قراءة في رواية: عرش على الماء

أحمد العربي

محمد بركة روائي مصري متميز، رواية عرش على الماء هي العمل الأدبي الأول الذي اقرؤه له…

تعتمد الرواية أسلوب السرد بلغة المتكلم على لسان الشخصية المحورية فيها: مشهور الوحش، كما أنها تمتد أحداثها لعقود، حيث تبدأ أحداثها منذ أيام خضوع مصر للاستعمار الانكليزي وحكم اسرة محمد علي الذي كان الملك فاروق آخر حكام مصر منها، بعد ذلك حكم جمال عبد الناصر وأنور السادات وحتى حكم مبارك…

تبدأ الرواية بحديث الامام مشهور الوحش عن نفسه وأنه في قصره في بريطانيا، تحفّه النساء من كل جانب، رجل مهووس بالجنس يعيشه بشغف، يفكر به كل الوقت، يتصرف مثل محروم منه ، أنه ميراث جوع جنسي لا إشباع له…

هذه البداية تظهر أن الإمام مشهور الوحش هو الرجل الأول في الهيئة الدينية المصرية، وعلاقاته متصلة مع أعلى هرم السلطة  المصرية وبالتالي هو واحد من المجموعة المتنفذة ، خاصة وأنه لسان حال الهيئة الدينية المعتمدة في مصر…

تعود الرواية بعد ذلك لتدخلنا في حياة مشهور الوحش منذ طفولته الأولى في العقود الأولى في القرن الماضي، أنه ابن أحد أعيان البلدات المجاورة لمدينة طنطا المصرية، ووالده يفكر ان يجعل ابنه يحصل على التميز الاجتماعي عبر إدخاله في السلك الديني، وكانت البداية من دفعه إلى الكتّاب في القرية حيث يتعلم العربية ويختم حفظ القرآن الكريم على يد شيخه، وبعد ذلك يدفعه والده الى مدينة طنطا ليدخل في أحد معاهدها الدينية التابعة للأزهر والتي تؤهله للحصول على صفة الإمام والدخول في سلك رجال الدين المؤهلين في المساجد والمعاهد …

لم يخفي مشهور الوحش منذ بداية دخوله في المراهقة هوسه الجنسي بحيث يعيش انفعالاته وبالتالي تصرفاته الجنسية منذ مراهقته الى سن الكهولة باندفاع وشغف، لم يكن دخوله السلك الديني والمشيخة إلا ورقة توت تستر حقيقة هواه وشغفه. بل ستكون بعد ذلك مدخله كشيخ وأمام ان يستغل جبّته الدينية وعلمه ليصل الى كثير من النساء جئنّ لأجل أن يحل مشاكلهم مع ازواجهم او بعد الطلاق أو الترمل او عدم الانجاب… الخ، لتكون صيدا سهلا له يعيش معهنّ متعته الجنسية الحرام…

في المعهد الديني تدرج في التعلم وكان من المتفوقين، كانت توجيهات والده له، أن يبقى عينه على الافضل وان يفكر في ان يكون اماما أكبر في مصر كلها، وأن يعمل لذلك…

عمل مشهور بنصيحة والده وواظب على إشباع متعته الجنسية واكمال تحصيله الدراسي، وفي احدى زيارات والده له في طنطا حيث يدرس، اكتشف وجود امرأة تقوم على خدمته، أدرك والده أن تلك المرأة تقوم بواجبات البيت، كما تلبي غرائز ابنه الجنسية أيضا. لذلك قرر والده ان يزوجه، وهكذا حصل بعد أول زيارة له للبلدة، عاد ومعه زوجته، التي لم تعصمه عن هوسه الجنسي. لكنها بدأت تأتيه بالاولاد تباعا، كان اول ولد له مُعاق يقال له بهلول يعني قواه العقلية لم تكن سوية، كان سعيدا عندما توفي ذلك الابن الذي كان يحسّه عبئا عليه وعقبة في وجه طموحاته…

على مستوى المعهد الديني كان مشهور متميزا بين زملائه ومنافسيه الآخرين، وفي يوم اختلف الحكم الملكي مع الإمام الأكبر الديني، وانحاز المعهد للإمام وبدأت المظاهرات والخطب والتحشيد ضد الحكم، كان مشهور على رأس الناشطين، اعتقله الأمن السياسي المرتبط بالانكليز المستعمرين، وضعوه أمام خيار أن يتم سجنه وطرده من المعهد أو يكون تابعا لهم مخبرا ومسيرا وفق أجندتهم، وهو من خلفيته الانتهازية وجدها فرصة ليكون واحدا من المحظيين في عمق السلطة الخفية للدولة المصرية والانكليز، وبدأ يسطع نجمه ويعمل وفق التوجيهات التي تأتيه من مشغّليه اولا بأول…

تخرج مشهور الوحش من المعهد واصبح شيخا معمما معتمدا من الدولة، لم يتابع تخصصه العلمي الديني بل دخل سلك الائمة مباشرة، وهناك جاءته فرصة اخرى وهي ان يلقي كلمة دينية في الإذاعة المصرية وبذلك اصبح اقرب للمسؤولين من جهة وحيث تمكن اولا باول من صناعة حضور عند الجمهور وأصبح له اسمه وسمعته…

 جاءت ثورة تموز بقيادة جمال عبد الناصر والضباط الأحرار، وسقطت الملكية ورحل المستعمر الإنجليزي وحصلت مصر على استقلالها، لكن مشهور الوحش لم ينقطع عنه مشغّلوه، حيث استمروا بالتواصل معه وتوجيهه إلى ما يجب فعله وقوله. لم يكن الغرب راضيا عن عبد الناصر ودوره التحرري والقومي والاجتماعي، ولا تقاربه مع السوفييت أعداء الغرب، وحتى عندما خاض معركة تأميم قناة السويس ودخل السوفييت لدعم قراراته، ودخلت امريكا لتحجيم الانكليز والفرنسيين. لم يتغير شيء عند الإمام مشهور فقط تغير مشغله، واستمر يعادي كل أعمال عبد الناصر على أنها مخالفة للشرع الاسلامي ويعمل مشهور لخدمة الأمريكي، لكن بأسلوب ملتبس لا تجعله تحت المحاسبة. واستمر يقوم بدوره حتى وفاة عبد الناصر ومجيء أنور السادات رئيسا جديدا لمصر. كان السادات مهووسا بمخالفة كل ما فعله عبد الناصر في كل المجالات لذلك احتضنته أمريكا. ابتعد عن السوفييت، خاض معركة أكتوبر ليعلن نفسه الرئيس المنتصر على الصهاينة، وأعلن نفسه الرئيس المؤمن، افرج عن الإسلاميين الذين كانوا في المعتقلات، وانفتح على دول الخليج التي كانت على عداء مع عبد الناصر وحكمه. لقد كان الإمام مشهور في قلب كل ذلك، لقد كان يلتقي بالسادات شخصيا ويتبادلون الأحاديث حول كل شيء. لقد اصبح الامام مشهور الوحش صاحب المسؤولية الدينية الأولى في مصر. صار يأخذ توجيهاته من الامريكي سرّا و بالتوافق مع السادات وطابت له الدنيا بكل عطاياها. وزاد على ذلك ارساله الى السعودية ضمن بعثة دينية جعلته على تواصل مباشر مع الإسلام السلفي المختلف مع الإسلام المذهبي المتواجد في مصر، ومع أرباب الحكم هناك ، وسرعان ما خلع الجبة وارتدى اللباس القصير على طريقة اهل السلف، وهناك اعتمدته اجهزة الدولة السرية وأصبحت توجهه لما يجب ان يفعل ولم تبخل عليه من أعطياتها الوفيرة…

على المستوى العائلي انجبت له زوجته توأم اسماهما الحسن والحسين وابنة وختمها بولده الأصغر الذي كان قرة عين أبيه. لم يبتعد التوظيف الانتهازي عن عقل الإمام مشهور في تربية أولاده فقد دفع ابنه الحسن ليكمل دراسته الدينية الاختصاصية. وجعل ابنه الحسين ملازما له كظله في كل امور حياته يعينه على تسيير أموره..

 لم يتوقف عن الغب من ملذات الدنيا مال وجنس وسمعة وحظوة وخير كثير. ساح في كل الدنيا. وأصبح مرجعا دينيا ومجتمعيا يسبقه اسمه حيث يذهب. توطدت علاقته مع السادات، وكان يبرر له كل مواقفه ويدعمه بها. حرب العبور والانتصار المدّعى والدعوة للسلام وزيارة الكيان الصهيوني، ومن بعد ذلك قتله على منصة النصر، لقد نصّبه شهيدا. ولذلك كان مقبولا من مشغليه ومن الرئيس مبارك الذي جاء بعد السادات وريثا لحكم مصر…

كان أهم ما يشغل الإمام هو مزيد من تراكم الثروة والسلطة الدينية بين يديه ومزيد من المحظيات اللواتي لا يشبعنّ نهمه الجنسي المتجدد حيث يكون وحيث يعّدْن إليه شبابه وشغفه وامتلائه من الحياة…

تنتهي الرواية والإمام مشهور الوحش مالئ الدنيا وشاغل الناس مستقر في قصره في لندن، محظيته بجواره تجدد حياته. مطمئن على ميراث مشيخته بتعيين ابنه الحسن في منصب ديني رفيع في مصر. كان منافسا له بداية ثم أصبح استمرارا له…

نعم لقد صدق الرؤيا التي جاءته ووضع في يده خاتم منقوش عليه عرش على الماء. فها هو إله صغير في ملكوت الدنيا يشبه نفسه بالله جل جلاله الذي بنى عرشه على الماء كما في تفسير الشعراوي للآية القرآنية :: هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍۢ ثُمَّ ٱسْتَوَى عَلَى ٱلْعَرْشِ ۚ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِى ٱلْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ۖ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُون بصير. صدق الله العظيم.

في التعقيب على الرواية اقول :

أنني منبهر من اسلوب الكاتب محمد بركة الذي يزاوج بين السرد بصفته مفتاحا للموضوع وتبيانا للمحتوى وبين أسلوب السخرية المرّة التي نجح باستخدامها على أفضل وجه في إظهار ما أراد توصيله من الرواية عبر التداخل بين الظاهر والباطن والتوظيف العميق لأداء الشخصية المحورية للرواية ووضع ما أراد توصيله تحت الضوء وفي النور…

كما نجحت الرواية في إظهار دور ما نسميه فقهاء السلطان المتواجدين في كل عصر حيث يلبسون جبة الدين ويدعون انهم يمثلونه ويعبرون عنه. وهم بالعمق وفي واقع الحال يخدمون السلطان وضمنا يخدمون مصالحهم الشخصية واهوائهم وامراضهم وعقدهم الجنسية والمجتمعية…

لقد استطاع مشهور الوحش كإمام أن يعبر الأزمان ويكون مرجعا دينيا أيام  حكم الانكليز بوجود الملك الدمية وفي مرحلة عبد الناصر وأن يعتمد التقية والمداراة وفي مرحلة السادات وبعده مبارك ويحول هزائمهم وخيانتهم إلى انتصارات موهومة. كلهم زالوا اما هو فقد استمر وهذه نهاية ذكية للرواية بأن الانظمة تذهب وتتغير أما فقهاء السلطان فلا يزولون يتغيرون ويقومون بذات الدور الذي يخدم مصالحهم ومصالح الحاكم ومصالح القوى الدولية المتحكمة بهم ودولهم وأنظمتها الحاكمة…

وهذا يدفعنا الى العمل بكل قوة لاخراج الدين الإسلامي من البازار السياسي. يستخدمه الغرب والحاكم وفقيه السلطان كذلك دعاة الاسلام السياسي وكل يفكر ان يطبق شرع الله. وواقع الحال مزيد من استخدام الدين سلاح بيد البعض  واستثمارا بيد البعض وبكل الأحوال هو اداة منفعة يخدم مصالح لا تؤدي بالضرورة لتحقيق جوهر الأديان وهو الانتصار لحقوق الإنسان والحفاظ على كرامته وحريته وتحقيق العدالة والديمقراطية الشورويّة وتأمين الحياة الأفضل لكل الناس…

لنحرر الدين من مستغليه ونتحرك مباشرة مع الناس وعبرهم لتحقيق هذه الأهداف الحقة والمشروعة…

مهم جدا ان نرى مصر ام الدنيا تحت المتابعة من صناع السياسة العالمية كل الوقت وان كل المتغيرات فيها وعبرها تكون لمصلحة الحكام العالميين للنظام العالمي. ولو حصلت متغيرات من الشعوب او الحكام لغير مصلحة النظام العالمي، سرعان ما تعود الأمور إلى نصابها عبر استخدام القوة العنيفة او السياسة او القوة العسكرية. وحتى لو ثارت الشعوب فهناك من يخدم الغرب لإسقاط هذه الثورات…

أليس هذا ما حصل مع ربيعنا العربي في كل البلدان التي حصل بها، بما فيها مصر امنا ام الدنيا..؟!!.

شكرا لك صديقي محمد بركة الروائي المبدع…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى