لطالما كان التهجير والتدمير والمراقبة المستمرّة جزءًا من خطة إسرائيل لمرحلة ما بعد الصراع في القطاع.
* * *
مع دخول الحرب على غزة شهرها السابع من دون أي نهاية في الأفق، يبدو المراقبون الإسرائيليون والدوليون منزعجين ومحبطين من مسار الصراع والنتائج المحتملة. ويبدو أنه لا شيء يسير وفقًا للخطة، في ظل تواتر عبارات من قبيل “الهزيمة” و”الحرب الأبدية”. وقد ازداد القلق في إسرائيل من أن تتحوّل إلى دولة منبوذة. وفي الأثناء، يواجه سكان غزة ظروفًا إنسانية يصعب تصوّرها وتبقى حاجاتهم غير ملبّاة، بينما لا يمكن حتى البدء في الحديث عن إعادة إعمار القطاع. وبذلك، تكون حالة الانزعاج والإحباط مفهومة. لكن المفاجأة غير مبرَّرة إلى حدٍّ كبير: كل شيء يسير وفقًا للخطة.
فما هي هذه الخطة؟ لقد عبّرت إسرائيل بوضوح منذ البداية عن أهدافها الاستراتيجية المتمثّلة في القضاء على قدرات “حماس” العسكرية وإنهاء حكمها. وكان من المقرّر تحقيق هذه الأهداف المبهمة من خلال مجموعة من الوسائل التي نوقشت بصورة علنية، والتي تشمل التهجير الجماعي لسكان غزة لفترة غير محدّدة من الزمن، وإلحاق ضرر كبير بالبنى التحتية، ووقف عمل وكالات الأمم المتحدة التي وفّرت الخدمات التعليمية والاجتماعية لعدد كبير من سكان غزة.
شكّل القضاء على “حماس” هدفًا طموحًا، لا يتحقّق بصورة نهائية بل تتمّ إدارته باستمرار: كان المسؤولون الإسرائيليون واضحين منذ البداية بأنهم يتوقّعون نشر القوات الأمنية الإسرائيلية في غزة إلى أجل غير مسمّى. وقال مسؤولون، في حديث غير علني -ردّد فحواه مسؤولون سابقون بشكل رسمي- أنهم يرجّحون حدوث وضع شبيه بالمنطقة “ب” في الضفة الغربية. ولا يبدو أنهم يشيرون هنا إلى الأحكام الأساسية في اتفاقيات أوسلو، بل إلى الترتيبات الراهنة التي تتمتّع القوات الإسرائيلية بموجبها بحرية التنقّل الكاملة، بينما تعمل الهياكل المدنية للسلطة الفلسطينية ضمن الإطار الذي تتيحه الترتيبات الأمنية الإسرائيلية.
ولكن، كان ثمة منطق قوي يكمن وراء هذا النهج، على الرغم من العواقب الوخيمة الناجمة عنه: المحاولات السابقة للتوصّل إلى صيغةٍ ما للتعايش مع “حماس” باءت بالفشل، وتمّ ارتكاب سلسلة من الفظائع المروّعة. واعتمل تحت السطح شعورٌ بأن إسرائيل منخرطة أساسًا في “حرب أبدية”، سواء شاءت ذلك أم لا. ولذلك، تمحورت الخطة حول كيفية إدارة هذا الوضع في المستقبل المنظور.
بالنظر إلى المناخ السائد في إسرائيل، يواجه الذين يؤيّدون تبنّي نهجٍ مختلف معارضة قوية. فيعتبر بعض القادة الإسرائيليين الحديث عن حلّ الدولتَين غير مقبول، بينما يرى البعض الآخر أنه انتهى وعفا عليه الزمن. حتى أن فكرة عودة السلطة الفلسطينية إلى غزة مرفوضة من جانب مسؤولين إسرائيليين. وبينما قَبِل بعض الوسطيين وأصحاب المواقف الأقل تشدّدًا على مضض بفكرة العمل مع السلطة الفلسطينية باعتبارها خطوةً “براغماتية” و”واقعية”، كانت الشروط الموضوعة غير عملية، إذ تجعل من القادة الفلسطينيين ليس أكثر من مقاولين من الباطن بدل أن يكونوا بناة دولة.
يُفترض أن أولئك الذين يشتكون من افتقار إسرائيل إلى خطة “لليوم التالي” في غزة، قد قرأوا وسمعوا كل ما سبق. لكن مَن رأى أن الأحداث التي شهدناها خلال الفترة الممتدّة من الخريف الماضي وصولًا إلى الربيع الحالي تنمّ عن غياب التخطيط الإسرائيلي للمرحلة المقبلة أخطأ في التقدير. إن ما يحصل الآن هو في حدّ ذاته خطة المرحلة المقبلة، إلّا أنها ببساطة لم تتضمّن أي اعتبارات متعلقة بسكان غزة. لم تكترث إسرائيل بمسائل الحوكمة والخدمات الاجتماعية وأمن السكان في القطاع (خلافًا للأمن الإسرائيلي)، وكان لا بدّ من أن يوفّر آخرون هذه الخدمات، تحت إشراف إسرائيل وموافقتها.
بعد مرور أكثر من ستة أشهر على اندلاع الحرب، تلاشت معظم سيناريوهات مرحلة ما بعد صراع التي نوقِشَت خلال المراحل الأولى، ومن بينها نشر قوات دولية أو إقليمية لحفظ السلام، أو تشكيل حكومة انتقالية لإدارة غزة ربما تُشرف عليها الأمم المتحدة. وما يحلّ محلها الآن هو شعورٌ بأن الحرب قد تكون انتهت على مستوى تنفيذ عمليات عسكرية كبرى بشكلٍ متواصل. لكن التطوّرات الأخيرة، بدءًا من تأخير -أو حتى إلغاء- العمليات العسكرية في رفح، مرورًا بالضغوط الأميركية العلنية، والتراجع الملحوظ في عديد القوات المقاتلة الإسرائيلية في غزة، وصولًا إلى الوعود بزيادة حجم المساعدات الإنسانية، تشير كلّها إلى أن إسرائيل ربما تتّجه نحو عمليات أقل حدّةً قد لا تشمل تهجير مئات الآلاف من السكان.
وهكذا، سواء أكان هذا هو “اليوم التالي” للصراع، أو أنه لن يكون للصراع “يومٌ تالٍ”، أو كان هذا هو “الطبيعي الجديد”، يبقى الوضع بوضوح كما يلي: غزة مدمّرة وتعتمد اعتمادًا كبيرًا على المساعدات الإنسانية، بينما تحتفظ بإسرائيل بالسيطرة العسكرية من دون نيّة في الانسحاب. وقد تحوّلت مناطق واسعة من غزة إلى مناطق عازلة غير صالحة للعيش، ما جعل القطاع فعليًا “مخيّمًا كبيرًا” للاجئين، فيما أصبح سكان القطاع يعتمدون بالكامل على المساعدات التي تقدّمها وكالات الأمم المتحدة. وربما يكون حُكم “حماس” ما قبل الحرب قد دُمّر بشكل فعّال، إلا أن المنظمة يبدو أنها ما تزال تحتفظ بقدرةٍ على شنّ هجمات مُزعزعة للاستقرار، وإن كانت محدودة، وعلى التخلّص من منافسيها المحتملين على الحُكم المحلي في غزة.
أشار تقرير التقييم المرحلي المشترك الصادر عن الاتحاد الأوروبي، والبنك الدولي، والأمم المتحدة، إلى أن خسائر مُقدَّرة بـ18.5 مليار دولار لحقت بالبنية التحتية المُقامة في غزة، بما يعادل 97 في المائة من مجموع الناتج المحلي الإجمالي للضفة الغربية وغزة في العام 2022. وقد أصبحت غالبية الفلسطينيين في غزة الآن تعاني “فقرًا متعدّد الأبعاد” (الوصول إلى الصحة والتعليم، والتوظيف، والسكن، والسلامة والحرية الشخصية، والفقر المالي)، ناهيك عن أن 90 في المائة من وظائف ما قبل الصراع فُقِدَت، بحسب منظمة العمل الدولية. أَضِف إلى ذلك أن عملية إزالة القنابل غير المنفجرة ستستغرق سنوات من الزمن. وفي أسوأ الاحتمالات، إذا نما الاقتصاد بنسبة 0.4 في المائة في السنة، كما كانت الحال في السنوات الأخيرة، فيتوقّع مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية أن تحتاج غزة إلى “سبعة عقود، أي حتى العام 2092، لتعود فقط إلى مستواها الاقتصادي في العام 2022”. هذا ولم توضَع قيد الإعداد حتى الخططُ اللازمة لإرساء إطارٍ لإعادة الإعمار في القطاع.
كذلك يُعَدّ الوضع في الضفة الغربية مأساويًا هو الآخر، وإن لم يكن في بؤرة الاهتمام، حيث تُسجَّل مستوياتٌ غير مسبوقة من مصادرة الأراضي. فالخطّة الصريحة التي وضعها وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش لتحويل فلسطين إلى بانتوستانات تتكشّف من دون عوائق، فيما لا يدعم أيٌّ من الأفرقاء الإسرائيليين اليوم إقامة دولة فلسطينية. وحتى إن حصل تغيير في الإدارة الأميركية، فالذين قد يصوغون السياسة العامة سبق أن تخلّوا علنًا عن فكرة إقامة دولة فلسطينية، وينادون من دون مواربة بنموذجٍ على شاكلة “غوام وبورتوريكو”.
وقد أصبح واضحًا اليوم أن “إعادة تنشيط السلطة الفلسطينية” لن تحصل، حتى ولو كان هذا السبيل إلى مستقبل أفضل، إذ يبدو أن “إعادة التنشيط” لا تعني شيئًا أكثر من مجرّد جلب قادةٍ شبابٍ جُبِلوا من الطينة نفسها التي جُبِل بها القادة الأكبر سنًّا، مع إحداث بعض التغييرات في السياسة تلبيةً لمطالب الإسرائيليين الذين لم يثقوا قطّ بعملية أوسلو في تسعينيات القرن الماضي. والنتيجة ستكون وجود حكومة جديدة في رام الله، ولكن أجندتها تشبه أهداف الإصلاح التي أعلن عنها رئيس الوزراء الفلسطيني السابق محمد اشتية قبل استبداله. لا تزال إذًا الأدلّة على حدوث تغييرٍ في آفاق الحكم الحقيقي للسلطة الفلسطينية في غزة قليلةً جدًّا حتى الآن. ثم إن العلاقات بين “حماس” وفتح ليست آخذة في التحسّن، والتسابق على السلطة داخل فتح نفسها لم تخفّ حدّته. وطالما أن إسرائيل تعترض فعليًا على إجراء انتخابات في فلسطين، من الصعب أن نتصوّر كيف يمكن أن تستعيد السلطة الفلسطينية الشرعية الديمقراطية. هذا وتبقى مشكلة خلافة الرئيس قائمة، لا بل إن إمكانية حلّها من خلال الانتخابات، في حال حصول شغور رئاسي، أصبحت اليوم أكثر تعقيدًا. إذًا، مَن يتحدّثون عن “إعادة تنشيطٍ” ليس لديهم أيّ خطة لإيقاف الانحلال الحاصل في السلطة الفلسطينية.
إذًا، نظرًا إلى الاستيلاء العسكري الإسرائيلي على غزة، ومستوى الدمار هناك، إلى جانب العنف المتواصل والضمّ المتزايد للأراضي في الضفة الغربية، من اللازم تكرار أن ما يلوح في الأفق لا يشبه يومًا تاليًا للصراع بقدر ما هو أشبه بشفقٍ طويل الأمد من التفكّك واليأس.
*ناثان ج. براون: أستاذ العلوم السياسية والشؤون الدولية في جامعة جورج واشنطن، وباحث مرموق، ومؤلّف ستة كتب عن السياسة العربية نالت استحساناً.
*فلاديمير بران: مستشار حول العمليات الانتخابية والسياسية الفلسطينية لدى المعهد الديمقراطي الوطني، والمؤسسة الدولية للنظم الانتخابية، والاتحاد الأوروبي، والأمم المتحدة.
المصدر: (كارنيغي الشرق الأوسط) /الغد الأردنية
قد لا يعبر هذا المقال عن رأي الموقع
مع إستمرار الحرب المتوحشة القذرة لقوات الإحتلال الصhيوني للشهر السابع بدون أي نهاية في الأفق لا يشبه يومًا تاليًا للصراع بقدر ما هو أشبه بشفقٍ طويل الأمد من التفكّك واليأس، قراءة موضوعية لأجندة قيادة الإحتلال الصhيوني تجاه غزة واليوم التالي، وتصريحاتها بإعادة تنشيط منظمة التحرير ليس سوى تبديل كبار السن بشبان بذات المضمون.