كثيرة هي الكتابات التي تمحورت حول الثورة السورية التي انطلقت قبل ثلاثة عشرة عامًا بتظاهرات أطفال درعا الأبرياء.. بعضها لا يعترف بها كثورة ويصنفها كمجرد انتفاضات شعبية غير منسقة وغير منظمة.. وكثير من تلك الكتابات لم ترتق إلى حد التقييم الموضوعي العميق لمآلات الثورة وأسباب انتكاستها حتى الآن. بعضها الآخر تحدث بشجاعة وجرأة عن أسباب ذاتية وموضوعية جدية وعميقة لواقع حال الحركة الشعبية السورية كما هي اليوم بعد ثلاثة عشر عاما دفع فيها الشعب السوري تضحيات عظيمة وأثمانا باهظة ولما يزل دون أهدافه في الحرية والكرامة والحكم الوطني العادل ..خلاصة مثل هذه التقييمات الموضوعية يتمثل في انعدام الحياة السياسية في سورية في العقود الأربعة التي سبقت الثورة وما تسبب هذا في غياب أدوات العمل السياسي وآلياته الطبيعية التي كان من شأنها أن تفسح المجال واسعا لبلورة قيادة سياسية وطنية للثورة ومساراتها المتعرجة صعودا وهبوطا. كثير من تلك الكتابات توقف عند التدخلات الخارجية العربية الرسمية والإقليمية والدولية وجميعها كانت محصلاتها سلبية في مسيرة الثورة مخربة ومعرقلة بل مدمرة في أغلب الأحيان..
وتوقف البعض عند غياب التنظيم الحركي الميداني لفعاليات الثورة خلال مسيرتها وما سبب ذلك وآثاره ونتائجه السلبية أيضا. نتوقف هنا عند عدد من الظواهر التي ساهمت في تراجع اندفاعة الثورة وكانت سببا مباشرا في تشويه صورتها مما أدى إلى تكوين موقف سلبي لدى بعض الفئات العربية الحزبية وغير الرسمية..
1 – من طبائع الاستبداد والقهر الذي يمارس لفترة طويلة أن يؤدي لتشوه في شخصية الأفراد لا سيما أولئك الذين ينشطون متفاعلين مع الأحداث مهتمين بنتائجها ؛ فلا يكتسبون القدرة على التمييز بين ما هو شخصي وآخر شعبي جماهيري فتنقلب الأمور إلى نوع من النرجسية المعيقة والسلبية حيث يسقط الفرد أوضاعه الشخصية وتطلعاته الذاتية على حركة الشعب فيعيقها ولا يتركها تتحرر من نرجسيته إلا وقد باتت في قبضته لا تنفصل عنه إلا وقد حقق كثيرا من المكاسب الشخصية والفئوية على حساب الثورة وباسمها..
وإن كانت نوازعه الوطنية غير مشكوك فيها.. وهذا ما حصل مع بعض الشخصيات التي كان يؤمل منها دورا وطنيا جامعا وقياديا فتخلت عن هذا الدور بسبب نرجسيتها التي كسبتها خلال سنوات القهر الطويل في مقابل رغبتها في التحرر والتغيير في أجواء لا تسمح بأي نوع حر من العمل السياسي والشعبي متحرر من قيود الأجهزة والارتهان لها..
2 – إن التدخلات الرسمية العربية التي اتخذت اسميا شكل الوقوف إلى جانب الثورة، كانت أحد الأسباب التي أدت إلى انحراف الثورة عن مسارها الشعبي الوطني الحر ليتبين لاحقا أنها كانت تدخلات مبيتة بقصد احتواء الثورة وتفخيخها من الداخل لحرفها عن مسارها الشعبي المستقل وبالتالي منعها من تحقيق أهدافها في إقامة حكم وطني ديمقراطي متحرر من الهيمنة الخارجية بأنواعها. ولعل تلك التدخلات وما أفرزته من تشكيلات ميليشيوية مسلحة تحمل شعارات دينية إسلامية كغطاء لأهدافها الخبيثة المبيتة والتخريبية؛ كانت ليس فقط سببا في تخريب الثورة وتمزيق الحركة الشعبية؛ بل السبب الأساسي لسوء الفهم البريء الذي وقع فيه بعض الوطنيين أو القوميين من أبناء البلاد العربية فخلطوا بين الثورة الشعبية وبين تلك الميليشيات وشعاراتها الدينية الزائفة. وإذا كان صوت القوى الوطنية الشعبية الحقيقية لم يرتفع فوق تلك القوى الميليشيوية ليشكل تيارا عريضا مناصرا للثورة ؛ فلأن تلك القوى الحرة الشريفة المستقلة كانت ولا تزال محاصرة ومستهدفة من النظام الرسمي والإقليمي وكل قوى وفعاليات النفوذ الأجنبي المباشرة كالأجهزة الأمنية والإعلامية والسياسية وحتى من تلك غير المباشرة لتصل إلى مستوى الجمعيات الإغاثية التي تعمل لتوزيع مساعدات غذائية على النازحين والمحتاجين فيما هي تمارس دورا استكماليا للنفوذ الأجنبي وأهدافه الخبيثة في تفتيت المجتمع السوري وبعثرة ثم احتواء الفعاليات الشعبية المتفرقة ومنعها من التفاعل فيما بينها بما قد يؤدي بها إلى نوع من التضامن والتفاعل والتنظيم والتوحد..
جميعها تستهدف فعاليات الحركة الشعبية لإبقاء وتكريس الصورة السلبية للثورة السورية وبالتالي استمرار ذلك الانقطاع بين الفئات الشعبية العربية وغياب التنسيق بينها بسبب من التخيلات السلبيات المتبادلة الواحدة عن الأخرى..
ولقد أكدت حقائق ومجريات الأحداث الدامية في غزة وفلسطين وما فيها من عدوان همجي إجرامي صهيوني على شعبنا العربي في فلسطين وإبادة جماعية وتدمير ممنهج للحياة والناس في غزة الأبية؛ ومن تواطؤ رسمي عربي مخز ومثير للشكوك والريبة إضافة إلى المشاركة الغربية ولا سيما الأمريكية مباشرة في العدوان؛ أن هذه القوى جميعها ليست في وارد القبول بأي انتصار تحققه أية حركة شعبية عربية؛ ليس فقط في فلسطين بل في كل بلد عربي. وتأتي سورية ومعها دول المشرق العربي ودول الطوق المحيطة بفلسطين في طليعة البلاد التي ترتجف تلك القوى – مجتمعة ومنفردة – من انتصار الحركة الشعبية فيها..
وكما تقف متفرجة على المجازر بحق شعب فلسطين وقفت بالأمس تتفرج على ذبح الشعب السوري لا بل وتشارك في تدمير حواضره وتهجيره وتفكيك مجتمعاته..
ولعل هذا ما ينبغي أن يدفع الجميع لا سيما تلك الفئات الشعبية العربية التي وقفت موقفا سلبيا من ثورة الشعب السوري؛ إلى إعادة النظر في مواقفها وتصحيح نظرتها والتمييز بين الحركة الشعبية المضطهدة والمستهدفة وهي التي دفعت التضحيات الباهظة؛ وبين تلك القوى الحزبية والميليشيوية التي خربت صفوف الحركة الشعبية نيابة عن مموليها ورعاتها والأجهزة التي تحركها وهي التي تقبض أثمان تلك التضحيات: أموالا طائلة وامتيازات ومكاسب ومناصب على حساب دماء السوريين ومعاناتهم..
كما يقتضي هذا أيضا من القوى الشريفة والمستقلة تعديل مساراتها باتجاه التنظيم والتوحيد ورفع الصوت لتصحيح أي انطباع خاطئ عن الثورة وخلفياتها وبما لا يسمح لأية قوة معادية إقليمية أو دولية باستغلالها وتجيير تضحياتها لمصالح فئوية وأخرى أجنبية مشبوهة تصادر إمكانيات سورية وتحتل أراضيها وتتقاسمها..
وإذا كانت الحاجة إلى التصويب والتنظيم والتوحيد ضرورة لإعادة الوهج الى الثورة والمطالب الشعبية؛ فهي أيضا ضرورة لإعادة دمج أكبر عدد ممكن من الفعاليات الشعبية في مسار حركة المطالبة بالتغيير وإبعاد السلبية والإحباط من نفوس الكثيرين من أبناء شعبنا المخلصين ولا سيما أولئك الذين دفعوا ثمنا غاليا من أبنائهم ونفوسهم وممتلكاتهم فأصابهم كثير من الإحباط نتيجة المتاجرة بالثورة والارتزاق باسمها وانحراف البعض عن مسارها الوطني الحر الشريف..
وفي طليعة القوى الشعبية المطالبة بالتصحيح والتنظيم والتوحيد كل الفعاليات الفردية والجمعية التي تلتزم العروبة هوية واحدة للشعب السوري فليس خافيا العداء لهذه الهوية وتاريخها وثقافتها وقيمها لدى بعض القوى بما فيها بعض من يطالب بالتغيير ويسعى إليه..
إننا في ملتقى العروبيين السوريين إذ ندرك ضخامة الأخطار المحدقة بالهوية العربية لسورية بل بوجودها وطنا واحدا موحدا لجميع أبنائه؛ ندرك معا خطورة الحصار والتهميش والعداء التي تحيط بكل صوت عروبي وطني توحيدي. فكأن كل قوى النفوذ والسلطان تستهدف سورية شعبا ووطنا وهوية حضارية..
وكل من وقف ضد الشعب السوري وتطلعاته لا يمكن أن يكون مع شعب فلسطين وقضيته. وإذا كانت الولايات المتحدة لا تزال تدعي حرصها على مطالب الشعب السوري أو عدم ارتياحها من سلوك النظام وممارساته فإن موقفها في فلسطين يبين كم هو مخادع منافق وخبيث موقفها من الشعب السوري وثورته.
بالذكرى الثالثة عشر للثورة لا بد أن نعيد النظر من خلال مراجعة شاملة لما جرى ويجري بمسار الثورة السورية وبالأنظمة العربية والإقليمية والدولية التي إدعت وقوفها لجانب ثورة شعبنا وكذلك على طبيعة الشخصيات التي تصدرت المشهد للثورة، لأن إستهدافهم الأكبر لسورية شعبا ووطنا وهوية حضارية..، وإن من خذل الشعب الفلسطيني بقضيته لا يمكن أن يكون مع شعبنا وثورتنا.