوب السوري، ولم تنسحب، بل ولا يمكن أن تنسحب من الجغرافيا السورية، إلا رغماً عنها. وكلّ ما يمكنها فعله إعطاء ضمانات حقيقية لإسرائيل وأميركا بأنّ أمن إسرائيل مصون، وأنّ حدود الأخيرة في لبنان وفي سورية محميّةً من أدوات إيران في لبنان حزب الله وتوابعه، بينما يحافظ بشّار الأسد كثيراً على حدود إسرائيل، وهو الذي تسلّم من أبيه اتفاقاً لفضّ الاشتباك (1974) إبّان حرب أكتوبر (1973)، كان نظام الأسد أكثر الأنظمة حفاظاً عليه، وما زال، وهو يعمل بكلّ ما يستطيع على حماية أمن إسرائيل واقعياً وليس كلامياً أو إعلامياً.
ويعتقد المتابع السوري أنّ جنوب سورية، اليوم، لم يعدْ همّاً إسرائيلياً، وهو لن يهدّد أمن إسرائيل بوجود مليشيا الكبتاغون الأسدي، التابع لحزب الله ومليشيا الحشد الشعبي العراقي، ولم يعدْ هناك ما يقلق النظام السوري وتوابعه إلا موضوع الحراك الشعبي الوطني في جبل العرب والسويداء، بعد مضي أكثر من سبعة أشهر على انطلاق انتفاضة أهل السويداء، والذي أقلق بحقّ نظام الأسد، لذلك فهو يحشد اليوم العسكرتاريا لحصاره أو الانقضاض عليه، فيما لو سمحت له الظروف الإقليمية والدولية بذلك.
المصدر: العربي الجديد
الوجود الإيراني العسكري والأمني والثقافي متموضع بسورية قبل استلام بشّار الأسد مقاليد السلطة والحكم عام 2000 لأنهم كانوا أيام الأسد الأب بالحالة السورية، لذلك التوئمة بين نظام طاغية الشام الأب ومن ثم الإبن مع نظام ملالي طهران وأذرعته متكاملة، وما يدعيه بخروجهم من الجنوب بروباغندا شبعنا منها.